"ابن رشد والرشديّة".. غربة القرطبيّ مرتين
http://homepage.univie.ac.at/jameleddine.ben-abdeljelil/wp-content/uplo…
"لقد ظلَّ ابن رشد في تاريخ الفكر العربيّ، ولمدى قرون خلت، اسماً خافتاً كاد يطويه النسيان طيّاً، وعندما بُعثَ هذا الاسم منذ بدايات هذا القرن (العشرون) بقي شعاراً أو لغزاً أو موضوعاً لاجتهادات معاصرة تستقي إشكاليّاتها وموجهاتها في الأعمّ الأغلب مما كتبه عنه المستشرقون". هذا ملخص رأي محمد عابد الجابريّ في الدراسات العربيّة التي تناولت ابن رشد. ولعلَّ أهم ما يُمكن أن نُدرجه في إشارة الجابريّ حول ما كتبه المستشرقون، كتاب الفرنسي إرنيست رينان (1823- 1892) والمعنون ابن رشد والرشديّة، والذي شكّل نبعاً لدى الباحثين والمترجمين العرب، من أيّد أفكار ابن رشد أو عارضها، ولسنين طويلة.
استعراض "رينان"
قبل الترجمة، وقبل أن نخوض في العمل، نستعرض رينان من جوانب عدة؛ فبحسب موسوعة المستشرقين التي وضعها عبد الرحمن بدوي فإن شهرة الفرنسي إرينست رينان (1823-1892) عند العرب ترجع إلى محاضرة ألقاها الأخير في السوربون بعنوان "الإسلام والعلم" نشرت بعد ذلك في Journal des débats بتاريخ 30 مارس/ آذار 1883، أبرز ما جاء فيها أنَّ الإسلام اضطهد العلم والفلسفة، وأنَّ "ما يُسمى بالعلم عند العرب ليس فيه من العروبة إلّا الاسم".
سيردّ جمال الدين الأفغاني على مقالة رينان في نفس الصحيفة. وردَّ رينان على الردّ محاولاً تخفيف نبرة النقد للإسلام بعدما ذكّره الأفغاني أن ليس الإسلام وحده من سيظل يضطهد العلم والفلسفة. وافق رينان الأفغاني في رده وسيعترف أنَّ "جالليو لم تُعامله الكاثوليكية معاملة أفضل من المُعاملة التي عامل بها الإسلام ابن رشد".
من هنا سيبني بدوي رأيه حول المستشرق بالقول إنَّ رينان حين "ينعى على الإسلام كراهيته للعلم العقلي والتجريبيّ، فإنه لا يخصّ الإسلام بهذا الوصف دون غيره من الأديان؛ بل الأديان كلّها في هذا سواء". هذا قول بدوي في رينان، غير أن الموقف المخفف عن (العلم الوضعي والفلسفة والدين) كان طارئاً، في مقالةٍ، إذ إن رينان كان يصرّ ومنذ أكثر من ثلاثين عاماً مضت على تاريخ المقالة، أن النصرانيّة عطّلت العلم الوضعيّ وعوّقت صعوده، لكن "من غير إطفاء له"، فيما "الفلسفة العربيّة تُعدّ مثالاً وحيداً تقريباً لثقافة بالغة السموّ حُذفت بغتةً تقريباً من غير أن تترك آثاراً، ونُسيت تقريباً من قِبل الأمّة التي أبدعتها".
الرشديّة اللاتينيّة
أنجز عادل زعيتر ترجمة ابن رشد والرشديّة لأول مرة ونشرت سنة 1957 عن دار إحياء الكتب العربية، وأشار زعيتر في مقدمة الترجمة إلى أنَّ عمل رينان هذا يحتاج "إلى إعادة نظر وتقويم وتعديل"، لكن – و القول هنا لزعيتر - "يُطلب ممن يقوم بهذا العمل – النظر في هذا الكتاب – ألا يقتصر على كتب ابن رشد التي انتهى إلينا أصلها العربيّ؛ فهذه الكتب قليلة جداً، ولا تكفي وحدها لتناول مثل هذا الأمر، وإنما يقضي الإنصاف بأن يُدقق أيضاً في كتب ابن رشد التي نقلت إلى اللاتينية والعبريّة وضاع أصلها العربيّ (...) ويتألف من هذه الكتب معظم مؤلفات ابن رشد وأهمها". انتهى الاقتباس من زعيتر، ولم يعرف حتى الآن فيما إذا جرى العمل على إعادة النظر في هذا العمل، إنما يعرف أن الدار الأهلية في عمّان أعادت طباعة الترجمة نفسها التي مضى عليها ستون عاماً في طبعة جديدة صدرت مؤخراً. وبين الترجمتين ثمة مشروع بدأ به محمد عابد الجابري حول ابن رشد بهدف تخليص الكتابات عن ابن رشد من أصداء "الرشدية اللاتينيّة" في صيغتها الاستشراقيّة" (...) والتخلص كذلك من "الأسئلة التي طرحها المستشرقون" حول ابن رشد، تكللت جهود الجابري بعمل سنة 1998 بمناسبة ثمانية قرون على وفاة الفيلسوف ابن رشد. وحمل عنوان "ابن رشد سيرة وفكر" صدر عن مركز دراسات الوحدة العربيّة، وكان الهدف من عمل الجابريّ "استعادة ابن رشد الفقيه، وابن رشد الفيلسوف، وابن رشد العالم".
الكتاب
قبل أن يخوض في ابن رشد، يقدم رينان مختصراً عن الحياة العلميّة في الأندلس؛ الكتب، مكتبة الحَكم، صراع الأئمة ودارسي الفلسفة والعلوم، غير أنه يُنهي المقدمة المختصرة بالقول: "إن عصر حُكم الحَكم الذهبيّ لم يُخلّف للتاريخ أي اسم مشهور، وأن أسماء ابن باجة وابن طفيل وابن زُهر وابن رشد، الذين أزعجهم التعصّب، دخلت في مجرى الحياة الأوروبيّة". ثم ينتقل إلى عرض سيرة ابن رشد معتمداً بشكل مباشر على عدة مراجع: تكملة ابن الآبار لمعجم التراجم لابن بشكوال، ما جاء به أبو عبدالله محمد بن عبد الملك الأنصاريّ المراكشيّ في تكملة معجمي ابن بشكوال وابن الآبار، كتاب طبقات الأطباء لابن أبي أصيبعة، حوليّات الذهبي، عبد الواحد المراكشيّ، وأخيراً مؤلفات ابن رشد نفسه.
يشير رينان إلى أن ظهور ابن رشد كان ضمن جمهرة علماء القرن الثاني عشر في الأندلس، منهم ابن باجة، ابن طفيل، ابن زهر. وخارج الأندلس ابن عربي، وجرى الاضطهاد على جمهرة العلماء هذه، في محنة جماعية شملت ابن رشد الذي سينفى إلى خارج قرطبة حين تفوق الحزب الديني على الحزب الفلسفي؛ أُحرقت كتب ابن سينا، وكتب الفلسفة، وسرت تهمة الكفر. وتقرّب الولاة من العامة باضطهاد الفلاسفة، قبل أن تعاد لهم حظوتهم حين رجع المنصور عن قراراته.
يعتبر رينان أنه بموت ابن رشد سنة 1198 "فقدت الفلسفة العربيّة فيه آخر ممثل لها" لكنه وفي مكان آخر سيعتبر ابن رشد "أحد أولئك الذين يظهرون مؤخراً فيعوّضون من الإبداع الذي يعوزهم بموسوعة آثارهم القائمة على الشرح والنقاش؛ أي أحد أولئك الذين يظهرون في وقت متأخر جداً فلا يبتكرون، وإنما يكونون آخر ما للحضارة المتداعية من دعائم".
الرشدية والفلسفة اليهوديّة
يعرض رينان في القسم الثاني من كتابه، كيف دخلت "الرشديّة" إلى فلسفة اليهود، عبر موسى بن ميمون بدايةً، والذي "نفخ في الدراسات اليهودية من دوافع جديدة، وذلك أن ابن ميمون وابن رشد استقيا من منبع واحد، وأن كلّاً منهما قال بمأثورات المشائيّة العربية". ويُفصّل في كيف بقيت مدرسة ابن ميمون وفيّة للمشائيّة الرشدية، إلى حيث انتهت "باكتساب الفلسفة اليهودية لون فلسفة العرب". لقد ترجمت مؤلفات ابن رشد إلى العبرية بولع كبير، ترجمات مكررة، ثلاث ترجمات مع الشروح، وكان من بين المترجمين وأنشطهم كلونيموس ابن كلونيموس بن مئير الذي ترجم الشروح على الجدل والبراهين السوفسطائية والتحليلات الثانية، ما بعد الطبيعة، الطبيعيات، السماء والعالم، الكون والفساد، الآثار العلوية، وتهافت الفلاسفة. وكان ذلك في القرن الرابع عشر، وعلى إثر هذه الترجمات ظهرت شروح ابن رشد عند اليهود، وكان بينهم ليفي بن جرشون البانيولي الذي شرح ابن رشد كما شرح الأخير أرسطو. لقد "قام ابن رشد لدى اليهود مقام أرسطو". لقد استمرت "الرشدية" في القرن الخامس عشر حيث "لم يزل ابن رشد يدرّس، وإلى هذا الزمن يرجع معظم المخطوطات العبرية التي بقيت لنا من كتبه". وكان أن ظهر إليا دل مديغو كآخر "ممثل مشهور للفلسفة الرشدية عند اليهود".
ينتقل بعدها رينان لاستعراض ترجمات الكتب بشكل عام من العربية إلى اللاتينية في القرنين الثاني والثالث عشر وبعدها عبر العبريّة، في القرن الخامس عشر بقيت مؤلفات ابن رشد عنواناً لفلسفة العرب، من بين ترجمات ابن سينا وابن ميمون والكندي والفارابي، ترجمات ميشل سكوت (أول من أدخل مؤلفات ابن رشد إلى اللاتين) عبر شرح السماء والعالم وشرح كتاب النفس، ثم يعمد إلى هروب هربرت الألمانيّ من ترجمة صناعة الشعر لأرسطو بسبب "الكثير من المصاعب" إلى شروح ابن رشد لأرسطو، ويخلص رينان بعد بحث طويل إلى أنَّه، ومع أواسط القرن الثالث عشر، كانت جميع كتب ابن رشد قد تُرجمت من العربية إلى اللاتينية، وبخلاف الكتب الفلسفية فإن مؤلفات ابن رشد الطبية لم تعرف لذاك الحين على العموم إلا بعد المؤلفات الفلسفية.
سيكون سهلاً تحديد وقت دخول مؤلفات ابن رشد إلى اللغة اللاتينية أو العبريّة مقارنة مع زمن بدء تأثير ابن رشد في القرون الوسطى في أوروبا (القرن الثالث عشر تحديداً) ومن الذين تأثروا به في تلك الفترة، سيبدأ رينان بمعارضي فلسفة ابن رشد في أوروبا، غليوم الإفرني، وألبرت الأكبر مستلف طريقة "الشرح الأكبر"، والقديس توما، والذي يصفه رينان بأنه "أخطر خصم لقيه المذهب الرشديّ والتلميذ الأول للشارح العظيم بلا منازع". بترارك، المدرسة الدومنيكية، وجيل دوروم الذي تتضح معارضته لابن رشد والكندي وابن سينا أيضاً في رسالته "أغاليط الفلاسفة"، غير أن دوروم أفرد رسائل خاصة للرد على "وحدة العقل" التي هي من "الأضاليل الرشدية على الخصوص". فيما سيعتبر ريمون لول أن الرشدية هي الإسلام خلال معارضته "الصليبية" الشرسة لابن رشد. في باريس ينقل رينان هذا الخبر: "في سنة 1269 يجمع أسقف باريس إتيان ثانبيه مجلس أساتذة اللاهوت يوم الأربعاء الواقع قبيل عيد القديس نيقولا (6 من ديسمبر/ كانون الأول) ويحكم بالاتفاق مع المجتمعين على ثلاث عشرة قضية ليس كلها، تقريباً، غير قواعد رشديّة مألوفة". على الجهة الأخرى يفصّل رينان في تأثر واتباع المدرسة الفرنسسكانيّة للرشديّة.
تلقي ابن رشد كملحد
يعرض العمل المظاهر الإلحادية في القرون الحادي والثاني والثالث عشر في أوروبا، ثم يفتح السؤال. "كيف انتهت هذه المناحي الإلحادية التي كانت تشغل بال جميع أوروبا في القرن الثالث عشر، إلى الارتباط بالعروبة وإلى اشتمال ابن رشد عليها؟".
لا يجيب رينان مباشرة، إنما يستعرض وَلَهَ الإمبراطور الرومانيّ فريدرك هوهنشتاوفن الثاني 1194-1250 بالثقافة العربيّة، حيث "بلاط فريدرك، ثم بلاط "منفرد" بعد حين، صارا مركزاً فعالاً للثقافة العربية وعدم الاكتراث الديني". ثم صار البلاط مركزاً "لأبناء ابن رشد"، ابن رشد الذي تم وضعه في أوروبا القرون الوسطى ضمن حركة تيّار الإلحاد الدهري "الناشئ عن دراسة العرب والمُلتحف بابن رشد". ليس ذاك وحسب، إنما امتد تأثير ابن رشد (كممثل للإلحاد) في إيطاليا، تحديداً لدى الدومنيكيين الكلاميين. هكذا تضاعفت صورة ابن رشد مع حلول القرن الرابع عشر كواضع الشرح الأكبر ومُفسّر أرسطو من جهةٍ، وأبو الزنادقة من جهةٍ أخرى، ولكن، ومع أن هذا القرن أحد قرون "الإيمان المطلق"، غير أن ابن رشد سيكون "أستاذ المدارس الكاثوليكية الكلاميّة والمبشر الدجّال" في نفس الوقت أيضاً.
أخيراً، ارتكز إرنيست رينان في دراسة ابن رشد على مراجع عبريّة، هي ترجمات مؤلفات ابن رشد نفسه، وتراجم عديدة تطرقت لأفكاره، في حين أن مؤلفات ابن رشد بالعربيّة لا يكاد يعثر عليها، وهذا رأي دعّمه الجابريّ في مشروعه لاستعادة ابن رشد، وأشار له عادل زعيتر أكثر من مرّة. كان من بينها خلال مقدمة الترجمة الأولى لابن رشد والرشدية سنة 1957.