العرب من وجهة نظر يابانية
تحدثنا، ونتحدث،كثيرا (نحن العرب)عن كيف نخرج من قروسطيتنا، بمعنى القطيعة الإيبستيمولوجية.لكن مقارباتنا للسؤال الجذري هذا كانت غالبا تجري من داخل قلعة وجودنا(التاريخي/السوسيوثقافي).
بالطبع أرسلنا البعثات الطلابية إلى الغرب،منذ رفاعة الطهطاوي وحتى آخر مبعوث يعد إجراءات ابتعاثه في هذه اللحظة إلى جامعة ما في ركن من أركان غرب الحداثة وما بعدها.
وبالطبع قرأنا وناقشنا ما كتبه الآخر عنا أو فكر فيه من داخل ثقافتنا، من مستشرقين ومستعربين، الموضوعيين منهم والمغرضين.وبالطبع حقق العرب، ولا شك،تحولات تاريخية هائلة، لكنها بقت في نطاق التحديث دون أن تغوص في عمق الحداثة.
حتى الآن لم نقارب تجارب تاريخية تشبهنا، مثل تجربة النهضة اليابانية التي انبثقت في عهد الإمبراطور ميجي(1852ـ1912) أي بعد انطلاقة النهضة العربية في عهد محمد على باشا(1769ـ1849) بحوالي ستين سنة.
فما الذي جعل النهضة اليابانية تمضي في تطورها المذهل إلى ما هي عليه اليوم، بينما انتكست النهضة العربية على صورة ما هي عليه اليوم من تخلف واستبداد وعودة للاستعمار القديم في صورة جديد!
في اعتقادي من المفيد أن نقرأ انطباعات نوبوأكي نوتوهارا البسيطة في لغتها، العميقة في جوهرها،عن العرب، من وجهة نظر يابانية،مكثفة من وجهة نظر مستعرب ياباني قضى أربعين عاما من عمره دارسا ومدرسا للعربية ومترجما عنها.
.بدأ رحلته الثقافة العربية طالبا في قسم الدراسات العربية بجامعة طوكيو للدراسات الأجنبية ثم مدرسا للأدب العربي المعاصر في الجامعة نفسها. عاش في العواصم العربية ثم شغف بحياة البادية، صادق كتاب ومثقفين وأقام مع فلاحي ريف مصر وبدو بادية الشام.
اندهش وأحب وتعلم،انزعج وكره وضحك.قرأ وترجم.استغرب وقال: "أربعون عاما من عمري هي مدخلي إلى هذا الكتاب" كما كتب في مدخل مقدمة كتابه:" العرب: وجهة نظر يابانية" الصادر عن منشورات الجمل 2003.
منذ البدء يصطدم نوتوهارا بما" لا يصدق عندنا في اليابان" وصورة ذلك ركاب الباصات العامة وهم يتعلقون بالشبابيك والأبواب،وبنذالة سائقي التاكسي الذين يتصرفون مع زبائنهم بعدوانية، والتوتر النفسي المسيطر على الحياة العامة وقد تحول إلى نظرات عدائية، وآلاف الشباب المتزاحمين على مكاتب الهجرة والجوزات ومكاتب بيع فرص العمل في الخارج،والكثير قصص الغش والتحايل.
لغة نوتاهارا في وصف تجربته الحياتية بين العرب عارية ومفضوحة في نقدها للحياة العربية، من موقع ان الصديق هو من أصدقك القول. وقول صديقنا الياباني نوتوهارا قد يكون قاسيا(عند البعض) وحتى مبالغا في تجريحه للشخصية العربية وتضخيمه وتعميمه لبعض من الحوادث والمشاهدات الحياتية السلبية (:الغش والسرقة والكذب) التي أوردها مصداقا لإنتقاداته، لكنه،لا شك،كان محقا في مقاصد رؤيته النقدية.
غياب العدالة الاجتماعية
ومن الأفكار العامة والجوهرية في تحليل الكاتب لأسباب تأخر المجتمع العربي حضاريا مقارنة باليابان، يبرز في الأساس،غياب العدالة الاجتماعية بمعناها المؤسساتي المرتبط بالضرورة بإقامة الديموقراطية وسيادة القانون. ففي غياب العدالة الاجتماعية:" يصبح الفرد هشا ومؤقتا وساكنا بلا فعالية لأنه يعمل دائما بلا تقدير لقيمته كإنسان.
واستغرب باستمرار لماذا يستعملون كلمة الديموقراطية كثيرا في المجتمع العربي "والأحرى أن لا يستغرب ذلك لأنه تعبير شبه هذياني عن غيابها في حضور واقع القمع الذي: " لا يحتاج إلى برهان في البلدان العربي" فتعبيرات القمع حاضرة في تضاعيف الحياة اليومية على وجوهها المختلفة: السياسية والاجتماعية والثقافية. في الحكم الفردي مدى الحياة،ملكا و رئيسا أو سلطانا أو أميرا... في سيف الرقابة وحرية التفكير والتعبير المخنوقة،في الثالوث المحرم:الدين والجنس والسياسة.
يروى نوتوهارا حكايات من حكاية علاقته بالثقافة العربية والحياة العربية "بعين المراقب المقارن، لكن المراقب المحب الحريص، المراقب الذي أعطى الشخصية العربية حتى الآن أربعين عاما من عمره" والتي بدأت عندما دعاه صوت في داخله لدراسة اللغة العربية في جامعة طوكيو العام 1961 العام لما افتتح فيه قسم للدراسات العربية.
في البداية "بين قصرين"
ومنذ ذاك انطلق في معرفة لغة العرب وثقافتهم وحياتهم وطباعهم. كانت رواية" بين القصرين" لنجيب محفوظ أولى قراءاته بالعربية: "لقد أشاع الباحثون اليابانيون وقتئذ ان الشعر الجاهلي وحده جدير بالاهتمام، وان ليس عند العرب المعاصرين من يستحق الاهتمام سوى نجيب محفوظ!"
وسيكتشف فيما بعد،كما يقول:"كم كانت تلك الآراء سطحية وخاطئة." إذ انه سيكتشف عالم غسان كنفاني ومن خلاله يكتشف القضية الفلسطينية، فيتعاطف معه ويدرس في جامعة القاهرة.تدفعه قراءة رواية "الأرض" لعبد الرحمن الشرقاوي إلى تجربة العيش مع الفلاحين في الريف المصري ليتعرف على حياتهم وعاداتهم وتقاليدهم.أما الأسئلة التي بقت غامضة لديه حول الشخصية العربية (المصرية) فقد وجد تفسيرها عند الدكتور جمال حمدان في مؤلفه الفكري الرائع:" شخصية مصر"، وكذلك في الأعمال الروائية والقصصية ليوسف أدريس ،صنع الله إبراهيم،يحي الطاهر عبدالله،، حسين فوزي، يحيي حقي.
في المقارنة بين العرب واليابانيين يرى الكاتب من موقعه الياباني أن سبب تخلف العالم العربي عن ركب الحضارة الكونية راسبا في رواسب القمع وأشكاله المتفشية في الحياة العربية، في الوقت الذي انقرضت فيه من الحياة اليابانية.فالعربي يعيش تحث نظام الخوف(سياسيا واجتماعيا وثقافيا) حتى أنه يخاف من فكرة تغيير النظام، من التعبير الحر عن الرأي، من رجل الشرطةن من العادات والتقاليد المستحدثة.
والنتيجة سيادة أخلاق التملق والنفاق والغش والشعور بعدم المسؤولية، وغير ذلك من مظاهر الخضوع والفشل. وبالتالي يصبح الاستهتار بالملكية العامة نتيجة طبيعية، لأن المواطن العربي كما فهم نوتوهارا:" يقرن بين الأملاك العامة والسلطة، وهو نفسيا في لا وعيه على الأقل ينتقم سلبيا من السلطة القمعية فيدمر بإنتقامه وطنه.ِ
ويبقى القول أن مظاهر الكذب والغش والسرقة والنفاق موجودة في كل المجتمعات البشرية وبأساليب مختلفة ترتبط بالمستوي الحضاري لكل مجتمع. ففي المجتمعات الحضارية المتقدمة تتخذ تلك المظاهر أقنعة ذات مستوى راقٍ من العقلانية والذكاء الاجتماعي.
كما أن رواسب القمع والتخلف موجودة في كل مجتمعات العالم الثالث بصفة عامة، وليست حكرا على العرب.وقد تناول كتاب عرب كثيرون بالنقد الجذري، إلى حد جلد الذات، البنية البطريركية للمجتمع العربي بتراثها الجمودي وتقاليد تخلفها وعاداتها وممارساتها وطبائع استبدادها،من عبد الرحمن الكواكبي إلى عبدالله القصيمي.
لكن كتاب نوبوأكي نوتوهارا:" العرب وجهة نظر يابانية" يمثل إضافة بعد خاص بقلم مستعرب صديق للعرب محب للغتهم وثقافتهم حريص على أن يتحرروا من القمع الذي هو:"مرض عضال ومشكلة أساسية في المجتمع العربي" يحب حلها: "لكي يتمكنوا من العمل على حل مشاكل المستقبل.هذه النقطة هي مركز كتابي"
بقلم فرج بو عشة، صحفي ليبي مقيم في ألمانيا
صدر الكتاب نوبوأكي نوتوهارا "العرب من وجهة نظر يابانية" عن دار الجمل في ألمانيا 2003