غوته عوضا عن شيلي
النزاع الذي يزداد كلّ يوم حدّة في العراق يكشف مرة أخرى بوضوح كم هي محدودة نجاعة الوسائل الحربية في مكافحة الإرهاب وفي إرساء مسار بناء دولة وطنية. إنّ هذه الوسائل مهما بلغت من التطور والجودة تظلّ محدودة الفعالية، بل وغير بنّاءة أيضا.
هناك مبررات للقلق أن البنى المتحجرة للنزاع الفلسطيني الإسرائيلي التي أدت إلى استفحال المواقف المتطرفة يعاد إفرازها اليوم في العراق أيضا لتنتشر غدا على كامل منطقة الشرق الأوسط وما وراءه مولّعة حريقا واسع المدى.
لقد كان رفض الحكومة الألمانية الاشتراك في الحرب موقفا صائبا. إلاّ أنّ الأوضاع الحالية تتطلب تدخلا نشيطا يتجاوز حدود اللحظة الآنية. إنّ الموقف المتعنّت لقوى التحالف في العراق لا يدع أيّ مجال للأمل في إمكانية أن يحدث قبل الانتخابات الرئاسية القادمة في الولايات المتحدة أيّ تغيير ذا بال. وإن المضار المنجرة عن هذا الموقف وبصفة خاصة نزوع شرائح جماهيرية واسعة في العالم العربي إلى التطرف ستقود إلى مزيد من الإرهاب والحقد والآلام.
إننا ومنذ فترة من الزمن ندور داخل حلقة مفرغة يصعب اختراقها والتحرر منها حتى بالوسائل الدبلوماسيّة. وحيث قاد المسلك العسكريّ إلى انسداد طريق الحوار سيتحتم السعي إلى استنباط طرق وأوضاع جديدة للتحاور.
سياسة ثقافية في الخارج
وحتى عندما تعبر الحكومة الفدرالية الألمانية في بعض خطاباتها عن أهمية اللقاءات الثقافية في ظلّ أوضاع النزاع، فإنها تظلّ لا ترى كما ينبغي القدرات الخلاقة التي تكمن داخل سياسة ثقافية خارجية مدروسة بدقة ومنسّقة تنسيقا جيدا. إنّ لألمانيا من الاستعدادات لمثل هذه السياسة الثقافية النشطة ما يفوق ما لدى العديد من البلدان الأخرى، ونحن نقابل في العالم الإسلامي بالذات بكثير من الثقة. وهذا ما يطرح علينا مسؤوليات وتحدّيات في الوقت نفسه.
إنّ سياسة ثقافية في الخارج ليس من شأنها فقط أن تجعل سياستنا أكثر حضورا في العالم، إنها إلى جانب ذلك تقدم أفكارا ومقاربات وتصورات إلى الناس وفي الوقت نفسه تأخذ في الاعتبار أفكار هؤلاء وتصوراتهم وأحلامهم.
وستكون السياسة الثقافية الخارجية ناجحة إذا ما حققت هذا التواصل. في العقود الأخيرة لم يكن الحدث الوحيد هو التئام أوروبا وتوحّدها، بل حدث أيضا أنّ المحيط المتوسّطي والشرق الأوسط قد غدا عن طريق الهجرة نحو أوروبا أشدّ ترابطا مع قارتنا من أيّ وقت مضى.
الثقافة في الأوقات العصيبة
عندما تنضب خزائن الحكومة تكون الثقافة هي آخر من يحظى بالاستثمارات من بين بقية المجالات. وفي هذا الشأن بالذات ينبغي علينا أن نعدّل رؤيتنا. بعد الحادي عشر من سبتمبر/أيلول تم رصد أموال كثيرة في المجال الأمني –وهو أمر مستحسن طبعا- وقليل من الأموال أيضا في الحقل الثقافي من أجل تنشيط الحوار مع العالم الإسلامي على سبيل المثال. لكن كيف يمكن أن نجعل هذا الحوار ممكنا في أيامنا هذه ؟ كيف يمكننا تنظيمه بطريقة أكثر تحسيسا وأكثر نجاعة ؟
من يريد مزيدا من الأمن ينبغي عليه أن يسعى إلى الحوار ويحرص على صيانته. عبر المزيد والمزيد من النفقات في المجال الأمني لا نفعل سوى الاستسلام لخدر الوهم بأننا نعيش في أمان. فنحن لم نعد نحيا في مثل ذلك الزمن الذي كانت فيه القلاع الأكثر متانة هي التي تضمن الأمن على أفضل وجه (هذا إذا ما وجد مثل هذا الزمن أصلا). القلاع الحصينة لا توجد إلاّ داخل أدمغتنا.
لكن هل نحن مهيّؤون ذهنيا لهذا الزمن الذي نعيش داخله؟ لقد غدا الناس في أعماق أعماقهم يفتقرون إلى الثقة ومرهَقين بما لاطاقة لهم عليه، وهذا خطر أمني لا يقلّ أهمية عن ثغرة في حدودنا، إذ لا شيء بإمكانه أن يجعل الانسان أكثر خطورة من الشعور بعدم الأمان.
مسؤولية الأمن
مكافحة الإرهاب لا ينبغي أن تترك للجيوش والوحدات الخاصة لقوى الأمن إذا ما كنا نريد صيانة ديمقراطيتنا وحرياتنا وأمننا. لا بد أن يكون الأمر موكلا إلى جميع المواطنين، لا كمخبرين، بل ككائنات عاقلة تكتشف من جديد الطاقات الخلاقة للفكر وللتبادل الفكري وتوظفه في الالتقاء بالآخرين. فلا النهضة ولا الأنوار كان من الممكن تصوّرها من دون تلقيحات من الخارج. وإنني أتساءل أين وبأيّ حجم يتمّ مثل هذا التلاقح داخل مؤسساتنا التعليمية والفكرية حاليا.
لِم لا نحوّل مؤسسة مثل دار ثقافات العالم ببرلين معترف بها وبقيمتها في ماوراء حدود البلاد، ونوسع من مجال نشاطاتها لنجعل منها مخبرا للتبادل الثقافي المبدع ؟ إنها تمنح نفسها بالضبط كمكان مناسب للتحليل وتدبر الأفكار حيث تجد شبكة التداخلات الثقافية الممتدة على كامل العالم مكانا تستطيع أن تنعكس فيه هنا في قلب برلين. فمن دون هذه الدار ما كان لمفكّرين من العالم الإسلامي أن يصبحوا معروفين هنا في ألمانيا كما هو الحال الآن.
إنه بإمكان تضافر النشاطات ضمن شبكة عمل تضم معهد غوته الذي تشمل نشاطاته رقعة واسعة من العالم ومؤسسة مثل دار ثقافات العالم وكذلك مختلف فرق الأخصائيين بوزارة الخارجية أن تفرز فعاليات تآزر وتكامل غدت ضرورية ضرورة ملحّة في الوقت الحاضر.
هناك علاقة عضوية بالثقافة الإسلامية قد نشأت بصفة أساسية عن طريق تواجد الجالية التركية التي تقيم هنا في ألمانيا. وذلك من حسن حظّ هذه البلاد التي تجد نفسها حاليا أمام تجربة تحديثية تبعث على الأمل. لكن هل ندرك فعلا الحظوظ التي يعد بها لفائدتنا مثل هذا التطور؟ فالعلاقات الألمانية التركية ماتزال واهية الأواصر دوما، ومعاهد غوته في تركيا مجهزة بطريقة رثة مزرية، والجدالات الفكرية التي تدور في تركيا لا تصلنا أصداؤها إلاّ في حالات استثنائية، بينما "التركي" غالبا ما يُجسد عبر وسائل الإعلام المحلية كعنصر أجنبي غير قابل للإدماج.
إنّ واقع العولمة تماما مثل المسار الوحدوي الأوروبي يفرض بالأساس إعادة النظر في السياسات الثقافية الوطنية. وإنه لأمر إيجابي أن نلاحظ على سبيل المثال وجود تعاون أمتن بين مختلف المؤسسات الثقافية للبلدان الأوروبية. لكننا مازلنا مع هذا في طور البداية.
لقد تحولت الحركة الإسلامية في الأثناء إلى دين للشباب. ولئن كانت لغته ونمط تفكيره تواجه بالرفض من طرفنا إلاّ أنها تظلّ تفتقر إلى التحليل إلى حدّ الآن. إنّ البعد الوجداني الذي يكمن تحت سطح الخطاب يظلّ في منأى عن الإدراك وهو الذي ينتج مشاعر وصورا لم يعد بإمكان التفكير العقلاني ملاحقتها والإمساك بها. هكذا يغدو منفذوا العمليات الانتحارية نجوما شعبية. وبالتالي فإنّ أمننا لم تعد تهدده عناصر مغرر بها ومعماة بالمغالطة بل قُدوات مزعومة تتلاعب بالرصيد الوجداني للملايين. فما الذي أعددنا لمواجهتهم؟ لا شيء سوى آلاف من حصص الدردشات التلفزية مع الأسف. وهو ما لا يتقدم بنا قيد أنملة.
إذا ما كنا لا نريد اعتمار الخوذة الحربية فإننا سنكون بحاجة إلى استراتيجية مواجهة ذات مصداقيّة؛ واللقاءات الثقافية تمنح فرصة للتحاور مع الآخر. "We are you" (نحن أنتم) هو شعار مجلة جديدة تصدر في دائرة بروكلين بنيويورك كمنبر للفنون القادمة من الشرق الأوسط؛ عندما يتسنى لنا أن نكتشف أنفسنا في مرآة الآخر، نكون قد قطعنا خطوة إلى الأمام.
إنّ مجتمعا يجد نفسه منشغلا بمناقشة ما إذا كانت النفقات في الحقل الثقافي تمويلات أم استثمارات، لهو بعيد كلّ البعد عن المقدرة على استمداد النفّس المنشط لمواجهة حالة الإعياء الذي يتخلّل حضارته.
بقلم ظافر سينودجاك، كاتب تركي الأصل مقيم في برلين. صدر المقال في صحيفة تاغستسياتونغ
ترجمة علي مصباح