أسس وقواعد جيوسيايسية جديدة
بالرغم من أنّ حرب العراق لم تبد بعد سنة من انطلاقها شيئا من المفعول الثوري الانتشاري الذي كان يعد به أنصارها من الأميركيين، فإنها مع ذلك قد غدت تمثل ثورة جيوسياسية في منطقة الشرق الأوسط. لأول مرة في تاريخ ما بعد الاستعمار يتم غزو واحتلال بلد عربي من قبل قوة أجنبية عن المنطقة دون أن يكون للبلدان المجاورة من دور يذكر قد لعبته في هذا الحدث. وأقصى ما كان لها من أهمية إنما استمدته من موقعها كمراكز مدَد وتموين أو كعوائق أمام الانجاز السريع للمخططات الحربية الأميركية.
داخل العلاقات الاستراتيجية المستجدّة بالشرق الأدنى والأوسط هناك ثلاث مواضيع محورية تستقطب الأهمية : بنية القوى الجهوية، ومستقبل المؤسسات والتنظيمات المحلية وكذلك حظوظ مشاريع التنظيم الخارجية.
حسابات قوى تجاوزتها الأحداث
ننطلق هنا من الاعتقاد بأن الولايات المتحدة الأميركية، وبالرغم من المقاومة التي يلقاها حضورها العسكري لن تغادر في المستقبل القريب العراق ولا المنطقة بصفة عامة. وبما أن الولايات المتحدة قد غدت تمثل في الأثناء القوة العسكرية الأكبر في الشرق الأوسط، لا في مجال الطيران فحسب، بل على الأرض أيضا، فإنّ جزء كبيرا من التقديرات التقليدية للقوى في المنطقة سيجد نفسه متجاوزا؛ تلك الجدولة المفضلة سابقا حول معادلات موازين القوى العسكرية في الشرق الأدنى والأوسط والتي يتم فيها وضع دبابات سورية في مواجهة الدبابات الإسرائيلية أو طائرات القنص الحربية الإيرانية ضد الأخرى السعودية.
هذه الإحصائيات لم تعد لها من قيمة كعوامل لتفسير المسارات السياسية على الأقل. وفي الواقع ستصبح مقدرة القوى المحلية على تحسين مواقعها داخل الموازنات السياسية أكثر أهمية بكثير من السعي إلى حيازة نوع معيّن من الأسلحة.
داخل هذا الإطار ينبغي أن يُرى إلى الجدال حول أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط. ولئن كانت الضغوطات الأميركية والأوروبية في هذا المجال ليست دون أهميّة؛ لكنّ الأهم من ذلك بالنسبة لدول مثل ليبيا وإيران أو العربية السعودية وسوريا هو أن تغدو مثل هذه الأسلحة في إطار هذه العلاقات غير ذات فعالية، ولا حتى لردع خصم متفوق، أو أقل من ذلك كوسائل للهيمنة السياسية على الصعيد الجهوي.
غياب قوى السيطرة الجهوية
يبدو أنّ التغيير الأكثر أهمية في بنى تقاسم السيطرة داخل النظام الجهوي يكمن في أنّه لن تكون هناك وإلى تاريخ غير محدّد دولة ستلعب دور القوة المهيمنة في المنطقة بعد. لن يغدو بإمكان أية من تلك القوى الجهوية المحتملة في ما مضى – مصر أو العربية السعودية أو حتى إسرائيل- أن تهيمن على المنطقة بصفة مستقلّة أو أن تلعب دور الممثل للولايات المتحدة هناك، وسيجد الجميع أنفسهم مجبرين على تحديد سياساتهم على ضوء الحضور المباشر لـ"الجار" الأميركي الجديد. كما ستوضع علاقات الدول الصغيرة والضعيفة مع الولايات المتحدة عمليا على نفس المستوى مع القوى الوسطى للمنطقة ومن دون وساطتها.
هكذا فإنّ العربيّة السعودية قد فقدت بصفة واضحة تماما مكانة القوة الجهوية المهيمنة التي كانت لها في السبعينات والثمانينات من القرن العشرين على نطاق شبه الجزيرة العربية. في ما مضى كانت الدول الصغيرة لمجموعة مجلس التعاون الخليجي لا تقدم على القيام بأية خطوة ذات أهمية في السياسة الخارجية كما في السياسة الداخلية دون أن تكون قد أدرجت مسبقا الرغبات والاعتبارات السعودية ضمن مشاريعها.
وما كان لحاكم البحرين مثلا أن يضع نفسه حينئذ كملك على نفس المستوى مع العاهل السعودي أو أن يقدم على إجراء انتخابات في بلده؛ وما كان لإمارة دبي أن تؤسس "منطقة إعلام حرّة" يجد فيها حتى المستثمرون السعوديون فسحة للتمتع بحرية الصحافة. لقد غدت هذه الدول الصغيرة اليوم تتجه بأنظارها إلى الولايات المتحدة الأميركية لا إلى السعودية عندما تكون منشغلة بكيفية ردّ فعل الآخرين على مبادراتها أو مشاريعها السياسية. ومن جهتها تتابع القيادات السعودية بشيء من الانتباه ما يحدث لدى الجيران الصغار في مجال السياسة الداخلية – من أجل سبر خيارات إصلاحية لبلادها أساسا.
توجهات مؤسساتيّة جديدة
لقد تقلّص التأثير المصري على المنطقة بدوره. بعد حرب الخليج لسنة 1991 كان ما يزال هناك حديث عن دور أمن سياسي للقاهرة في منطقة الخليج، أما اليوم فلا أثر لمثل هذا الكلام. سيكون على مصر بالتالي أن تركز على لعب دور بناء داخل نطاق المحيط المجاور لها مباشرة، وإن كان ذلك الدور لا يتعدى مهمة الوسيط بين الإسرائيليين والفلسطينيين، أو بين مختلف المجموعات الفلسطينية.
وإنه لأمر ذو دلالة أن لم يكن لمصر أيّة مساهمة في مسار التسوية التي حصلت بين ليبيا والولايات المتحدة وبريطانيا، كما أنه لم يتمّ إدماجها في مباحثات السلم السودانية بالرغم مما يمثله هذا الموضوع من أهمية أمنية سياسية قصوى بالنسبة للقاهرة. الأمر نفسه أو ما يشابهه ينطبق على سوريا أيضا التي تبدو هيمنتها على لبنان تقترب من نهايتها وذلك بسبب من الضغوطات الأميركية والأوروبية وفي الوقت نفسه كنتيجة لتهلهل الفحوى الإقناعية لمحاولاتها تبرير سيطرتها على جارها اللبناني باستدعاء الانتباه إلى الوضع الأمني السياسي بلبنان أو بالشرق الأوسط.
غالبا ما سبق أن تكرر الحديث عن موت الجامعة العربيّة، إلاّ أنّ حرب العراق وتبعاتها قد تكون أضعفتها لمدى بعيد من الزمن وأقصتها من للعبة كعنصر مشارك في تنشيط الحياة السياسية بالمنطقة. ولم يكن تأجيل القمة التي كان من المفترض انعقادها في أواخر شهر مارس/آذار إلا تأكيدا إضافيا لهذا الأمر. قد يساهم هذا الوضع في تعديل وجهة بعض المنظمات المحلية أو الجهوية أو في خلق منظمات جديدة شبيهة بها تكون خلافا للجامعة العربية، غير موجهة ومحددة باعتبارات عرقية بعينها (القومية العربية مثلا)، بل بحسب مصالح وظيفية مشتركة.
مثال على هذا الاتجاه الذي تتطور إليه الأمور هي اللقاءات المتعددة للدول المجاورة للعراق. هذه المجموعة التي تنتمي إليها بلدان مجاورة عربية وغير عربية على حد السواء قد تم التئامها لأجل هدف محدود لكنه ملموس، وهو السعي إلى إيجاد صيغة اتفاق حول سياسة لهذه البلدان تجاه حرب العراق وما ينجر عنها من تبعات. وإنه سيكون مفيدا دون شك لو أنّ مجموعة الرباعي العالمي للشرق الأوسط (الولايات المتحدة ومجموعة الوحدة الأوروبية وروسيا ومنظمة الأمم المتحدة ) تشكل مع هذا التجمع "مجموعة تداول من 6+4+1 من أجل العراق" (أي البلدان المجاورة، مع الرباعي العالمي والحكومة العراقية). سيكون من شأن هذا التكتل أن يتطور إلى قاعدة لديناميكية تنسيق أمني سياسي من أجل اتفاق تدريجي على وضع إجراءات لإعادة إرساء الأمن والثقة ثم وضعها على طريق التطبيق. وبطبيعة الحال فإنّ بعث منظمات جديدة إلى الوجود لا يجعل منها مباشرة أعوانا أفضل أو أكثر فعالية من تلك المنظمات الموجودة حاليا ؛ إنّ منفعتها العملية في مجال تفادي الأزمات وحلّ النزاعات تظلّ رهن ما ستبرهن عليه نشاطاتها.
مشاريع خارجية للنظام
بالرغم من الصعوبات التي يرى الأميركيون وحلفاؤهم أنفسهم مورطين فيها بعد حرب العراق فإنّ النقاشات العالمية تدور كثيرا حول مسائل التجديد وإعادة الترتيب ونظام جديد بالشرق الأوسط. وإنّ مفاهيم بديعة من نوع "الشرق الأوسط الكبير" و "مبادرة الشرق الأوسط الكبرى" غالبا ما تكون لها وظيفة التمويه وتحويل النظر عن واقع النقص في الأفكار الملموسة والوسائل الكفيلة بتوجيه هذه التغييرات في الوجهة المرغوبة. وإنّ العنصر"اللين" في الإستراتيجيا الشرق أوسطية لإدارة بوش، أو ما يدعى بمبادرة التعاون الشرق أوسطي(Middle East Partnership Initiative-MEPI) يبدو بصفة واضحة كمجرد نسخة عن مسار برشلونة للوحدة الأوروبية الذي يتميّز بالذات بامتداده الجغرافي الشامل واعتماداته المالية الضئيلة.
كما سيتابع الأعوان المحليون تفعيل بعض الطاقات الخاصة من أجل اختراق الاستراتيجيات والمشاريع التي يصممها المخططون الأجانب. وبصرف النظر عن ارتباطات التبعية التي تشدهم إلى القوى العظمى الدولية فإنّ هذه الدول تولي أهمية كبرى للأحداث المحلية والجهوية وهي بالتالي على استعداد، من أجل حماية مصالحها الخاصة المرتبطة بتلك الأحداث، لدفع مقابل أكبر بكثير مما يقدمه أيّ عنصر خارجي. وفي هذا المضمار فإن التطورات اللاحقة على حرب العراق تؤكد معاينة كان ليونارد بيندر قد أجراها قبل 45 سنة عندما اكتشف أنّ السلطة التي يتم إسقاطها على المنطقة من الخارج "تتحطم" حتما عن طريق ديناميكيات الأنظمة المحلية والجهوية. وقد وضح هذه الظاهرة خلال فترة الحرب الباردة علماء من أمثال ل.كارل براون وذلك عندما بينوا القدرة التي للأعوان المحليين على اللعب على مواجهة القوى الخارجية بعضها ببعض وعلى استدراجها بحسب مصالحها إلى حلبة النزاعات المحلية.
صحيح أنّ لا الولايات المتحدة الأميركية ولا مجموعة الوحدة الأوربية ستقبل حاليا بالانسياق إلى مثل هذا النموذج من السلوك، إلاّ أنّ ما يسمى بمحاربة الإرهاب من شأنه أن يمنح دول الشرق الأدنى والأوسط إمكانيات جديدة لسحب أميركا وأوروبا أو روسيا إلى حلبة نزاعاتها المحلية والجهوية. وإنّ وحدات الجيش الأميركية التي تقوم بمساندة الجيش الجزائري في معركته ضد الإرهاب بجنوب الجزائر، أو بملاحقة المشتبه فيهم كأنصار لحركة القاعدة باليمن قد تكون مجرّد بداية لهذا المسار.
السيكولوجيا السياسية والجيوسياسية
إن آفاق التنمية بالمنطقة ستتأثر بالنهاية أيضا بالمضاعفات السيكولوجية السياسية لحرب العراق. على مستوى عام يمنح سقوط نظام بغداد وجها للمقارنة مع سقوط جدار برلين. لكن بينما جاءت نهاية الأنظمة الشيوعية بأوروبا الوسطى والشرقية من صنع حركة شعوب تلك البلدان، فإنّ تماثيل صدام حسين ونظامه قد تمّت الإطاحة بها على يد جيش أجنبي. أية مضاعفات وتأثيرات ستكون لهذا الأمر على المدى البعيد على النفسية السياسية والثقافية للمجتمع العراقي كما للمجتمعات العربية بصفة عامة، فذلك ما لا يزال غير واضح. الأمر المتأكد الوحيد هو أنها ستكون ذات أهمية لا يستهان بها.
فولكر بيرتيس هو رئيس مجموعة البحث في شؤون الشرق الأدنى والأوسط وإفريقيا بمؤسسة العلم والسياسة ببرلين. صدر له مؤخرا كتاب "الحدائق السرية ؛ العالم العربي الجديد"(بالألمانية).
بقلم فولكر بيرتيس، صدر المقال في صحيفو نيوه تسورشر السويسرية
ترجمة علي مصباح
المزيد من مقالات فولكر بيرتيس بالإنكليزية هنا