هل هناك تضارب بين الهوية الإسلامية ومبدأ العلمانية الفرنسية؟
هل مسلمو فرنسا وبالتحديد مسلمو مرسيليا في حاجة إلى مفتي؟
صهيب بن شيخ: أود في البداية أن أِؤكد بأن الإسلام لا يعرف النظام الكنسي. كما أن من حمل لقب الإمام أو المفتي لم يكن تابعا للإكليروس بهذا المفهوم، بل كان بمثابة حارس وراعي بهدف تقديم الدعم والعون للناس في شؤون الإيمان دون أن يمارس ضغطا عليهم أو أن يصدر الأحكام عليهم بشكل ما أو بآخر.
إن فرنسا تتعامل مع الواقع المبني على كون الطائفة الإسلامية هي ثاني أكبر طائفة دينية في البلاد، وتبدي بالتالي موقفا ملتزما وناشطا فيما يتعلق بهياكل وتركيب الجالية الإسلامية. من هذا المنطلق عينت مفتيا لمرسيليا عام 1995 بعد أن أنهيت دراستي في جامعة السوربون.
من المعروف أن فرنسا دولة علمانية تكرس بصورة دقيقة الفصل بين الدين والدولة، ما هي الصعوبات المترتبة عن ذلك بالنسبة لمسلمي فرنسا؟
بن شيخ: خارج فرنسا وبصورة خاصة داخل البلدان الإسلامية بطبيعة الحال، يُنظر إلى العلمانية كما لو كانت مطابقة لانعدام الإيمان والإلحاد، ويستخلص من ذلك بأن الإسلام في فرنسا يفتقد إلى الآفاق المستقبلية. لكننا كنا سنفقد كياننا الديني دون وجود هذه العلمانية التي تتضمن "حيادية الإدارة". فالعلمانية تمتنع عن محاربة الدين بقدر امتناعها عن تدعيم أواصره.
يعني أنتم تعرفون العلمانية على أنها "حيادية الإدارة"؟
بن شيخ: هذا هو التفسير الدستوري للعلمانية في فرنسا. وينبغي التأكيد هنا بأن العلمانية تكرس مبدأ المساواة بيننا وبين الكاثوليكيين، أي أنها تمنحنا ذات الحقوق وتفرض علينا ذات الواجبات. بالإضافة إلى ذلك لا مفر من اعتماد الديموقراطية واحترام رغبة الأغلبية إذا كان المطلوب تنظيم الحياة وترتيبها في إطار مؤسسات الدولة.
ومحنتا تكمن اليوم في الاعتقاد السائد لدى الآخرين بكون الإسلام يشكل خطرا عليهم. فالكثيرون يخافون الإسلام لكون قلة قليلة من المسلمين تمارس الإرهاب باسمه. ولكن بفضل العلمانية والإعلان العالمي لحقوق الإنسان لا يتم تحميل كافة المسلمين مسؤولية مثل هذه الأعمال.
لدى الكثيرين من المسلمين صورة سلبية عن العلمانية. هل تعتقدون بأن تقبل الإسلام للعلمانية سيتحقق في يوم من الأيام؟
بن شيخ: لن يشكل ذلك مشكلة بالنسبة للمسلمين طالما تم تعريف العلمانية على أنها تعكس حياد الدولة بهدف وحيد هو النهوض بإدارة الدولة. بل أنني أريد أن أقول حتى إن الفصل بين الدين والدولة يعزز ويكرس الوجه الإلهي الروحي للإسلام ويمنع في نفس الوقت إساءة استخدام الدين كوسيلة لبسط النفوذ والسلطة. من خلال هذا المفهوم يعود الإسلام إلى جذوره الأصلية أي إلى رسالة "الإرادة" لا "الفرض"، فقد جاء في القرآن الكريم بأن الإيمان أو عدمه أمر متروك للناس أنفسهم.
تقول إن بوسع العلمانية أن تعيد القرآن إلى جذوره الأصلية من خلال قصر السلطة السياسية على أجهزة الدولة. هل كانت الأسس الأصلية للإسلام قريبة من مبدأ العلمانية؟
بن شيخ: علينا أن ندرك بأن أغلبية المدارس الإسلامية للفقه والتفسير وعلم الدين ظهرت خارج إطار السلطة السياسية. وكان المسلمون في شتى مراحل تاريخهم أحرارا في قرارهم بشأن الاتجاه الذي اتبعوه. لكن ظاهرة ازدياد الالتحام بين الدين والدولة في الإسلام أمر حديث ويشكل في نظري خطرا عليه. أسباب الخطر تعود إلى أن ذلك يدفع بعض التيارات والأحزاب إلى توظيف الإسلام في خدمة مطامعها السياسية كما يدفع الأنظمة الحاكمة إلى استخدامه وسيلة لتقوية مركزها.
تزعم بأن التقارب بين الدين والدولة في الإسلام أمر مستحدث، متى بدأ ذلك في الظهور؟
بن شيخ: بدأ ذلك في النصف الأول من القرن العشرين عندما تأسست للمرة الأول أحزاب سياسية مبنية على الدين هدفها بسط نفوذها السياسي على أوطانها. من أمثلة ذلك ظهور "جماعة الإخوان المسلمين" في مصر.
هل عاد ذلك إلى آراء ونشاط دعاة الأيديولوجية الإسلامية خاصة سيد قطب؟
بن شيخ: لقد بالغ سيد قطب في طرح أفكاره المتطرفة في كتابه "معالم على الطريق". وهذا يسري خاصة على موقفه تجاه "الجاهلية" في القرن العشرين والقانون الإلهي وفقدان الحكام للإيمان. لقد دفعت تلك الأفكار بعض المسلمين إلى التطرف وجعلتهم ينقادون تماما لآرائه.
ألا يشكل اندماج المسلمين في فرنسا في بوتقة الحضارة الفرنسية خطرا على هويتهم؟
بن شيخ: لو عدنا إلى التاريخ للاحظنا بأن الإسلام التحم دوما بحضارات أخرى. يأتي بالإضافة إلى ذلك أن العلمانية وفقا للمفهوم الفرنسي حياديةعلى وجه تام. إن بوسعنا أن نتجادل ونتحاور حول الحضارة الفرنسية المبنية في المقام الأول على جذور كاثوليكية دون أن يتسبب ذلك في جعلنا نفقد روحانية ديانتنا والقيم التي ندين بها.
أليست هذه القيم عرضة للتهديد من قبل العلمانية؟
بن شيخ: لا على الإطلاق. بل هذا تحد ينبغي أن نتعامل معه. هل نستطيع ضمان بقائنا والحفاظ على معتقداتنا حتى ولو افتقدنا إلى النفوذ السياسي؟ طالما ظل الإسلام مفهوما على أنه دين ينقذ الإنسان ويشع نورا في الأرض فإن الأمر لا يتطلب بتاتا تقلد سلطة كفيلة بفرضه إجبارا على البشرية. فالإسلام يظل باقيا حيا من خلال قيمه ومقاييسه ومثله العليا، ولا ينبغي بالتالي أن يفرض على الغير فرضا.
على الرغم من ذلك فإن الاحتجاجات القائمة ضد منع ارتداء غطاء الرأس في المدارس الحكومية دليل على وجود تضارب بين الهوية الإسلامية وفكرة العلمانية الفرنسية.
بن شيخ: العكس صحيح. فالاحتجاجات تُظهر فقط بأن الفرنسيين يعبرون عن آرائهم بحرية ودون تأثير خارجي. يأتي بالإضافة إلى ذلك أن المتظاهرين لا يتعدون كونهم أقلية داخل صفوف المسلمين الفرنسيين. أما الأغلبية فهي مع التسوية إدراكا منها بأن التطرف يشكل خطرا عليها نفسها. هذه التسوية معنية بمسألة الإظهار الاستعراضي للرموز الدينية في المدارس الحكومية. وفي واقع الأمر كان من حق الأغلبية الكاثوليكية في البلاد أن تعترض أكثر من المسلمين على هذه التسوية، لكونها هي أيضا تخضع لها. لكنها لم تحتج عليها.
ألفتم كتابا بعنوان "ماريانا(رمز فرنسا) والنبي. الإسلام في ظل العلمانية". ما هو جوهر الكتاب؟
بن شيخ: يتضمن الكتاب أبحاثا في شؤون القانون والفلسفة من شأنها مساعدة الإسلام على إيجاد موقع له في ظل مناخ سياسي مستجد، كما أنه يقدم إجابات غير متوفرة في كتبنا التقليدية.
على سبيل المثال؟
بن شيخ: يعيش المسلمون كأقلية في دولة حيادية دينيا حيث أنها بحكم العلمانية ليست دولة "كاثوليكية" وبالتالي فإنه لا "تملك" دينا بهذا المعنى. لهذا كان علينا أن نبحث عن طرق للتكيف مع هذا الوضع القانوني وجعله يتكيف أيضا مع معطيات حياتنا. هذه أمور جديدة بالنسبة للفكر الإسلامي، لهذا قمت بالتركيز عليها في كتابي.
أجرى المقابلة نوفريانتوني . الحقوق محفوظة لشبكة Liberal Islam Network.
الترجمة من الألمانية عارف حجاج
صهيب بن شيخ ولد في مدينة جدة في السعودية ودرس في جامعة الأزهر في القاهرة وألف كتاب "ماريانا والنبي - الإسلام في ظل العلمانية " عام 1998. وهو مفتي مرسيليا الكبير منذ عام 1995.