''رحلة سعيدة''....... رحلة الموت إلى الفردوس المفقود !
يعملون أربع عشرة ساعة يومياً. ويملؤهم الخوف من أن تلقي الشرطة القبض عليهم فلا يتركهم ويصبح هذا الخوف أكثر أصدقائهم وفاءً لهم. ويقولون عبر سماعة الهاتف لأمهاتهم إن كل شيء على ما يرام وإنهم وجدوا الجنة المفقودة. إنهم المهاجرون الأجانب الذين يعيشون في إوروبا بصورة "غير شرعية". ولا تعرفهم من أين أتوا بالأسماء! هل هي التي تناديهم بها أمهاتهم أم أنها أسماء اختاروها لتساعدهم على الفرار من الشرطة يقومون بتبديلها كلما بدلوا مكان عملهم.
هذه المواضيع وغيرها مما يتعلق بحياة المهاجرين "غير الشرعيين" في أوربا وتحديداً في ألمانيا هي هاجس المخرج مهدي معين زاده في مسرحيته "غير شرعي". ومعين زاده (م. 1978) من أصول إيرانية وجاء مع والديه إلى ألمانيا عندما كان في العاشرة من عمره. والمسرحية مأخوذة عن كتاب "غير شرعيين". نحن كثيرون. "نحن هنا" للألماني بجون بيكر الصادر عام 2009 والذي يتحدث عن حياة لبشر غير موجودين على قوائم الدولة الرسمية كان المؤلف قد قابلهم وعايشهم في مدينة ميونخ.
المهاجرون غير الشرعيين في ألمانيا
يقدر عدد المهاجرين غير الشرعيين في ألمانيا بمئات الآلاف وبعضهم يقول إن عددهم يصل إلى مليون شخص. تقوم السلطات الألمانية بإبعاد نحو 10 آلاف مهاجر كل عام، من غير الشرعيين أو من الذين لم يحصلوا على حق اللجوء السياسي، وإعادتهم إلى مواطنهم الأصلية بعد القبض عليهم. منهم من يعيش هنا لسنوات بين الخوف و الهرب من الشرطة. جاؤوا للبحث عن حياة أفضل فكانت الحياة في الظل هي ما جنوه في الغالب. يأتون من فلسطين ولبنان والعراق وأفغانستان وكوسفو والقائمة طويلة.
أراد القائمون على المهرجان الحديث عن هذه المجموعات المهمشة وأختاروا للمهرجان عنواناً ساخرا وهو "سفرة سعيدة " Bon Voyage“. استغل القائمون على المهرجان، وهم في الغالب من الممثلين والفنانيين من أصول مهاجرة، إيرانية وتركية وعربية إضافة إلى الألمان، ذكرى مرور ستين عاماً على اتفاقية جنيف لللاجئين لتسليط الضوء عليها والتذكير بها من جهة وللمطالبة، من جهة أخرى، بالتفكير ببنودها وإعادة النظر بها لتشمل المهاجرين غير الشرعيين في العالم والذين تقدر أعدادهم بالملايين.
مهرجان "سفرة سعيدة"
وعن فكرة المشروع والمسرحية يقول المخرج مهدي معين زاده وهو أحد القائمين على هذا المهرجان: "البداية كانت مع المسرحية ومن ثم توسعت الفكرة لتشمل مهرجان كامل حول الموضوع الذي لا يخص ألمانيا فقط بل العالم كله". أما ربط الموضوع مع اتفاقية جنيف لللاجئين فيقول المخرج الشاب إنه جاء بالصدفة عند مشاهدته لهوية صديق له من عديمي الجنسية وقد كتب على هويته 28 يوليو 1951 وهو تاريخ إعلان اتفاقية جنيف للاجئيين، فقرر استغلال هذه المناسبة لتسليط الضوء على الموضوع وخاصة أن أغلب الأوساط الفنية في ألمانيا من مسارح ومعارض لم تتناول هذا الموضوع في برامجها لهذا العام وهو أمر يستهجنه ولا يفهمه.
تساءل معين زاده والقائمين على المهرجان حول وجهة نظر الاتحاد الأوربي فيما يتعلق بموضوع اللاجئيين؟ فهو يحاول التذكير بأن أوروبا ليست فقط وحدة اقتصادية كما يحلو للبعض أن يراها وإنما أقيمت بعدما أنهكت الحرب العالمية الثانية هذه القارة وكانت الفكرة الأوروبية بمثابة مشروع للسلام والتقارب بين الشعوب. ويرى معين زاده أن هذه الفكرة تأخذ جزءا من مصداقيتها من تعامل دول الاتحاد الأوربي مع اتفاقية جنيف للاجئين ومدى رغبتها في تطبيقها وتوسيعها والعمل بموجبها أم غض النظر عنها حتى تتآكل بنودها تحت الغبار!
مسرحية "غير شرعي"
غص مسرح هايمات هافن بالجمهور الذي جاء لمشاهدة مسرحية "غير شرعي" وامتلأت قاعته التي تتسع لمئة وخمسين متفرجاً. تدور أحداث المسرحية حول أربع شخصيات، ثلاثة مهاجرين، من أوكرانيا وكردستان وباراغواي إضافة إلى الشابة العاملة في منظمة لحقوق الإنسان والتي تقدم إستشارة للمهاجرين غير الشرعيين. كانت المسرحية عبارة عن مونولوغات يتحدث فيها كل ممثل عن تجربته المنقولة عن وقائع حقيقية لقصص مهاجرين.
الخوف الذي يفترس هؤلاء المهاجرين هو أحد القواسم المشتركة للشخصيات الثلاث وكذلك الفتاة التي تعمل معهم. كل يعيش خوفه على طريقته وفي وحدته القاتلة. بديكور بسيط هو عبارة عن جدار خشبي توسط أرض المسرح توارى خلفه كل من الممثلين بعدما كان يؤدي جزء من قصته أمام الجمهور، بسخرية تنخر العظام وأداء متميز كالذي قدمه الممثل الألماني الشاب تيمور ايسيك لشخصية المهاجر من كردستان الذي تحدث عن التعذيب الذي تعرض له في بلاده ولجوءه إلى ألمانيا. تحدث بمرارة عن أسئلة الموظف البيروقراطية التي تشكك وتطلب منه أن يثبت بأنه قد تم تعذيبه؟ أو إذا كانت معه شهادة أو وصل ما بذلك؟
تتعالى ضحكات الجمهور عند سماعهم هذه الأسئلة العبثية، لأن ّأولئك الذين يقومون بالتعذيب والاغتصاب والممارسات العنصرية لا يتركون غالباً أدلة مرئية لارتكاباتهم، بل جروحاً وندبا عميقة في أرواح الضحايا. ولا تحاول المسرحية تجميل صورهم بمعنى أنها تخلق تعاطف الجمهور مع الشخصيات بل إنها تريد جمهوراً فعالاً فتكسر إمكانيات التعاطف هذه بأساليب مسرحية كأسلوب "التغريب" في مسرح بريشت. عندما تظهر الممثلة بيجا فيردوني في دور اللاجئة القادمة من البارغواي تكون لهجتها في ظهورها الأول قوية ومغرية وجميلة ولكن سرعان ما تكسر الممثلة هذا التعاطف عندما تنقلب لتتحدث الألمانية دون أي لهجة.
وعن مغزى استعمال هذا الإسلوب هنا تقول بيجا المنحدرة من أصول إيرانية "غالباً ما يتعاطف مجتمع الأغلبية (الألمان) مع شخص من أصول أجنبية يتحدث اللغة الألمانية بلهجة، هذا التعاطف فيه نوع من الشفقة وينظر لهذا الشخص كشخص مسكين لا يستطيع التعبير عن نفسه بصورة جيدة ويحتاج مساعدة. أردنا أن نكسر هذا التعاطف الذي لا يأتي بالكثير بالنهاية وأن نركز على الموضوع الأهم والهوة وأوضاع المهاجرين التي يجب أن تتغير".
فعاليات متنوعة
تضمنت فعاليات المهرجان قراءات أدبية، ومعرضاً لصور إضافة إلى حفلات موسيقية وحلقة نقاش مع منظمات غير حكومية تعمل في هذا المجال ولاجئين عديمي الجنسية. كما تضمن المهرجان الذي كانت أغلب فعالياته مجاناً، عروضاً لأفلام عديدة من ضمنها عرضاً للفيلم الوثائقي "في اللا مكان. كوسفو" للمخرجة سلفانا سانتاماريا والذي يتحدث عن لاجيء من كوسفو عاش في ألمانيا لمدة 17 عاماً قبل أن تقوم السلطات الألمانية بترحيله إلى كوسوفو وهو في الثامنة والعشرين من عمره دون أي آفاق في بلد أهله وهو الشاب الذي يعرف ألمانيا أكثر مما يعرف كوسفو. كما تضمن المهرجان سوقاً اشتركت فيه جمعيات حقوقية في ألمانيا ناشطة في هذا المجال وقدمت معلومات وإستشارة بالإضافة إلى الموسيقى والأطعمة وغيرها من الأعمال اليدوية. لكن حصة الأسد كانت للمسرح في عرض يومي لمسرحية "غير شرعي"، إضافة إلى عرض البانتوميم تحت عنوان " نلتقي في الجنة" لأحد فرق المسرح البرلينية.
وكان لفعاليات المهرجان صدى في بعض الصحف والمجلات الألمانية، حيث نوهت به "دير شبيغل" ذائعة الصيت. لكن ليس من الواضح إذا كان الموضوع سيثير جدلاً واسعاً أو أن فرقاً مسرحية أخرى ستتناوله، أم أن النقاش سيظل محصوراً ببعض الأحزاب وفنانيين منحدرين من أصول أجنبية؟
ابتسام عازم- برلين
حقوق النشر: قنطرة 2011