انتصار الصفقات التجارية على المطالب بالديمقراطية

في ضوء زيارة العقيد الليبي معمر القذافي الأخيرة لإيطاليا يحلل برنارد شميد في مقالته الآتية دوافع الانفتاح في العلاقات الليبية الإيطالية، لاسيما في ضوء توقيع اتفاقية الصداقة والشراكة بين البلدين.

​​بعد وفاة عمر بونجو الذي حكم جابون، المستعمرة الفرنسية سابقا، من عام 1967 حتى بداية شهر يونيو/ حزيران هذا العام يعتبر القذافي أقدم رئيس دولة على وجه الأرض. وقد جاء إلى الحكم عام 1969، حيث كان على رأس مجموعة ضباط قامت بانقلاب ضد الملك الليبي إدريس آنذاك. ومنذ ديسمبر / كانون الأول 2003 لم يعد رئيس ليبيا و"قائد الثورة" معمر القذافي شخصا مارقا في الساحة الدولية. ففي هذا التوقيت أعلنت القيادة في طرابلس أمام الولايات المتحدة وبريطانيا العظمى تخلّيها رسميا عن اقتناء الأسلحة النووية والجرثومية والكيماوية.

على الرغم من ذلك - ومع أنه استعاد مكانته حاليا على الساحة العالمية – يود مستضيفو القذافي لو رأوا القعيد، المعروف بنظارته الشمسية، أن يروه في حالة الوداع بدلا من الاستقبال. هذا الإحساس تجاه قائد دولة ليبيا يشترك فيه – على الأقل منذ زيارته الأخيرة لإيطاليا – رئيس الوزراء الايطالي سيلفيو برلسكوني والرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي. وكان القذافي في زيارة رسمية للأخير في ديسمبر / كانون الأول عام 2007 استغرقت أسبوعا كاملا، على الرغم من أنه شخصية مثيرة جدا للجدل في فرنسا. وفي أثناء تلك الزيارة نفى القذافي أمام الكاميرا أقوال ساركوزي، عندما زعم الأخير أنهما أجريا محادثات ثنائية تضمنت "أيضا حقوق الإنسان". والآن كان القذافي ضيفا عند برلسكوني في روما من العاشر إلى الثالث عشر من يونيو / حزيران هذا العام.

اعتذار برلسكوني

جاءت زيارة القذافي لإيطاليا ردا على زيارة رسمية قصيرة قام بها برلسكوني للقذافي في 30 من أغسطس / آب 2008 في مدينة بنغازي شرق ليبيا. وآنذاك أثار برلسكوني حادثة خارقة، ألا وهي أنه اعترف بجرائم الماضي الاستعماري الإيطالي في ليبيا من 1911 حتى 43/1942، وذلك على الرغم من وجود بعض الوزراء اليمينيين المتشددين في حكومة برلسكوني. وعلى الرغم من وجود بوادر مصالحة بين الطرفين العام الماضي، إلا أن القذافي استفز مضيفيه أكثر من مرة أثناء تواجده في روما ردا على زيارة برلسكوني. فعلى سبيل المثال ترك مئات النواب والشخصيات، الذين كان من المفترض أن يُلقي خطابا أمامهم - ينتظرونه ساعتين كاملتين في آخر يوم من زيارته، الثاني عشر من يونيو / حزيران.

وبعد مُضي ساعتين من الانتظار، ولما لم يعتذر القذافي، ولم يبدِ سببا لتغيبه، ألغى رئيس البرلمان جانفرانكو فيني في الساعة السابعة بعد الظهر الموعد الأصلي الذي كان محددا في الساعة الخامسة، مما لاقى ترحيبا من بعض الحاضرين. وفيما بعد صرح السفير الليبي أن القذافي تأخر "بسبب صلاة الجمعة". لكن على الأرجح أنه تجاهل لقاء رئيس البرلمان لأن بعض محتويات نص خطابه تسربت إلى القذافي، حيث أخبرته مصادر مطلعة أن الإيطالي اليميني فيني ينوي نقده.

سخرية لاذعة بحتة

لقد أراد فيني توجيه النقد للقذافي في اليوم الثاني لزيارته في روما لأنه قارن قصف الولايات المتحدة لليبيا عام 1986 بهجمات القاعدة في الحادي عشر من سبتمبر / أيلول. كما أراد فيني مطالبة الرئيس الليبي بالسماح لوفد برلماني إيطالي بزيارة معسكرات استقبال المهاجرين (غير الشرعيين) – المُقامة على أرض ليبية - غير المرغوب فيهم في أوروبا "بُغية التحقق من احترامها لحقوق الإنسان الأساسية".

وإذا نظرنا للموضوع بإيجابية فإن هذا اللوم الذي خطط له فيني يعتبر نوعا من السخرية اللاذعة البحتة. فبالنظر إلى واقع المعسكرات التي يعاني فيها المهاجرون من الاستبداد والتعسف – في بلد لا يعرف دستوره حق اللجوء، مثل ليبيا – وبالنظر إلى معاملة ليبيا للمهاجرين الزنوج غير المرغوب فيهم كان اللوم يهدف إلى حظر تسفير المهاجرين من الاتحاد الأوروبي إلى هذا البلد، وهذا ما تفعله إيطاليا بالضبط.

منذ أول مايو / أيار هذا العام أُجبرت سفينتين على متنها لاجئون على الرجوع فورا من شواطئ جنوب إيطاليا وسُلِّم الركاب إلى السلطات الليبية دون التأكد من أحقية هؤلاء طلب اللجوء في إيطاليا، وبهذه الطريقة تم "تسليم" خمسمائة شخص إلى ليبيا.

سياسي ماكر ومحنك

إن القذافي لا يعتبر مغرورا فقط، ولكنه يعلم أيضا أن أوروبا لديها اهتمام كبير بالاحتياط الهائل من البترول والغاز الطبيعي للبلد الشمال افريقي. إنه أيضا سياسي ماكر ومحنك جمع خبرة كافية تجعله لا يعطي فرصة لزعماء الديمقراطية الأوروبية أن "يتدخلوا في شؤونه"، ولكنه يستطيع أن يقودهم إذا لزم الأمر. وكان من ضمن الاستفزازات التي سلكها القذافي مع الايطاليين أنه لدى وصوله إلى مطار روما كان يلبس بزة عسكرية عليها صورة، مقاس 10x 14سم، للمناضل عمر المختار عام 1931. من هذه الصورة علم كل الإيطاليين الذين يتابعون الإعلام أن لبلدهم تاريخا استعماريا أسود.

لقد بدأ احتلال ليبيا عام 1911 من قِبل جارتها الشمالية، وأجبرت على الاستسلام فترة حكم الديكتاتور الفاشي ببينيتو موسوليني (1922 حتى 1943). ويقدر المؤرخون أن عشرين ألف ليبي لقوا حتفهم في الكفاح ضد الاستعمار وأن مائة ألف تم ترحيلهم إلى معسكرات في الصحراء، ومن بين هؤلاء مات حوالي نصفهم من الفقر أو الأوبئة أو الإعدام، مثل "المناضل" عمر المختار.

مساعدة متبادلة

​​إن "الاعتذار القومي" الذي قدمه برلسكوني عام 2008 كان يتضمن أيضا اتفاقية تدفع إيطاليا بموجبها خمسة مليارات دولار أمريكي (ما يعادل في الوقت الحالي 3,4 مليار يورو) إلى ليبيا على مدى 25 عاما. وهذه الاتفاقية تقضي في الواقع بأن تستثمر إيطاليا مائتي مليون دولار سنويا كمساهمة في أعمال البنية التحتية في ليبيا، وتنص أيضا على شق طريق سريعة ساحلية من غرب ليبيا إلى شرقها، أي من تونس إلى مصر، وكذلك أيضا بناء "عدد كبير" من المساكن الشعبية.

علاوة على ذلك تعِد روما بتقديم منح دراسية للطلاب الليبيين ودفع معاشات لذوي العاهات الذين أصيبوا جراء الألغام المضادة للأفراد. وكانت الخدمة المقابلة موضوعة في حسبان برلسكوني الذي كان متحمسا لهذه العملية. فبمناسبة زيارته الرسمية الأخيرة أكد القذافي لرئيس الوزراء الايطالي أن "الشركات الإيطالية" ستحظى بــ"أولويات" في تنفيذ المشاريع بلده.

وتعتبر إيطاليا أول شريك تجاري لليبيا في الاستيراد والتصدير. علاوة على ذلك فإن التعامل مع المهاجرين غير الشرعيين وغير المرغوب فيهم في الإتحاد الأوروبي، - بغض النظر عن حقوق الإنسان – كان جزءا من "الاتفاقية" السياسية بين رئيسي الدولتين. وربما يكون ذلك هو "الجانب المر للاتفاقية" الذي تُظهره المصالحة بين البلدين في الظروف الحالية.

برنارد شميد
ترجمة: عبد اللطيف شعيب
حقوق الطبع: قنطرة 2009

قنطرة

إصلاحات سياسية في ليبيا:
خطابة ثورية أم تحوّل كلي؟
أعلن العقيد معمر القذافي العام الماضي عن عزمه تجديد الجماهيرية الاشتراكية وخصخصة القطاع العام. ولكن في آخر مؤتمر شعبي تم إلغاء بعض القرارات الخاصة بهذه التحولات، الأمر الذي يحيِّر الخبراء وأبناء الشعب. بيآت شتاوفَر تستعرض بعض مظاهر الحراك السياسي في ليبيا.

في اليوم العالمي لحرية الصحافة
الصحافي الليبي الذي ابتلعته الصحراء
استولى معمر القذافي على السلطة في جماهيريته قبل سبعة وثلاثين عاما، ومنذ ذلك اليوم وهو يتعامل بصرامة مع رجال الإعلام المشاكسين من أمثال الصحفي عبد الله علي السنوسي الضراط الذي لا يزال مفقودا منذ 33 عاما بدون أن تقدم الحكومة أي تفسير لغيابه او مكان اعتقاله. تقرير كتبه حميد سكيف

"القذافي الجديد":
التقارب بين ليبيا واوروبا، فرص ومخاطر
تتناول الباحثة في المعهد الألماني للدراسات الدولية والأمن الدولي إيزابيل فيرنفيلس خلفيات تطور العلاقة بين ليبيا وأوروبا وإشكاليات نظام الحكم في طرابلس.