دولة ''بابا'' السلطوية: تقمص إردوغاني للشخصية الأتاتوركية
نهاية الأحداث الحالية في محيط منتزه غيزي باسطنبول وتبعاتها السياسية لا تزال غير واضحة، إلا أن بالإمكان الإشارة إلى بعض التطورات الجديرة بالاهتمام في الوقت الراهن.
لقد بدأت تلك الأحداث بحفنة من حماة البيئة وسكان مدينة اسطنبول، الذين قاموا بالاحتجاج على مشروع لرفع مستوى حياتهم. وفي أعقاب ذلك الصراع، وجد متظاهرون آخرون، أغلبهم من الوسط اليساري، إضافة إلى مثقفين وليبراليين ومسلمين علمانيين ولادينيين وعلويين وأكراد، طريقهم إلى تلك الاحتجاجات.
ما تجدر الإشارة إليه هو أن من بين المتظاهرين الكثير من الشباب، إذ لا يتعدى عمر ثلاثة أرباع المتظاهرين الثلاثين عاماً. كما أن عدد الشابات غير المحجبات مرتفع بشكل ملفت للنظر، إلا أن بعض المحجبات يشاركن في الاحتجاجات أيضاً.
ما يوحّد المتظاهرين هو أسلوب الحكم السلطوي لرئيس الوزراء التركي رجب طيب إردوغان، بالنظر إلى القيود المفروضة على حرية الرأي، التي قادت إلى ظاهرة الرقابة الذاتية في تركيا، من بين ظواهر أخرى.
خطاب أميري
خطاب إردوغان، الذي يشبه خطاب الأمراء ويجرد المتظاهرين من ذكائهم وقدرتهم على اتخاذ القرار بأنفسهم ويفرض رؤيته للإسلام عليهم، إشكالي أيضاً. وبالنظر إلى ذلك، فالمشكلة ليست في كون إرودغان وقيادة حزب العدالة والتنمية الحاكم ينتمون إلى الطائفة السنية، التي تشكل الأغلبية في البلاد، بل هي في استئثاره بتفسير ما ينتمي للفضاء العام وما يخص المساحة الشخصية.
عندما تشير بعض التيارات في حزب العدالة والتنمية إلى فن الباليه على أنه فن "منحط" ويتم تقييد استهلاك الكحول بشكل ممنهج، أو حين يصف رئيس الوزراء الولادة القيصرية أو اتخاذ المرأة اسماً مزدوجاً بأنها أمور "غير إسلامية"، فإن ذلك كله يثير قلقاً من "أسلمة" تركيا.
وعلى الرغم من ذلك، لا يمكن الحديث عن حركة احتجاج شعبية تشمل كل طبقات المجتمع والنقابات والقطاعات الاقتصادية. ورغم كل النقد المحق الذي يوجهه المتظاهرون، لا يمكن تجاهل تمتع حكومة العدالة والتنمية بالشرعية الديمقراطية وأن غالبية الشعب التركي تنظر بشكل ناقد إلى حركة الاحتجاج.
لقد فاز حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه إردوغان ثلاث مرات بالأغلبية المطلقة في انتخابات حرة، كان آخرها انتخابات سنة 2011، التي حصد فيها نحو 50 في المئة من الأصوات. ومن خلال عتبة الـ10 في المئة لدخول البرلمان، تمكن الحزب من تكوين حكومة من حزب واحد تدير شؤون البلاد منذ سنة 2002.
أمل في تغيير سياسي
لقد كشفت الاحتجاجات الحالية بشكل واضح عن حالة من الإحباط والعجز لدى المتظاهرين، لأنهم لن يستطيعوا إسقاط حكومة العدالة والتنمية بوسائل ديمقراطية. هذا الإحباط لدى العديد من الشباب التركي يمكن مقارنته بالوضع في ألمانيا بعد 16 عاماً على حكم هلموت كول، إذ لا يعرف جيل إراسموس (جيل التبادل الثقافي مع البلدان الأوروبية) أو جيل الفيسبوك غير هذه الحكومة الإسلامية المحافظة، وهو يتوق لتغيير سياسي.
وفي مواجهة هؤلاء، تقف الغالبية المتدينة والمحافظة من السكان والكثير من كبار السن، الذين ما زالوا يتذكرون تركيا في تسعينيات القرن الماضي، التي كانت في حرب أهلية مفتوحة مع حزب العمال الكردستاني ووصل التضخم المالي فيها إلى 120 في المئة وكان المسلمون المتدينون يتعرضون للتمييز ضدهم في الوظائف.
يُحسب لحزب العدالة والتنمية أنه وصل إلى مرحلة التفاوض مع الاتحاد الأوروبي للانضمام إليه سنة 2005 بسبب سياسة نشر الديمقراطية التي اتبعها والتعديلات التي أدخلها على أنظمة التأمين الاجتماعي، والتي شملت العمل بنظام تأمين صحي حكومي، بالإضافة إلى سياسته الاقتصادية، التي أدت إلى مضاعفة دخل الفرد أربعة مرات تقريباً منذ سنة 2002، وهو أمر انتفعت منه كل طبقات المجتمع تقريباً.
الجمهورية التركية كديمقراطية "معطلة"
لكن التشريع الديمقراطي لا يضمن بالضرورة أن يكون التصرف ديمقراطياً. فعندما يدافع إردوغان عن سياسة خدمة مصالح حلفائه وخطابه التهجمي، يصبح من الواضح أن الديمقراطية لا تُفهم على أنها قيمة عالمية تضمن حقوق من يفكرون بطريقة مختلفة، بل على أنها أداة لتنفيذ المصالح الشخصية.
وفي هذا الصدد توجد هناك نقطتان يجب التعليق عليهما ترتبطان بالأبعاد الداخلية والخارجية لعملية نشر الديمقراطية في تركيا ويمكن لهما أن تفسرا إلى حد ما تصرفات حزب العدالة والتنمية.
النقطة الأولى هي أن تركيا ديمقراطية "معطلة". فالمشكلة المركزية للنظام السياسي هي مشكلة في الهيكلية وليست في من يتقلدون المناصب. ما يميز هذا النظام السياسي هو الإرث العثماني والكمالي، أي مفهوم الدولة الذي يؤسس لشخصية كاملة القدرة للدولة المركزية.
لذلك تقوم الدولة بدعم الإسلام السني (مذهب الأغلبية) والنزعة الوطنية التركية، اللذين يشكلان مكونين يمنحان هوية واضحة للدولة. والهدف من ذلك هو القضاء على مساعي الانفصال الكردية والعلوية. هذه المكونات الهيكلية تعبر عن الصفة الكمالية، وهي عقيدة مؤسس الجمهورية التركية كمال أتاتورك، التي تشكل جزءاً من دستور البلاد حتى اليوم.
وبالإضافة إلى ذلك، لا يركز الفهم الكمالي للجمهورية على أهمية الطابع المؤسساتي العام (أو res publica باليونانية)، بل على تفوق سيادة الدولة ومؤسساتها على سيادة الشعب، مما ينتج الشخصية الأبوية للدولة، أو "الدولة الأب" (devlet baba بالتركية)، في مواجهة مواطني الدولة، الذين تنظر لهم الدولة على أنهم "قاصرون".
من بين المميزات الهيكلية لهذا الفهم للديمقراطية غياب الفصل الواضح بين السلطات وأعلى عتبة انتخابية لدخول البرلمان في أوروبا (10 في المئة)، التي كانت تهدف إلى تحقيق الاستقرار السياسي على حساب مشاركة سياسية أوسع في البرلمان.
لم يخلق حزب العدالة والتنمية عيوب الديمقراطية الكمالية، لكنه ينتفع منها من خلال استغلالها لتحقيق مصالحه واستمراره في مخالفة وعوده الانتخابية بإزالتها.
تعثر عملية الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي
النقطة الثانية هي أن عملية توسيع الاتحاد الأوروبي متجمدة، والذنب الرئيسي في ذلك ليس رفض أنقرة الاعتراف بقبرص، بل هي ظاهرة استغلال الأحزاب المسيحية الديمقراطية المحافظة لانضمام تركيا وتوظيفها بشكل ديني وثقافي في أوروبا، وهي ظاهرة يمكن مراقبتها منذ عدة سنوات، إضافة إلى النقاش حول "الشراكة المتميزة".
تلك الأحزاب لم تنتقص من سياسة الانضمام المشروط للاتحاد الأوروبي وحسب، بل وأشاعت حالة من التغريب في تركيا، جعلت من موضوع انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي قضية لا يمكن التعويل عليها للفوز بالانتخابات. لذلك من الغرابة أن يحاول الاتحاد الأوروبي، بعد سنوات من عدم فتح صفحة جديدة في ملف محادثات الانضمام، تعليم تركيا في قضايا الديمقراطية والقيم.
ما هو ثابت هو أنه، وللمرة الأولى في تاريخ تركيا، يندلع صراع بين الحكومة وبين مجتمع مدني في طور التكوين دون تدخل الجيش، الذي فقد الكثير من نفوذه في عهد حزب العدالة والتنمية. هذا أمر جيد، لأن على الدول الديمقراطية أن تبقي مثل هذه الصراعات وتتحملها في الإطار المدني. لكن ما يمكن بحثه هو دور الشرطة، التي تتعامل بدرجة مفرطة من العنف مع المتظاهرين.
إن التعامل في تركيا مع الاحتجاجات سيؤثر على دور القدوة، الذي يُشار إليه كثيراً في سياق "الربيع العربي". فإذا ما تصاعد زخم الاحتجاج أو تحول إلى حركة شعبية، فلن يسع الحكومة سوى تقديم موعد الانتخابات البرلمانية المزمع عقدها سنة 2015.
لكن مساهمة أية حكومة جديدة في تحسين نوعية الديمقراطية وتجذرها في تركيا لا يزال أملاً مبهماً. وفي النهاية، كل بلد يستحق الحكومة التي انتخبها.
جمال كركاس
ترجمة: ياسر أبو معيلق
تحرير: علي المخلافي
حقوق النشر: قنطرة 2013