محنة "الوصايا" لم تكن الأخيرة

يعلم الكاتبُ العربيّ، منذ لحظة إمساكِه بالقلم، أن سقفًا للخيالِ وحريّة الفكر يظلِّلُ كلمتَه إذا ما نشد السلامةَ، والفرارَ من شرَكِ المصادرةِ لكتابِه بل ولجسدِه أيضًا على يدِ متعصِّبٍ أهوج. فاطمة ناعوت وحرية الإبداع في العالم العربي

إن الحريّاتِ التي تُمنحُ لكلِّ الكتّاب العرب مجتمعةً لا تكفي مبدعًا واحدًا" هكذا قال يومًا يوسف إدريس.الكلمةُ التي أخالُها تنطبقُ أشدَّ ما تنطبقُ على هذه الحقبة المريرة التي نحياها. أعادنا إلى اجترار المرارة في حلوقنا خبرُ اعتقال الشاعر السعودي "على الدميني" بمعرفة السلطات الأمنية السعودية لمجرد أن تجرأ ووقّع على وثيقة بيان تطالب السلطات السعودية بإجراء إصلاحات ديمقراطية داخل البلاد، وهو يقبع الآن داخل زنزانة منفردة، مثل أعتى السفاحين والقتلة، في ظروف غير إنسانية أدت إلى تدهور حالته الصحية والنفسية بطبيعة الحال تدهورا كبيرا.

تم اعتقاله بعدما قام المفتي السعودي بتكفيره هو ومن معه من المعتقلين. تلك الحقبة العجيبة التي نحياها، ليس بدءًا بأزمة الروايات الثلاث في مصر، ولا انتهاءً بمحنةِ الدميني ولا مرورا بمحنة "وصايا الشهاوي". فالكاتبُ العربيّ منذورٌ دومًا لخوضِ ساحتيّ رهانٍ لا واحدة مثل كلِّ مبدعي العالم.

فمن جهةٍ هو يجتهدُ أن يبدعَ إبداعًا أصيلاً مميِّزًا لبصمةٍ خاصةٍ يحلمُ أن يطبعَها على جسدِ الكيان الثقافيّ، وتلك جبهةُ الفنِّ، التي يلتقي فيها المبدعُ العربيُّ مع كلِّ مبدعي الوجود. ومن جهةٍ ثانية، يجتهدُ ألا يخرقَ قلمُه سقفَ المسموحَ الدينيّ أو السلطويّ – من وجهةِ نظرِ رجالٍ هم في الأغلبِ ليسوا مطَّلعين على كثير فنٍّ ومن ثم غالبا ما يكونون ذوي مكوّنٍ محدودٍ إبداعيًّا، الأمر الذي يجعلُ منهم قرّاءً حَرْفييّ التلّقي- وتلك هي جبهةُ الأمان والسلامة، الجبهةُ التي يتفرَّدُ بولوجها والنزالِ فيها الكاتبُ العربيّ وحدَه، دون سواه من كتّاب العالم.

فالكاتبُ العربيّ يعلمُ، منذ لحظة إمساكِه بالقلم، أن سقفًا للخيالِ و حريّة الفكر يظلِّلُ كلمتَه إذا ما نشد السلامةَ، والفرارَ من شرَكِ المصادرةِ لكتابِه ( مثلما حدث مع طه حسين ومصادره كتابه "في الشعر الجاهلي")، بل ولجسدِه أيضًا على يدِ متعصِّبٍ أهوج، غالبًا ما يكون غير مدرّبٍ على القراءة الحقّة واستيعاب (الآخر) بالمعنى غير السارتريّ، كما حدث في اغتيال فرج فودة و في محاولةِ اغتيال نجيب محفوظ.

وهؤلاء المنفذين لجرائم التصفيات الجسدية هم محض أداة – لا تعي – يحرّكها منظّرٌ قام بالدور، البريء ظاهريًا، بأن كفّر الكاتب أو أعلن ارتداده أو معاداته للنظام بينما هو في جوهر الحال القاتل الفعليّ والنافي للآخر بكل ما تحمل الكلمة من دلالة. أقول البريء ظاهريا لأنه لم يحمل خنجرًا ولا مسدسا، فبقت عباءته نظيفة من دم المغدورين، سوى أنه ارتكب الجريمة الأخطر حين حمل قلمًا ملوثًا بدماء الحرية والتعددية والديمقراطية.

وبينما نوغلُ في الألفيةِ الثالثة، وقد حظينا بمعاصرة وتجاوز كلِّ مراحلِ التطوّر البشريّ على الأصعدة الصناعية والثقافية والفكرية والفنيّة، ومع الاتساع المفترَضِ لسيادة الفكر الليبراليّ، تصيبني حالُ أزمةِ حريةِ القول، في مجتمعاتنا العربية، بما يشبه الدوار، حين تحيلُني هذه الأزمةُ التي نحن بصددها: أعني اعتقال علي الدميني ومن قبلها توصيةَ الأزهرِ بمصادرة وصايا الشهاوي، التي حكْمَ أحدِ أعضاءِ لجنةِ القراءةِ المنوط بها البت في الأمر في مجمع البحوث الإسلامية على المؤلف بالمروق من الدين والمطالبة بتوقيع حكمِ المفسدين في الأرض عليه، بالرغم من ثبوت عدم قراءة معظمهم للكتاب المتهم.

أقول تحيلني هذه الأزمةُ إلى زمن محاكمِ التفتيش في القرن السابع عشر وقتَ اتهمَ رجالُ الكنيسة "غاليليو" بالمروق من الدين لأنه تجرأ وزعم أن الأرضَ تدور مما جعلَ أبا الفلسفة الحديثة،الرياضيّ الأشهر" ديكارت" يحجمُ عن إصدار كتابِه "العالَم" حيث أرسل للأب "مرسن" رسالةً جاء فيها:"إذا كانت حركةُ الأرض باطلةً فإن جميعَ أصولِ فلسفتي باطلةٌ كذلك، لأن منهجَي العلميَّ والفلسفيَّ القائمَ بالأساس على نظرية المعرفة والميتافيزيقا تثبتُ حركةَ الأرض بما لا مجال فيه للإبهام والتشكيك،و على هذا لن أطبعَ كتابي مخافةَ بطشِ الكنيسة وفي ذات الوقت أرفضُ أن تُبتسرَ مخطوطتي وأقدمُ إلى قارئي منهجًا منقوصًا".

والشاهدُ أن تلك المجتمعات لم تفزْ بنهضتِها العلمية والفكرية و الفنيّة إلا بعد التمييز الحاسمِ والنهائيّ بين ما هو دينيّ و ما هو دنيويّ، فإذا كان ذلك شأنَ العلم، فالفنُّ والكتابةُ أحرى به وأولى.

ومن المفارقات المبكية كذلك تلك المقارنة التي تقفز إلى العقل حين نقارن بين حقبتين من الزمان يفصلهما عن بعضهما نصف قرن، الأولى في أوائل القرن الماضي حين نتذكر السجال الرفيع الهادئ الذي تم بين إسماعيل مظهر بعدما كتب " لماذا أنا ملحد؟"وبين محمد فريد وجدي، حينما ردَّ عليه بأن كتب" لماذا أنا مؤمن؟" ثم ثالث المثلث الرفيع أحمد زكي أبو شادي حينما كتب " عقيدة الألوهة ". والدلالة المريرة التي نخلص إليها من تلك المفارقة أن حكومات الاستعمار والرأسمالية و الإقطاع كانت أرفق بالمفكرين والمبدعين وأقل تعنتًا إزاء حرية الرأي من حكوماتنا الوطنية التحريرية الحالية ونحن في متن الألفية الثالثة.

حريٌّ بالأزهر إذن أن يؤديَ دورَه المنذورَ له وحسب، سيما بعد ثورة يوليو كجامعةٍ مدنيةٍ علمانيّة تدرّس العلوم الدنيوية والإنسانية إلى جوار العلوم التشريعية الثيوقراطية. وحريٌّ بالحكومات أن تتعقب الفساد الحقيقي إن كان ثمة محاربةٌ للفساد، فالفسادُ الحقيقي ملء السمع والبصر، والصمتُ عنه من قِبَل الأزهر والحكومات مفارقةٌ مُبكية، لا محلَّ لها من اللاهوتِ أو الناسوت. هذا الفسادُ الذي هو أكثرُ و أرحبُ وأشدُّ تعقيدًا، بل أكثر جلاءً من أن أسردَه في ورقتي البيضاءِ هذه.

فليرفعْ الأزهرُ والحكومات مِقْصَفَتَه عن أقلامنِا، وسَوطَه عن هاماتِنا، وليُقصِ سقفًا يكبِّلُ خيالَنا .هو الخيال ذاته الذي يصلُ حدَّ السماءِ عند كتّابِ المجتمع الآخر. حيث حريتُنا الوحيدة وأداةُ حياتِنا الوحيدة– نحن الكتّاب – هي فقط هذا الخيال الموؤود.

فاطمة ناعوت، صحفية وكاتبة مقيمة في القاهرة