الإسلاميون العرب وسذاجة فهم العلمانية
الدرس العميق في معنى العلمانية والدولة المدنية الذي قدمه اردوغان للإسلاميين العرب في مقابلته التلفزيونية التي بثت خلال زيارته للقاهرة مؤخرا جاء في وقته المناسب. العلمانية في الفهم القاصر والمسطح عند إسلاميي العرب قبل وبعد الثورات العربية هي صنو الكفر وعدوة الدين على طول الخط. وهذه العلمانية المُستعداة إلى ابعد مدى من قبلهم لم تطبق في أي من البلدان العربية كما طبقت في تركيا حيث تبنت المؤسسة العسكرية الاتاتوركية أشد طبعات العلمانية تطرفا. وهناك, أي في تركيا, من المفترض ان يكون الإسلام السياسي هو أشد أعداء العلمانية لأنه كان الاكثر إكتواءً بنار نسختها المتطرفة. لكن هناك ايضا تبلورت تجربة الإسلاميين الاتراك على مستوى من النضج والعمق مكنهم من إدراك الجوهر الانساني والحقيقي للعلمانية المعتدلة التي لا تضع الدين كعدو ولا تلاحق وجوده في صدور الناس واماكن عبادتهم او على رؤوس إناثهم.
جوهر العلمانية الديموقراطية هو صيانة حرية الإنسان وكرامته وصد الطغيان سواء أكان مصدره الأنظمة السياسية أم الانظمة الثقافية والدينية, وترك الاختيار للفرد ذاته كي يقرر في حياته الخاصة, وحماية الحياة العامة والسياسية من سيطرة الدين. هناك بطبيعة الحال تجاوزات في التطبيقات وهناك نسخ مختلفة من العلمانية تتراوح بين التطرف والاعتدال, لكن في المجمل العام ما تريده العلمانية هو الفصل بين الممارسة الخاصة للدين في البيت ومكان العبادة وفي مناسبات الدين المختلفة, وبين ان يتغول الدين على الفضاء العام وخاصة السياسة فيتحكم فيها ويتحول بسببها إلى وحش يقمع حرية الآخرين.
جوهر النظام العلماني
وبسبب جوهر النظام العلماني المهجوس بالحرية فإن الاسلاميين ومظاهر التدين الاسلامي بشكل عام انتشرت في الغرب بشكل كبير في العقود الثلاثة الماضية. وفي ما عدا التضييق على النقاب الذي حُظر قانونيا في بعض البلدان بسبب سوء استخداماته من قبل البعض فإن ممارسة المسلمين لطقوسهم مضمونة بالقانون العلماني نفسه. لو طبقت اوروبا اي نسخة من نسخ الدولة الدينية التي يُطالب بها الإسلاميون العرب في بلدانهم لتحولت حياة اكثر من اربعين مليون مسلم في الغرب إلى جحيم حقيقي.
سيقول احد ما هنا إن العلمانية قد تناسب الغرب بكونها الحل لصدام الكنيسة مع السياسة والعقل, وهو صدام غير موجود في الثقافة والسيرورة والتاريخ الاسلامي. وهذا غير صحيح تاريخيا وهو قراءة إسلاموية حركية انتقائية للتاريخ. التاريخ السياسي والاجتماعي للإسلام منذ عهد الخلفاء الراشدين تعلمن تدريجيا وبقوة. الصراع الشديد على الخلافة وعلى القيادة كان صراعا سياسيا وليس دينيا, وقد تعلمنت الممارسة السياسية والقيادية على نحو شبه كامل في الحقب التاريخية الثلاث التي وصلت فيها قوة وحضارة المسلمين اوجها: اي الحقبة الاموية, والحقبة العباسية, والحقبة الاندلسية. كان الاسلم يقع في قلب الشكل العام والهوية الجامعة للدولة, كما تقع المسيحية مثلا في قلب الشكل العام والهوية الجامعة البريطانية حيث الملكة هي رئيسة الكنيسة. بيد ان جوهر التسيس وادارة الدولة والحياة الاجتماعية كانت معلمنة إلى درجة كبيرة. وبسبب تلك العلمنة الاسلامية وحدها واستيعابها لابداعات كل الافراد وعدم اقصائيتها فقد تحقق العلم والتقدم والتفوق المُشار إليه دوما.
العلمانية لا تعني معاداة الدين
وهكذا فعندما يشير اسلاميو اليوم إلى "الحضارة الاسلامية" و"العصر الذهبي الاسلامي" فهم يشيرون إلى نسخ مختلفة من العلمانية الاردوغانية التي طبقها القادة المسلمون بهذه الشكل او ذاك ومن دون ان يكون مصطلح "العلمانية" معروفا. ولو طُبقت النسخة الاخوانية مثلا او السلفية, بإنغلاقها الفكري وهوسها المسلكي, في فهم السياسة والدولة والمجتمع في الحقب الاموية والعباسية والاندلسية لما تقدم المسلمون ولما وصلوا إلى ما وصلوا إليه. اردوغان قال للإسلاميين ان الدولة لا تتدخل في دين الناس وتأخذ مسافة متساوية من كل الاديان, ويجب ان تكون علمانية, وان العلمانية لا تعني معاداة الدين بل هي الضامن لحرية ممارسته للجميع. الدولة المُتخيلة في عقل الاسلاميين العرب هي الدولة الدينية التي تفرض الدين على كل الافراد, وتتبنى تفسيرا واحدا من الدين بطبيعة الحال. فأي دولة إسلامية يطرحها اخوان او سلفييو اليوم سوف تقبل الحرية الدينية الكاملة للأديان والعقائد الاخرى مثل المسيحية واليهودية والهندوسية والسيخية؟ بل ايها سوف يوفر الحرية والامان للطوائف الاسلامية التي لا ترضى عنها نسخة الاسلاميين حكام الدولة مثل طوائف الشيعة المختلفة والاسماعيلية والبهائية والاحمدية وغيرها؟ أليس من المعيب ان يتعايش المسلمون بكل طوائفهم بسلام واحترام في الغرب وفي ظل العلمانية لكن يفشلون في تحقيق السلام المجتمعي والعيش بإحترام متبادل في اي بلد من بلدانهم الاسلامية؟
الإسلام التركي
الاسلام التركي, الاردوغاني, يطرح نموذجا مختلفا عما هو في رأس الاسلاميين العرب, كما طرحته ايضا التجارب الماليزية والاندونيسية, وهذه النماذج لا تعطي اي شرعية للتساؤل عما إذا كانت المشكلة في السياق والثقافة العربية وفهمها للإسلام, فهناك ايضا فشل الإسلام الايراني والباكستاني. نجحت تجربة الاسلاميين الاتراك لأنها استوعبت الدرس التاريخي الكبير بشأن سياسة الدولة والمجتمع وفهم الاولويات. وقد عكس بروز وتأسيس حزب العدالة والتنمية هذا الوعي عبر تخليه عن الفهم التقليدي الكلاسيكي الاخواني الذي تبناه نجم الدين اربكان لعقود ولم يحقق به شيئا.
عندما تشكل الحزب في مطلع الالفية جدد كل مفاهيمه وتبنى العلمانية المعتدلة في دستوره المعلن وصوب نظره على الاولويات الحقيقية التي تواجه الدولة والمجتمع التركي وبدأ بالاقتصاد وطمأن كل الفئات الاخرى. لذلك التفت حول الحزب طبقات رجال الاعمال المحافظين, والصوفيين, والتكنوقراط, وبقايا يمين الوسط, ولم يكونوا كلهم من المتدينين. لكن تكاملت كفاءاتهم مع قيم الدين الايجابية العملية التي تبناها اردوغان وجماعته وطبقوها في ادارة البلديات مثل نظافة اليد والامانة والجد في العمل. عندها بدأ الاقتصاد التركي يتعافى لأنه كان اولوية الاولويات, ووصل الآن إلى تصدر اقتصادات العالم. لو كان البكيني وحجاب النساء وتدخين المرأة للشيشة ومحاصرة السياحة وغيرها من الامور التي تستولي على عقل الاسلاميين العرب الآن هي ما استحوذت على اردوغان وحزبه لكان الفشل وليس سوى الفشل هو نتيجة تجربته.
خالد الحروب
حقوق النشر: قنطرة2011