ما هي علاقة المسيحيّة بالقرآن؟
من كان يتوقع أن ميدانا علميا منعزلا وعسيرا مثل البحوث القرآنية سيصبح في يوم من الأيام من إحدى المواضيع الشائكة التي يثيرها المرء؟ بحوث معقدة وصعبة من تلك التي يحررها مستشرقون غير معروفين البتة لدى العموم من المستعربين والمختصين في العلوم الساميّة تجد نفسها في زمن "صدام الحضارات"، لذي هو في الواقع "اصطدام" مع الإسلام، فجأة وبصفة غير متوقعة في موقع خطّ النار – مستهدفة بطبيعة الحال بصفة أساسية من قبل المسلمين الذين غالبا ما لا يرون الدوافع العلمية التي تكمن خلف هذه الأعمال، بل عداوة مضمرة.
في سنة 2002 صدر كتاب "القراءة السريانية الآرامية للقرآن" بقلم أحد المختصين الألمان في العلوم الساميّة وتحت الإسم المستعار لكريستوف لوكسنبارغ. يطرح باحث في هذا العمل فرضيّة تقول بأن العديد من الآيات الغامضة في القرآن (حوالي الربع من مجمل ما يزيد عن 6000 آية) بالإمكان فهمها بطريقة أفضل إذا ما انطلق المرء من الأصل الآرامي للقرآن، أي من ذلك الخليط اللغوي الذي لا يتطابق على أية حال مع اللغة العربية الفصحى التي نعرفها الآن والتي لم تتشكل إلا في فترة لاحقة من التاريخ. وقد أسقط لوكسنبارغ، من بين ما أسقط، ذكر "حوريات" الجنة الموعودة للشهداء كما جاء في القرآن.
أما غونتر لولينغ المستشرق وعالم الأديان الألماني فلم ير داعيا للتخفي وراء إسم مستعار. وهو منذ أربعين سنة يجتهد في السعي إلى فهم أفضل لكتاب المسلمين المقدس. وكانت النتائج التي توصل إليها مذهلة ومثيرة خاصة بالنسبة لأولئك الذين يصرون دوما على ضرورة تنزيه النصوص وعدم المسّ بالمعتقد.
ومع ذلك فإن لولينغ لم يجد مضايقة بسبب ذلك إلا من طرف عدد قليل من المسلمين، بينما جاءت أكثر مضايقاته من طرف زملائه من الاختصاصيين. وإنه لأمر ذو دلالة حقا أن صدور الصيغة النهائية لعمله الذي يعدّ عمل العمر قد تم باللغة الإنكليزية ولدى دار نشر هندية.
وعلى أية حال فقد التقت مجموعة من المستعربين والباحثين في المسائل القرآنية ببرلين ما بين 21 و25 يناير كي يتناولوا بالنقاش على الأقل جهود لوكسنبارغ. وقد عبرت الحصيلة الأولية لهذا اللقاء عن نفسها كما يلي: "إننا ما زلنا لا نعرف سوى القليل."
"نداء موجّه للإسلام من أجل الإصلاح"، العنوان في حدّ ذاته يعبر بوضوح عن الهاجس الذي يحرك لولينغ. إصلاح الإسلام حسب رأي لولينغ ليس مسألة ضرورية ملحة فحسب، بل إنها ستظلّ غير ممكنة التحقق من دون عملية تفلّ واستقصاء نقدي للنصوص المقدّسة كما يمارس ذلك هو، وآخرون أيضا.
هكذا يغدو البحث في موضوع القرآن عملا سياسيا على غاية من الأهمية. ولولينغ لم يفعل سوى مواصلة العمل الذي ابتدئ في فترة مابين القرنين التاسع عشر والعشرين، ألا وهو تأسيس اجتهاد فقهي يرتكز على المناهج النقدية التاريخية للعلوم الغربية، كما اُستخدم ذلك كلّ من كارلو دي لاندبارغ ومارتن هارتمن وكارل فوللر على سبيل المثال.
وقد طرحت منذ ذلك الحين فرضية تقول بأنّ هناك أناشيد مدائحية مسيحية تختفي خلف بعض أجزاء من القرآن. ومنذ أطروحته التي أعدها في سنة 1970 ثم قام بتوسيعها في سنة 1974 في شكل كتاب بعنوان "حول القرآن الأصلي"، كان لولينغ قد سطر لبحوثه الطريق التي سيظلّ يتبعها منذ ذلك الحين.
وكان أن قادته هذه الطريق إلى الإقصاء الأكاديمي والمصاعب الشخصية، لأنه وضع موضع السؤال تصورات ظلّ المسلمون يتمسكون بها كبديهيات لأكثر من ألف سنة من الزمن، ولكن أيضا بسبب مناقضته لآراء بعض ممن يمثلون سلطة في ميدان البحوث القرآنية.
سيندهش الناقد لوفرة الجزئيات والحجج التي ينطوي عليها عمل لولينغ الذي يقع في ما يفوق الخمسمائة صفحة، ولا يسعه إلاّ أن يقرّ بغزارة ما يحتوي عليه من المعرفة. وخلافا للمدرسة الأنكلوسكسونية الجديدة للبحوث القرآنية (إصلاحية فانسبورو) التي تركز اهتمامها على عملية تجميع القرآن التي تمت بعد مائتي سنة من موت النبي محمد (سنة 632)، يعتقد لولينغ أنّ أجزاء هامة من القرآن كانت موجودة قبل مجيء النبي – كأناشيد مدائحية ومقاطع شعرية مسيحية. تلك هي أطروحته الأساسية التي يرى إليها كـ"إستعادة " للقرآن الأصلي.
وإذا ما ثبتت صحة نظريات لولينغ فإنّ كثيرا من الأشياء التي ظلّ المسلمون يعتقدون دوما في صحتها حتى يومنا هذا ستجد نفسها متجاوزة، كمسألة أنّ القرآن كما نعرفه اليوم قد أوحي به كليا للنبي محمد وبصفة تامة ثم وقع تجميعه في صيغة كتاب موثوق بمصداقيته على عهد الخليفة عثمان الذي تولى الخلافة من سنة 644 إلى سنة 656 م.
وقد لاحظ العلماء المجتهدون من المسلمين بين الحين والآخر أن العديد من المواقع في النص القرآني كان يشوبها الغموض، وأن هناك سبع قراءات مختلفة ظلت متداولة ومسموح بها على أية حال، لكن لم تكن تتوفر لديهم المناهج النقدية التاريخية التي توفرها العلوم الحديثة للباحثين اليوم.
ما هي الطريقة التي يعتمدها لولينغ في تناول المسألة؟ إنه ينطلق من نواقص الكتابة العربية كأساس لتحليله. فاللغة العربية ككل اللغات الساميّة لا ترسم في كتابتها غير الحروف الساكنة وحروف المدّ بينما تهمل الحركات والتنقيط. إلاّ أنّ القرآن، وانطلاقا من الأهمية الخاصة التي تولى لكلّ حرف بسبب التأويل، قد تمّ شكله باستخدام الحركات التي لم يقع اعتمادها مع ذلك إلاّ في وقت متأخر.
والأمر نفسه ينطبق على مسألة التنقيط التي تقضي بأنّ هذا الحرف ب أو ت أو ث أو ن، س أو ش، ر أو ز، ف أو ق. والكتابة العربية المستعملة اليوم قد عرفت على مدى أجيال متلاحقة تطورا مرت عن طريقه وبوسائل الرموز المنقطة من نوع من الرسم الإيحائي الشبيه بالكتابة الاختزالية إلى كتابة "كاملة الشروط "؛ صيرورة تطور شبيهة بتلك التي شهدتها اللغة العبرية على أيدي حركة الاصلاح النقلي "المازورا". إنه من السهل إذًا أن نتصور الامكانيات العديدة لحصول قراءات خاطئة بسبب الغموض الذي تسبب فيه نواقص هذه الكتابة.
ومثل لوكسنبارغ، فإن لولينغ لا تقوده في بحوثه نية تفكيك الكيان الإسلامي، بل عكس ذلك تماما: إنه ينتظر من عملية إعادة استعادة النص القرآني الأصلي أن تؤدي إلى شحذ طاقات دفع هامة لعملية الحوار الإسلامي المسيحي أيضا، وأن تفضي نتائج بحوثه-إذا ما فهمت على الوجه الصحيح- إلى تأسيس جسر عريض، كما لا يمكن تصور أفضل وأمتن منه، للتواصل بين الديانتين.
وإنّ حضور التراث المسيحي داخل القرآن، والمكانة الهامة التي تولى للمسيح كنبي سابق لمحمد، وكذلك مريم العذراء وأنبياء وبطارقة الكتاب المقدس، تعدّ جميعها من مكونات الأسس المعرفية للإسلام، بالنسبة للمسلمين أيضا بطبيعة الحال.
لقد توصل لولينغ بالاعتمادعلى حجج جديدة إلى التعرف على مواقع هامة من القرآن هي في الأصل أناشيد (مدائح) مسيحية محاولا إعادة صياغة عباراتها الدقيقة بوسائل ذات مستوى معرفي راق تعتمد أيضا وبطبيعة الحال على معرفة بالشعر المشرقي لفترة ما قبل الإسلام وعروضه وأشكاله اللغوية.
وقد كان هناك من بين الشعراء العرب القدامى مسيحيون أيضا. كما أن البنية المركبة التي كان عليها الشعر البدوي العربي القديم وكذلك مستواها اللغوي وقواعدها النحوية تعد من أكثر المواضيع أهمية وأكثرها إثارة للخلافات في مجال البحوث.
وقد عبر طه حسين خلال القرن المنصرم عن شكه في الأصالة التامة لهذه الأشعار وصحة نسبتها كما ظلت تقدم بالطريقة المتداولة، كما أنه هو الذي طرح أنّ القرآن يحتوي على "مقاطع نظم موزونة " تعود إلى زمن ما قبل محمد. وقد أثار ذلك موجة كبرى من الاحتجاجات.
تناول لولينغ بمنهجه سورا قرآنية مثل "عبس"(رقم80) و"العلَق"(96) وسورا أخرى كثيرة. وقاده ذلك بعيدا؛ أي إلى إعادة صياغة بعض "صيغ فعلية محرّفة القراءة"، وهكذا تم عبر هذه القراءة الجديدة التوصل إلى تحويرات في المحتوى في عدد كبير من المواقع ذات الطابع القيامي الأخروي والتي تمكن من الربط بصفة أوضح وأبين بالموروث الديني القديم مما تفعله القراءات المتداولة التي تعد نهائية وغير قابلة للتحوير؛ وهكذا تتوصل هذه القراءة الجديدة إلى إعادة ربط علاقة الاتصال في مجال تاريخ الأديان.
بقلم فولفغانغ غونتر ليرش، من صحيفة فرانكفورتر ألكماينة تسايتونغ
ترجمة علي مصباح
A Challenge to Islam for Reformation, 2003 Motilal Barnasidass, New Delhi.