الخيار الصعب بين الاندماج والهجرة
منذ تأسيس الجمهورية الإسلامية 1979 هاجر أكثر من نصف اليهود الإيرانيين إلى الخارج. أما البقية ممن اختاروا البقاء في إيران فقد ظلوا يمارسون طقوسهم الدينية، لكنهم أصبحوا يشعرون بالقلق بسبب التصريحات المعادية للسامية للرئيس أحمدي نجاد. بقلم كريستينا برغمان
باب كنيس يوسف آباد بطهران نصف موصد فقط. "نحن لا نغلق الباب أبدا"، يقول أراش أباي المهندس المعماري الشاب الذي يقوم بقراءات داخل الكنيس بصفة منتظمة. فلا أحد هنا يرتكب أعمال شغب أو يريد أن يسرق، حسب قوله. ولذلك فإن كنيس يوسف آباد، مثله مثل التسع عشر كنيسا الآخرى التي توجد بطهران، لا يحتاج إلى أية حراسة.
وحتى العدد الكبير من الخزائن التي توجد داخل الكنيس فهي غير مغلقة أيضا؛ داخلها يحفظ الرجال الذين يأتون يوميا لأداء صلاتهم الصباحية على الساعة السادسة نسخ التوراة والملابس الخاصة بطقوس العبادة. "الإيرانيون في مجملهم غير معادين للسامية، ومع ذلك فإن اليهود لا يظهرون في الشوارع بمظهر من شأنه أن يعلن عن هويتهم"، يقول أباي.
طاقة لمواجهة النهار
إلا أن أباي يتصرف بطريقة مغايرة. فبعد الصلاة يظل محتفظا بقلنسوة الكيبة على رأسه. "عندما ذهبت إلى مقابلة التعريف بنفسي من أجل الحصول على عمل في مكتب للمهندسين المعماريين أعلنت للجماعة بعد خمس دقائق بأنني يهودي وأنني لا أستطيع العمل يوم السبت." وقد كوفئت صراحة أباي بأن حصل على الوظيفة مع إعفائه من العمل يوم السبت من أجل ممارسة فرائضه الدينية.
لكن القليلون فقط من مجمل الـ25 ألف يهوديا إيرانيا يحوزون على مثل هذه الثقة بالنفس التي يتمتع يها أباي. ومن يرتاد الكنيس منهم فإنه يقوم بذلك في غبش الفجر قبل بداية يوم العمل. ويقول أباي ممازجا بأن أغلب اليهود الإيرانيين يختارون مهنة التجارة أو الطب حتى لا يكون عليهم أن يعلنوا لأحد عن انتمائهم الديني.
وسواء أكان المرء تاجرا أو موظفا فإنهم جميعهم يسعون في كل صلاة صباحية إلى التزود بشحنة من الطاقة ليوم عملهم الطويل؛ تساعدهم على ذلك طقوس شدّ السيور الجلدية (تيفللّين) على الذراع ووضع عباءة الصلاة (تاليت) ذات اللونين الأبيض والأزرق على الكتفين.
سيور التيفللين مستوردة من الخارج أما عباءة التاليت فتنسج في إيران من القطن الفارسي. بعد نصف ساعة من الاستعدادات تستخرج لفافة التوراة من صندوق من الخشب المنقوش. و النسخة تكون بحسب التقليد السيفارادي ملفوفة داخل قطعة من الدنتيل الوردي (القماش المخرّم). أثناء الصلاة إمرأة يهودية مسنّة تنخرط في حالة من الوجد وتلقي بقبل في الفضاء. وكما تؤكد ذلك بنفسها فإن الصلاة تساعدها على التغلّب على مصاعب الحياة. وهي، مثلها مثل جارتها العجوز المسلمة، لا شيء يرعبها أكثر من الوقوع في عذاب الجحيم كما تقول
مباشرة وراء الكنيس توجد مجزرة كوشر. لا شيء من الخارج يمكن أن يدلّ على الهوية اليهودية لذلك المحل، لكن في الداخل يرى المرء صورة محكمة على الجدار لهارون أخ النبي موسى. أما الذبح فلا يتم إلا في يوم الإثنين، لكن الدجاج المذبوح موجود كل أيام الأسبوع. ولئن كان الجزّار شحيح الكلام، فإن حريفته ربّة البيت ميترا غير معقودة اللسان. ميترا تؤكد بأنها لا تطهي عموما غير أطعمة كوشر، فذلك يعد بالنسبة لها واجبا عائليا دينيا كما تقول موضحة.
زيجات معقودة في الكنيس
لكن زوج ميترا تاجر الأقمشة فرمان ميسري على غير رأي زوجته. فتناول مأكولات كوشر ليس مهما حقا في رأيه، بل الأهم هو أن يعيش المرء في تناغم مع محيطه الاجتماعي. و في هذا المضماريؤكد بأنه يتوفق بطريقة رائعة في التعامل، لا مع مستخدميه المسلمين فقط، بل كذلك مع جيرانه وتجار الستائر والسجّاد.
وهو ما يمكن للمرء أن يصدقه بسهولة لفرط ما يبدو عليه من نزاهة واستعداد لتقديم المعونة. وفرمان في الحقيقة كردي، كما يصرح بذلك، لكن رواج التجارة في العاصمة هو الذي دفع به إلى التحول إلى طهران، "ومن أجل الزوجة أيضا بطبيعة الحال." ذلك أن ميسري لا يرى من إمكانية للزواج إلا مع امرأة يهودية.
"نحن اليهود السيفارديون والشيعة المسلمون والمسيحيون الأرمن نتعايش في وئام وتسامح متبادل، لكن تنقصنا الشجاعة الكافية كي يمكننا أن نختلط عن طريق الروابط الزوجية"، يقول ميسري غامزا بعينيه.
تعرف ميسري على زوجته الجميلة ميترا داخل الكنيس؛ "الكنيس هو المؤسسة المثلى لعقد الزيجات" كما يقول. لقد لعب التآزر المثالي لليهود مع بعضهم البعض دورا مهما في مساعدته عند قدومه إلى طهران.
وبالرغم من ذلك، أو بالأحرى لهذا السبب بالذات لا يرغب في مغادرة إيران. ويضيف ميسري ملمحا إلى اليهود الكثيرين الذين اختاروا الهجرة: "لقد نسوا أن للسماء نفس اللون في أي مكان من الدنيا". وهو على أية حال يريد أن يوارى جسمه التراب في طهران بعد وفاته، كما يقول مؤكدا.
زيارات دون تعقيدات
المقبرة اليهودية في جنوب مدينة طهران لا تثبت فقط بأن للجمهورية الإسلامية الإيرانية جالية يهودية بحجم هائل، بل وتنبئ أيضا عن العدد المتزايد لليهود الإيرانيين الذين يختارون الهجرة بصفة مطردة. أغلب القبور تبدو محل عناية وتعهد، لكن الحارسة تشير إلى الأطراف القصية من المقبرة حيث القبور مغمورة بالأعشاب وشاهداتها قد غاصت عميقا في التراب.
هنا يوجد موتى قد هاجرت عائلاتهم وأقاربهم منذ زمن طويل. "قبل ثورة 1979 كان هناك 100 ألف يهوديا يعيشون في إيران"، يضيف موريس معتمد وهو النائب اليهودي في البرلمان الإيراني(كل الأقليات الإيرانية ممثلة بحسب حجمها بنائب أو نائبين في البرلمان). وحسب تصريحات معتمد كان هناك بمعدل 2600 يهوديا يهاجرون في كل سنة خلال الخمس وعشرين سنة الماضية. الأغنياء منهم وذوي التوجهات والاهتمامات الدنيوية يوجدون الآن في أميركا، أما الفقراء والمتدينون فقد اختاروا الرحيل إلى إسرائيل.
مهندس البناء موريس معتمد قد تم انتخابه للمرة الثانية نائبا في البرلمان. و قد استطاع حسب ما يؤكده هو نفسه أن يقدم مساعة فعلية للجالية اليهودية في إيران. وبفضل عمله البرلماني أصبح بإمكان اليهود أن يشغلوا اليوم وظائف إدارية.
وعلاوة على ذلك فإن الحكومة ترصد اليوم ميزانية خاصة بالأقليات المتواجدة في البلاد. كما ساعد معتمد على حل مسألة السفر دخولا وخروجا، "وقد غدا بإمكان اليهود الإيرانيين حاليا أن يقوموا بزيارات إلى أقاربهم في الخارج دزن تعقيدات بما في ذلك داخل إسرائيل، وذلك بالمرور عبر قبرص"، يقول النائب البرلماني. وحتى الإسرائيليون من ذوي الأصل الإيراني بإمكانهم اليوم أن يعودوا لزيارة بلادهم الأصلية. وتتولى السفارة الإيرانية بتركيا تزويد هؤلاء المسافرين بجوازات سفر خاصة.
هاجس الهجرة
أن يكون تراجع نسق تيار الهجرة اليهودية الإيرانية من نتائج ما حصل من تحسينات أم لا فذلك أمر آخر، وعلى أية حال فإن عدد المهاجرين حسب ما يفيد به النائب معتمد لم يعد يتعدى الـ500 سنويا.
"لإيران أقدم جالية يهودية على الإطلاق، وما من يهودي يرغب في الرحيل طواعية عن هذا الموطن العريق"، يقول معتمد. "أنا مثلا لا أتكلم غيراللغة الفارسية والكردية؛ فإلى أين يمكنني أن أذهب إذًا؟" يتساءل موريس ميسري.
أما أباي فيؤكد على أنه لا يريد غير البقاء إلى جانب والديه المسنّيْن. ميترا هي أيضا لا ترغب في الرحيل. إلا أنها مقتنعة بأن فكرة الهجرة تطنّ في رأس كل يهودي إيراني مع ذلك. والمسؤول عن ذلك هو النظام الإسلامي لحكومة الرئيس أحمدي نجاد كما يرى الطلبة المسلمون في طهران.
ما لا يتجرأ اليهود الإيرانيون على التصريح به يعبر عنه هؤلاء الطلبة دون مواربة. فأحمدي نجاد حسب رأيهم يحاول تملق العرب بالظهور بمظهر المناهض للصهيونية، لكنه في الحقيقة معاد لليهود.
ويرى هؤلاء أنه قد أقام الدليل على ذلك من خلال الندوة التي نظمها حول الهولوكوست. ولهذا السبب يريد اليهود الإيرانيون الهجرة إلى الخارج، كما يؤكد أحد الطلبة. إن هذا جانب من الحقيقة، يؤكد طالب آخر. فالنظام الدكتاتوري في رأيه يدفع بأصحاب العقول الذكية من كل ديانة إلى مغادرة البلاد، وإيران تعاني من ظاهرة هجرة أدمغة شنيعة.
معتمد قد اختار مؤخرا العمل في قطاع المهن الحرة، و يقدّم الآن خدمات مساعدة للمؤسسات الاقتصادية في إعداد صور منقولة عبر الفضائيات. مكتبه يبدو عصريا ويعطي انطباعا بأنه ناجح في أعماله. والظاهر أن الأوضاع لدى كل من ميسري وأباي مشابهة لوضع معتمد، وهم أيضا لا يبدو أنهم يفكرون كثيرا في الهجرة. أما إذا ما عنّ لهؤلاء أن يهاجروا في يوم ما فإن ذلك سيكون بمثابة الخسارة الفادحة بالنسبة لإيران، تماما مثل هجرة اللامعين من الطلبة المسلمين.
بقلم كريستينا برغمان
ترجمة علي مصباح
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2007
صدر المقال في صحيفة نويه تسوريشر تسايتونغ
كريستينا برغمان صحفية سويسرية مقيمة في القاهرة وتعمل مراسلة لصحيفة نيوه تسورشر تسايتونغ