مقديشو بين الطاعون والكوليرا

لم يتمكن الصوماليون منذ حوالي ستة عشر عامًا من اختيار حكومة تتولَّى شؤون بلدهم. دخول القوات الأثيوبية إلى الصومال لم يغير أيّ شيء من ذلك، بل على العكس، حسب رأي مارك إنغلهارد

قيل إنَّ المواطنين الصوماليين كانوا يوزِّعون الأزهار والورود من جديد، وذلك مع بدء دخول الحكومة الانتقالية الصومالية المدعومة من القوَّات الأثيوبية منذ ليلة عيد الميلاد 2006 شيئًا فشيئًا إلى القرى الصومالية التي كانت تحت سيطرة ميليشيا إسلاموية.

شوهدت مثل هذه المشاهد قبل نصف عام، وذلك عندما كانت ميليشيا "اتِّحاد المحاكم الإسلامية" تطارد زعماء الحرب الذين كانوا يسيطرون منذ عدَّة أعوام على مقديشو، التي أخرجتهم "المحاكم الإسلامية" منها واستولت بعد ذلك على أجزاء أخرى من الصومال.

هل يعني ذلك دعاية يروِّجها المنتصرون أم أمرًا واقعيًا؟ على الأرجح أنَّه أمر واقعي. إذ أنَّ الصوماليين صاروا بعد ستة عشر عامًا من الأوضاع الفوضوية في القرن الإفريقي يعقدون آمالهم منذ فترة طويلة على شيء واحد فقط: إيجاد حكومة تهتم بضبط البلاد وبإعادة الأمور إلى طبيعتها؛ مجرَّد حكومة ما، ومن دون تحديد شكلها.

وعود الإسلاميين

استطاع الإسلامويون من خلال هذه الورقة في شهر حزيران/يونيو كسب قلوب المواطنين في مقديشو: كانت المحاكم الإسلامية أوَّل من يعد مواطني مقديشو منذ عهد الدكتاتور محمد سياد بري، الذي خُلع من منصبه في عام 1991، بأنَّها ستضمن لهم - قبل حلول النهار - الأمن والنظام وبأنَّها ستجعل من العاصمة مدينة خالية من الحواجز والمتاريس ومن المسلَّحين الذين كانوا يعربدون بسبب تعاطيهم القات والذين قلَّما كانوا يسيطرون على غضبهم وعربدتهم في إطلاق الرصاص.

وعليه فقد قرَّر رؤساء القبائل والعشائر التابعة لها، أي الهيئات التي تصنع القرار في المجتمع الصومالي، مبايعة الإسلامويين على أن يضعوا في آخر المطاف نهاية لهذه الفوضى في العاصمة الصومالية.

لكن عندما ازدادت سلطة المتشدِّدين في المحاكم الإسلامية أكثر وأكثر، تحوَّل هذا القرار العاطفي بصورة متزايدة إلى قرار عقلاني: كان الكثير من الصوماليين يكبتون غضبهم رغم استعدادهم لدفع ثمن لحركة التحرّر الجديدة في بلدهم، حتَّى وإن كان هذا الثمن يعني منع استخدام التلفزيون وتحريم القات أو التهديد بجلد كلِّ مسلم لا يؤدِّي الصلاوات الخمس؛ لم يكن المواطنون معجبون بذلك.

ازداد الغضب والاستياء في شوارع مقديشو، فحتَّى الصحف الصومالية كانت تكتب آنذاك بلهجة ناقدة عن النهج المتشدِّد لرئيس مجلس شورى المحاكم الإسلامية الجديد، الإرهابي المطلوب الشيخ حسن طاهر عويس. لقد بدا للعيان وكأنَّ العصيان المدني محتمل الحدوث للمرَّة الأولى منذ عهد محمد سياد بري؛ عصيان لصالح القوى المعتدلة في صفوف الإسلامويين ولصالح الحكومة الانتقالية في منفاها الذي اختارته بنفسها في مدينة بيداوة.

زعماء الحرب السابقين

بيد أنَّ الشيء الآخر الذي حصل كان بمثابة حلّ اعتادت عليه الصومال: ضربة عسكرية بدعم من قبل الولايات المتَّحدة الأمريكية تنفِّذها أثيوبيا وتشريد الإسلامويين ودخول حكومة جديد، تحظى باعتراف دولي لكنَّها لم تضطر قطّ للخضوع لانتخابات.

​​يسافر على ظهور الدبَّابات الأثيوبية إلى مقديشو الكثير من زعماء الحرب الذين كانوا مسؤولين عن الأوضاع الفوضوية في الصومال، والتي أتاحت المجال للإسلامويين. لا يزال من غير المؤكَّد إن كان زعماء الحرب سوف يصلون من جديد إلى الحكم، لا سيما وأنَّ بعض الطغاة صاروا يتنازعون ضمن نطاق القبائل على أن يصبحوا زعماء الحرب الجدد في العاصمة مقديشو.

مني الصوماليون مرَّة أخرى بحكومة جديدة. لم يخترها أحد منهم. فلو كان لديهم خيار، فإنَّه سيكون على الأرجح خيارًا ما بين الطاعون والكوليرا.

موقف الأوربيين

تقع المسؤولية عن ذلك بالدرجة الأولى على عجز الديبلوماسية الأوروبية. لقد انضمّ الأوروبيون بتردّد وببطء وقبل كلِّ شيء بتأثير من إيطاليا، الدولة التي استعمرت الصومال في السابق، إلى "مجموعة الاتصالات الدولية الخاصة بالصومال، التي كان من المفترض لها منذ تولِّي الإسلامويين الحكم في الصومال أن تجد بالتعاون مع الولايات المتَّحدة الأمريكية ودول أخرى حلاً وسطًا - المنتدى الأمثل من أجل تمكين القوى المعتدلة.

بيد أنَّ المحادثات السلمية القليلة في العاصمة السودانية الخرطوم تمَّ إجراؤها تحت سقف جامعة الدول العربية - وبقت من دون جدوى. ذلك بالتزامن على ما يبدو مع بقاء الولايات المتَّحدة الأمريكية تعقد آمالها من دون أن يعترضها أحد على حلّ عسكري.

بينما كانت القوات الأمريكية تُعد العدَّة للحرب في شرق أثيوبيا، كانت مساعدة وزير الخارجية الأمريكي للشؤون الإفريقية جنداي فريزر تقوم بدور المحرِّضة. وفي آخر المطاف أدانت السيِّدة فريزر اتِّحاد المحاكم الإسلامية برمَّته كزمرة إرهابية، تقوم القاعدة بتوجيهها.

فرضت الولايات المتَّحدة الأمريكية في مجلس الأمن التابع لهيئة الأمم المتَّحدة قانونًا خالفت فيه إرادة الجميع ولكنَّها لم تواجه اعتراضات من قبل باقي أعضاء المجلس؛ أدَّى هذا القانون مرَّة أخرى إلى زيادة حالة التصعيد.

السؤال عن دارفور أيضا؟

لا يسمع المرء في أوروبا أيَّ شيء من ذلك. فعندما قام مفوَّض الاتِّحاد الأوروبي للمعونات التنموية والإنسانية لويس ميشيل، الذي خسر في بداية عام 2006 في الكونغو دور الوساطة الذي كان يقوم به، بالسفر يوم الأربعاء الذي صادف قبل الـ24 من شهر كانون الأوَّل/ديسمبر إلى بيداوة ومقديشو بهدف "التوسّط بين الطرفين"، كانت الآلات الحربية تسير على قدم وساق، من دون أن يكون لدى الأوروبيين أدنى علم بذلك. لقد كانت زيارة ميشيل إلى الصومال بمثابة دليل مخجل، يتَّضح من خلاله كيف كان الاتِّحاد الأوروبي يتعامل في الحقيقة مع قضايا الصومال.

لكن هناك أيضًا صورة جيّدة للحرب الأثيوبية المباغتة في الصومال. إذ أنَّ هذه الحرب أظهرت كيف يمكن لجيش نظامي محترف ومسلَّح تسليحًا جيِّدًا أن يدحر ميليشيات تحارب ببنادق الكلاشنكوف وبعربات خربة. أمَّا أنَّ هذا الهجوم يعتبر في الواقع خرقًا للقوانين الدولية، فذلك أمر غير مهم في هنا.

من الممكن لمثل هذه العملية أن تُخلِّص الملايين من مصائبهم وآلامهم، من الهجومات ومن حوادث الاغتصاب الجماعية ومن عمليَّات السلب والنهب ومن كلِّ ما يضطر سكان دارفور الواقعة في غربي السودان إلى مكابدتة منذ أربعة أعوام، حتى في داخل معسكرات اللاَّجئين التي يزعم أنَّها آمنة.

إنَّ كلَّ هذه الأفعال لهي عبارة عن جرائم ذات أبعاد، لم يقترف فيها أسوأ إسلاموي صومالي ما يمكن أن يحمِّله أدنى مسؤولية عنها. لكن يتحتَّم على دارفور أن تستمر في معاناتها. وأوروبا تبقَ ملتزمة بالصمت أيضًا في دارفور.

بقلم مارك إنغلهارد
ترجمة رائد الباش
حقوق الطبع قنطرة 2006

مارك إنغلهارد صحفي ألماني مختص بشؤون شرقي إفريقيا، نقيم في نيروبي.

قنطرة

الزحف الإسلامي في الصومال
بعد خمسة عشر عاما من الفوضى الداخلية تمكن الإسلاميون من إحكام السيطرة على أجزاء كبيرة من الصومال. لكن هذا التقدم الذي حققه "اتحاد المحاكم الاسلامية" وتزايد سلطة الاسلاميين يهدد الآن باندلاع حرب في المنطقة كلها.