التركة الصعبة لعهد مهاتير
لم يسمع العالم الغربي في سياق انتهاء عهد مهاتير محمد سوى عبارات معاداة السامية التي وردت في خطابه الأخير الذي ألقاه أمام مؤتمر رؤساء حكومات الدول الاسلامية. ولكن الأمر الواقع هو أنه ُاعتبر في بلاده ومن قبل الفئات غير الاسلامية فيها على نحو خاص صرحا للاستقرار وتحديدا فيما يخص تكريس السلام بين الإثنيات والأديان المختلفة في بلاده.
بالإمكان بسهولة إثارة مشاعر الخوف من احتمال تصدع السلام في ماليزيا نظرا لطابع التمزق الذي يسود هياكل مجتمعها. فسكان الملايو الأصليون، علما بأنهم كلهم مسلمون، لا يشكلون بنسبتهم السكانية البالغة 60 % الأغلبية الساحقة، بل أغلبية بسيطة فقط.
أما الصينيون فهم يشكلون ثلث السكان ويُعتبرون منذ عهد الاستعمار البريطاني أنشط الفئات السكانية في القطاع الاقتصادي. يأتي بعد ذلك السكان المنحدرون من شبه القارة الهندية الذين يشكلون 8 % من مجموع السكان وهم من أتباع الديانات الهندوسية والاسلامية والمسيحية.
تركة صعبة
يعود فوز مهاتير في الانتخابات الأخيرة التي جرت عام 1999 إلى الناخبين الصينيين على وجه خاص. أما في صفوف سكان الملايو الأصليين فقد كفّ الكثيرون منهم عن تأييده بعد أن زجّ نائبه السابق أنور إبراهيم في غياهب السجون. وقد أدى ذلك منذ ذلك الحين إلى جعل حزب إسلامي معارض قويا وواسع الانتشار.
هذا يعني أن مهاتير،هذا الزعيم الكبير الذي رفع راية الحداثة، قد خلّف وراءه تركة ثقيلة. فالإجراءات التعسفية التي قام بها ضد خليفته السابق أنور أتاحت لأنصار الحركة الاسلامية فرصة الظهور بأنهم أكثر نقاء وأخوة وبالتالي "أكثر إسلامية" منه. لكن هذا يشمل فقط النصف الأول من التركة. أما النصف الثاني فإنه يتعلق بموضوع بالغ الحساسية، وهو وضع الامتياز الذي يتمتع به سكان الملايو المسلمون.
فهم يتمتعون منذ أكثر من 30 عاما بامتيازات عدة ويحظون على دعم لا تناله في أماكن أخرى من العالم سوى الأقليات التي عانت في السابق من سوء المعاملة. أي أن الوضع هنا عكسي، فهناك مقاعد مخصصة للدراسة في الجامعات ومنح دراسية ومناصب معينة ومشاركات في ملكية الشركات تقتصر على مسلمي ماليزيا لكي يستطيعوا فرض إرادتهم على الأقليات وخاصة الصينية منها.
انتقاد صريح إلى عنوان السكان الأصليين
لم يبتدع مهاتير هذا النهج السياسي لكنه كان الأب الروحي له. وعندما كان شابا متحمسا للأفكار القومية المتعلقة بإسلامية ماليزيا، ألف كتابا بعنوان "الدوامة الماليزية" حمل فيه على "الخمول الودي" لأبناء بلده. وكان المهاجرون الصينيون قد حلوا في عهد البريطانيين محل صيادي السمك ومزارعي الرز المفتقرين إلى الهمة والنشاط من أبناء البلد الأصليين.
وعندما نالت البلاد استقلالها عام 1957 لم يملك سكانها إلا أقل من 3% من ممتلكاتها، وذلك في بلد شاء سكانه الأصليون أن يتبوءوا دور الأسياد فيه.
بالإمكان اعتبار فشل سياسة منح مسلمي ماليزيا الأفضلية والامتيازات بعد انقضاء ثلاثة عقود على ذلك. فالهدف الاقتصادي المنشود، أي جعلهم يملكون 30% من ممتلكات الدولة، لم يتحقق. والأسوأ من ذلك هو أن منح الامتيازات لفئة دون غيرها عرقل مساعي التعايش بين الإثنيات وأساء إلى سمعة الاسلام، فالمسلمون في ماليزيا ينظر إليهم على أنهم يتمتعون بالأفضلية وهذا بدوره يزرع بذور الأحقاد.
وهنا يعود مهاتير إلى انتقاد أبناء بلده على نحو يفوق غيره من النقّاد. فهو يتهمهم بالكبرياء والقنوط وبالاعتماد الكلي على سياسة الامتيازات التي يستخدمونها بمثابة العكاكيز لكي يثبتوا بأنهم يتحلون بمركز اجتماعي أعلى من غيرهم بدلا من أن يرموا تلك العكاكيز ويتعلموا المشي على أقدامهم.
ويضيف مهاتير بأن ماليزيا لو اعتمد اقتصادها الوطني على مسلمي البلاد وحدهم "لكادت ماليزيا أن تصبح اليوم في مرتبة لا تزيد كثيرا عن مستوى بعض الدول الأفريقية النامية". لو كان مصدر هذه المقولة شخصا آخر غير مهاتير لتعرض للمحاكمة بتهمة التحريض على الكراهية العنصرية. فقوانين ماليزيا لا تسمح بأية مناقشة عامة حول هذه المسائل الدقيقة، أما مهاتير فهو وحده القادر على اختراق كافة التابوات.
فشل سياسة الامتيازات
هذه الحدة في الهجوم لا تخفي مقدار الخيبة والإحباط. فالعبرة من سياسة الامتيازات هي أن مثل هذه الإجراءات لا تملك تقصير الطريق نحو التقدم أو تعبيده وأن عقودا قصيرة من الزمن لا تستطيع تغيير عادات وتقاليد حضارية تمتد إلى قرون عديدة. فالصينيون ازدادوا من خلال سياسة التفرقة نشاطا وأصبحوا أقوى إرادة. ويقول مهاتير عن أبناء بلده إنهم لا يعرفون قواعد العمل وأعرافه ولا شعور الفخر بإنجاز الأعمال والنشاطات، ثم يضيف بأن ذلك يخلق لعلماء الدراسات الإثنية والأنثروبولوجية مجالا كبيرا للبحث والدراسة في ماليزيا.
أيقن مهاتير قبل فترة طويلة من تقديمه الاستقالة بفشل سياسة الامتيازات لصالح مسلمي ماليزيا، لكنه لم يجد نفسه قادرا على استخلاص النتائج واتخاذ الإجراءات اللازمة. لكن هناك حالتين استثنائيتين في هذا المقام، هما تمييع الامتيازات الخاصة بالالتحاق بالجامعات والتدريس في المدارس الابتدائية باللغة الإنكليزية، علما بأنه تم في الماضي استبدال لغة المستعمر باللغة الماليزية تشجيعا للهوية القومية للبلاد.
هناك مؤشرات بكون هذه الهوية ما زالت ضعيفة حتى اليوم، وهو ما يتضح خاصة في صفوف الأجيال الجديدة، فقد ازداد الاحساس بالغرابة بين أتباع الإثنيات والديانات. على سبيل المثال يرفض المسلمون والهندوس النوم في مكان مشترك. ومعظم المدارس تحتضن عمليا أتباع مجموعة عرقية واحدة. والهنود يرسلون أطفالهم إلى مدارس فقيرة تدرّس فيها اللغة التاملية ولا توفر في المستقبل فرصا مهنية جيدة. ولا توجد سوى أقلية ضئيلة تتحسس هويتها "الماليزية". أما الأغلبية فتتحسس هويتها كمسلمي الملايو أو كهنود أو صينيين.
لقد ترك مهاتير مهمة صعبة لخليفته عبد الله بدوي، وهو عالم إسلامي. فلكي يستطيع تفادي المزيد من الشرخ الإثني كان عليه أن يحرم المسلمين من امتيازاتهم وأن يمنعهم في نفس الوقت من الانخراط في صفوف الحركة الإسلامية بدافع الخيبة والسخط.
لا شك أن ماليزيا قد حققت الكثير من التقدم. لكن هناك خيطا رفيعا يفصل بين ما حققه مهاتير من النجاح وبين ما باء به من الفشل. تعتبر ماليزيا نموذجا نادرا لمزيج ناجح بين الإسلام والتطور. وكان صينيو ماليزيا دائما على قدر كبير من الحكمة عندما امتنعوا عن تقض هذه النظرة والمساس بها.
بقلم شارلوتة فيديمان، صحفية ألمانية مقيمة حليا في برلين وعاشت حتى قترة قصيرة في ماليزيا
ترجمة عارف حجاج