صورة مشوهة عن باكستان
الإعلام الألمانيّة قطار الأحداث بسرعة عندما أصبحت الأنظار متّجهة عالميّا إلى باكستان غداة عمليّات الحادي عشر من سبتمبر/أيلول وبصفة أخصّ بعد انطلاق الحرب في أفغانستان. ومن كان في تلك الأيام متواجدا في بيشاور في المقاطعة الحدوديّة بالشمال الغربي للبلاد كان بإمكانه معاينة مشاهد ما تزال ذات دلالة حتّى اليوم بالنسبة للتصور الأوروبي والأميركي عن أفغانستان:
كانت شوارع المدينة تشهد بصفة متكرّرة مظاهرات مناهضة للحرب تقوم بها مجموعات صغيرة من رجال أغلبهم من الملتحين تركض وراءهم كوكبة لا تقلّ عنها عددًا من المصوّرين وأصحاب الكاميرات التلفزيونيّة من البلدان الغربيّة.
طغت تلك الصور على شاشات التلفزيون بالخصوص، بينما كان البعض من الصحف أكثر نزاهة وأقرّت منذ البداية بأنّ الأمر لا يتعلّق في هذه التظاهرات الاحتجاجيّة سوى بأقليّة لا غير. ومع ذلك مازالت الصورة التي تقدّمها وسائل الإعلام عن أهمية الإسلاميّين الباكستانيين تتسم بالمبالغة كما لو أن المراسلين يتعمدون البحث عن هؤلاء خصيصا.
المراقبة من بعد
ليس هناك وسيلة إعلام ألمانيّة واحدة لديها مراسلون ثابتون في باكستان وذلك ما يلاحظه المرء من خلال أنباء وكالة الأنباء الألمانيّة (dpa) التي تزوّد مركزها بهامبورغ بتقارير صحفيّة لمتعاونين غير ثابتين عبر مكتب المراسلات من دلهي الجديدة. كلّ الصحف الألمانيّة وكذلك إذاعة ARD والمحطّات التلفزيونيّة المختلفة لها مراسلوها من المكلّفين بالمسألة الباكستانيّة إما في دلهي أو في عواصم آسيوية أبعد منها مثل بانكوك أو سنغافورة، وهم يقومون بزيارت منتظمة إلى باكستان، لكن هذه السفرات تكون بطبيعة الحال مرتّبة ومبرمجة حسب رزنامة محدّدة مسبقا ولا يمكنها أن تفضي إلا في حالات نادرة إلى معاينات وانطباعات عفوية ومتنوعة كما يمكن أن يتحقق للمعاينة الشخصية الدائمة.
يمكن أن تكون هذه النقائص في الهياكل الصحفيّة سببا هاما في جعل التقارير الصحفيّة حول باكستان تهمل عددًا لايحصى من الموضوعات؛ من خلال التقصّي الدقيق لمقالات وتعليقات الصحف الألمانيّة الكبرى منذ الحادي عشر من سبتمبر نجد أنفسنا أمام موضوعين يحتلاّن على الدوام صدارة الاهتمامات: الحركة الإسلاميّة والإرهاب من جهة، والصراع الهندي الباكستاني من جهة ثانية.
أمّا ما عدا ذلك من المواضيع فلا تتطرّق إليه إلا بعض المقالات النادرة. وحتّى إذا ما كنا لا نعتبر بأيّ حال أن أغلب المقالات المنشورة لم تكن نزيهة في عرض موضوعات تحقيقها، فإن هذه الطريقة الوحيدة الجانب في تحديد الأولويّات كافية لوحدها لكي تفضي إلى تكوين صورة مشوّهة فجّة.
"العصر الحجري الإسلامي"
إن طريقة المعاينة هي التي يمكن أن يعيبها المرء في العديد من الحالات على المبعوثين الصحفيّين. عندما يكتب المبوعوثون الغربيون عن التيار الإسلامي ودوره في باكستان فإنه غالبا ما يحدث أمران: أولهما هو غياب المعاينة الحقيقيّة، والتعويض عنها أحيانا بما يجود به الخيال:
يرى مبعوث "درشبيغل" الشرطة وهي توقف بعض الرجال من ذوي العباءات الفضفاضة ("طائفيون محتملون")، وسيتنتج من ذلك أنّ الأوضاع في إسلام اباد "مضطربة وملغومة بتوتّرات متربّصة بما يشبه لحظة ما قبل الإعصار."(در شبيغل-24 سبتمبر 2001 )
أمّا الأمر الثاني فيتمثّل في توخّي الانفصال والإقصاء: المبعوث الصحفي المذكور نفسه يزور مكانًا ما من مقاطعة الشمال الغربي ويلاحظ أنه يبدو "موجودًا في عالم آخر". وفي هذا المقال يرد الكلام عن "العصر الحجري الإسلامي" ؛ وهي صياغة من باب اللغو. أليست حركة الطالبان في بعض أوجهها على الأقل ظاهرة من صميم الحداثة ؟
وعلى العموم يترك المقال انطباعا لدى القارئ بمسافة فاصلة من غير الممكن تجاوزها وشعورا بأن "ليس هناك ما يمكننا أن نفهمه في هؤلاء الناس وهذه الحركات السياسية."
الأدمغة المحشوة بالإيديولوجيا
تمثل "المدارس" ( المدارس القرآنية) مكانا مبجلا بالنسبة للعديد من المبعوثين الصحفيين. لكنهم يتعمدون في ذلك اختيار تلك التي يمكن أن يجدوا فيها مادة لكتابة قصص مرعبة عن الأطفال الذين تحشر أدمغتهم بالإديولوجيات المتطرفة ويتم إعدادهم للاستشهاد. أما التقديرات الجدية لمدى تمثيلية مثل هذه المدارس فليس لها من وجود. ولا وجود كذلك لتحقيقات وتقارير عن مدارس أخرى، دينية كانت أم غير دينية، من تلك التي يؤمها أغلبية الأطفال.
وفي بعض الأحيان تحمل المقالات عناوين خاطئة ومغالطة: يثبت المقال بصفة مفصلة أن الأصوليين لا يمثلون إلى حد الآن سوى أقلية صغيرة لا تتمتع حتى بموقع الأقلية المؤثرة في صلب المسلمين الباكستانيين، لكن عنوان المقال يأتي كالآتي: " باكستان لم يتوصل بعد إلى إيجاد برنامج لمناهضة التيار الإسلامي" (فرنكفورته ألغيماينه- Frankfurte Allgemeine Zeitung، 6 أكتوبر 2001).
كاراتشي: مرة في حالة فوضى، ومرة كوَرم سرطاني
احتلت المواجهة النووية المفتوحة بين باكستان والهند سنة 2002 مكانا واسعا على أعمدة الصحف الألمانية. وفي العديد من المقالات الافتتاحية تردد الكلام عن خطر مباشر لحرب محيقة، وكانت تلوح من بين طيات هذا الكلام من حين لآخر تخوّفات مشبوهة مفادها أنه لا يمكن للمرء أن يعوّل على إمكانية سلوك عقلاني من قبل الهند وباكستان.
بل حتى تلك التحاليل التي تناولت مسألة المخاطر بطريقة عقلانية، والتي تشير على سبيل المثال إلى أنه من غير المتوقع أن تقع الأسلحة النووية في أيدي الإسلاميين أو الإرهابيين عامة، فإنها تترك هي أيضا انطباعا عن بكستان كبؤرة للمخاطر.
وعندما يكتب المبعوثون الصحفيون عن كاراتشي فإنهم يختارون دوما عناوين من نوع : "فوضى ضاربة في كاراتشي" (Suddeutsche Zeitung، 26 سبتمبر 2002) أو جملا مثل "كاراتشي كائن فظيع" أو "تتطور مثل ورم سرطاني" (Spiegel، 7 أكتوبر 2002) : إن الأمر يتعلق هنا بإصدار أحكام وليس بمعاينات عين منتبهة.
الشعور بالتهديد
وبما أنه لا توجد قصص إيجابية فإنه على القراء أن يشعروا بأنفسهم ضعفاء ومهددين. في صفحة الآراء لصحيفة Suddeutsche Zeitung يعبر أحد العناوين عن هذا الأمر كالتالي: " باكستان تعمّه الفوضى – الغرب يتطلع بمزيج من الاستنكار والشعور بالعجز إلى الحلفاء في صراعهم ضد الإرهاب."(Suddeutsche Zeitung، 12 أغسطس 2002). وهناك عنوان لمقال آخر ينعت باكستان بكل بساطة بـ "الخطر الحقيقي" (Frankfurter Rundschau، 13 أغسطس 2002).
وفي المجمل يخلّف هذا النوع من المقالات الصحفية انطباعا عن باكستان كبلد خطير إلى أبعد الحدود، مهدد بالخطر الإسلامي ويمثل موقع توتر يهدد بانفجار مواجهة نووية مع الهند، وبالنهاية بؤرة لعدم التسامح والإجرام - ضد المرأة على وجه الخصوص.
هذا النوع من الإعلام يطرح جانبا مجمل مكونات الخارطة الإسلامية التي لا تنحصر بالفعل في المجموعات المتطرفة، وتهمل الأحزاب السياسية التقليدية والمجتمع المدني ومناضلي الدفاع عن حقوق الإنسان والمشهد الإعلامي العام الذي عرف تغيرات حاسمة عن طريق تكوين القنوات التلفزيونيّة المستقلة. كل هذا لا يقع التطرق إليه بالمرة.
الإسلام وأجواء الخوف
ما الذي يفسّر هذا التبسيط التضليلي؟ لا يمكن للمرء أن يتهم المراسلين وهيئات التحرير المسؤولة بتهمة النوايا المضمِرة. بل إنّ الباحثين في مجال العلوم الإعلامية هم الذين يؤسسون أفكارا متداولة ورؤى ذات أفق ضيقة على أسس "نمذجة نمطية"(Framing). ويتطرق الصحافيون إلى وصف الواقع عادة ضمن إطار محدد قد استطاع مع مرور الزمن أن يتأسس في أذهانهم بصفة لا واعية. وفي حالة باكستان هناك عاملان قد لعبا دورا محددا في هذا المضمار:
من ناحية، ينبغي أن نسجل بالنسبة لهذه الحالة أنّ الغرب يشهد منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 على الأقلّ موجة بارانويا متصاعدة وخوف من الإسلام المتطرف تدعمها بطبيعة الحال الحملات السياسية والعسكرية من جهة وتواصل العمليات الإرهابية من جهة ثانية. ومن المؤلم أنّ هذه التطورات تمثل بالضبط "صدام الحضارات" المزعوم الذي يريد الإرهابيون من جهتهم في تكريس تفجّره.
ومن ناحية أخرى هناك في باكستان من يحاول الاستفادة من أجواء الهلع التي تسود في الغرب ويتفنن في العمل على تغذية تأجيجها. والرئيس مشرّف نفسه يأمل بدوره في الاستفادة بتدعيم موقعه بأن يقدم نفسه للغرب على أنه الضمان الممكن الوحيد للاستقرار في البلاد. وللأسف فإن الصحافة الألمانية لا تتعرض بما فيه الكفاية إلى وضع مثل هذه المناورات موضع سؤال. عوضا عن ذلك يطغى عليها التصور القائل بأنّ الإسلاميين يتمتعون بحضور داخل الشعب مما يجعل مشرّف لا يقدر على مواجهتهم بالصرامة التي يود أن يواجههم بها.
مقاييس مزدوجة
إنّ ما يصعب فهمه أكثر من كلّ شيء هو ما الذي يجعل مقالات الصحافة الألمانية تبدو أكثر سلبية في عرضها للأوضاع وأكثر انتقائية لدى تطرّقها إلى أوضاع باكستان مما تكون عليه تجاه بلدان إسلامية أخرى مجاورة مثل أفغانستان أو إيران، حتى أن القارئ الألماني لا يتبادر إلى ذهنه أبدًا من خلال ما يقرأه في الصحف أن الأمر يتعلق ببلد يعيش تعددية، وعلى أية حال أكثر تعددية وأكثر حرية من إيران أو البلدان العربية.
إننا نقرأ عن إيران وعن أفغانستان خاصة مقالات أكثر تنوعا وأكثر تعددا، ونجد صورا عن الشخصيات الأكثر اختلافا. وقد تحولت شيرين عبادي الحاصلة على جائزة نوبل للسلام داخل وسائل الإعلام إلى رمز لـ"إيران الآخر" ولتعدد وجوه المجتمع الإيراني.
إنه ليس من الصعب أن يعثر المرء على أشخاص مثلها في باكستان، لكن أن لا يذكر مثل هؤلاء البتة داخل الصحافة الألمانية فإن ذلك ما يمكن تفسيره على سبيل المفارقة بالطابع المعقد لللأوضاع السياسية هناك. والملاحظ أنّ عبارات من نوع "محيّر" و "متعذّر على الفهم" غالبا ما تتكرر داخل
المقالات الصحفية عن باكستان.
بذل أقل جهد صحفي ممكن
عوضًا عن اعتبار إمكانية الإقامة لمدّة طويلة داخل البلاد كحافز لمزيد المعرفة والفهم ينزع الكثير من الصحافيّين إلى التبسيطات، ربما بدافع الحرص على جعل قصص مقالاتهم أكثرقابلية للبيع أيضا. واعتمادا على هذا لتأويل تغدو الكليشيهات المتكررة علامة على عدم استعداد الصحافيين لمواجهة الحالات والعلاقات التي تتسم بالتعقيد – وهو أمر سبق أن لوحظ في التقارير الصحفية حول جنوب شرق آسيا منذ زمن طويل.
البديل الصحفي يمكن أن يكمن في تطوير مستوى التحقيقات كما حدث في الهند أيضًا. وهناك بوادر نادرة من نوع ذلك التحقيق الصحفي الذي جاء في صحيفة الـSuddeutsche Zeitung مثلا حول المتاجرة بالأسلحة في مناطق القبائل الباكستانيّة والذي لم يغض الطرف عن أي من المشاكل، واستطاع مع ذلك أن يقدم صورة متنوعة عن الأفراد ودوافعهم الشخصيّة (24 نوفمبر 2001).
لماذا لا يوجد الكثير من هذا النوع من المقالات الصحفية ؟ خاصة وأنّ الباكستان تختلف اختلافا كليًا عن العربية السعودية في ما يخصّ حرية الصحافة. قد تكون عملية الاغتيال الشنيع التي ذهب ضحيتها مراسل "Wall Street Journal" دانيال بيرل قد أدخلت الرعب في الكثير من الزملاء الصحافيين، ومع ذلك فإن المخاطر في باكستان حيث يتحرك الصحافيون دون عوائق لا يمكن مقارنتها البتة مع أوضاع العراق.
لا يمكن بالطبع أن ننتظر من قراء الصحف الألمان أن يكون لهم اهتمام بكلّ جزئيات التطورات السياسية والاجتماعية في باكستان، إلاّ أن باكستان ليست مجرد إحدى "جمهوريات الموز" من أميركا الوسطى، بل قوة تمتلك القنبلة الذرية وتضم 150 مليون ساكنا. وبالتالي فإن إعلاما جديا ورصينا حول هذا البلد لا يمكن أن يعتبر من باب الترف الفائض عن اللزوم.
بقلم توماس بارتلاين، صحفي في الدويتشه فيلله
ترجمة علي مصباح