الوكالة الألمانية للتعاون الفني تدعم ترميم وتطوير المدينة القديمة
أدرَجَتْ اليونيسكو مدينة حلب القديمة في عام 1986 على لائحة التراث الحضاري العالمي، والوكالة الألمانية للتعاون الفني GTZ تساهم منذ أعوام في مشروع "حماية وإحياء مدينة حلب القديمة"، كيف وجدتم حالة المدينة القديمة عند بداية المشروع؟
ماينولف سبيكرمان: بيوت حلب التقليدية ذات الفناء الداخلي، تمّ بناءها إستجابة لإسلوب حياة مُعيّن، ولعائلات كبيرة، ولعائلات تضم أجيال متعددة، فعكست بالتالي نمط ثقافة الحياة العربية. وبدخولها طور الحداثة منذ ثلاثينات القرن الماضي، تغيرت صورة هذه الحياة تدريجياً. فالعائلات القليلة الأفراد، راحت تسكن أكثر فأكثر في مساكن صغيرة. وهكذا فقدت البيوت التقليدية جاذبيتها مع الوقت.
في البداية هجرت المدينة العائلات المتيسرة الحال، مما أدى الى إنخفاض قيمة العقارات. بينما بقيت شرائح السكان الفقيرة فيها، إضافة إلى العائلات المعدمة التي إنتقلت اليها من الأرياف المجاورة. هذا النزوح تكثّف ما بين الخمسينات والتسعينات من القرن الماضي.
من ناحية أخرى لم يكن لدى غالبية الناس الفقراء الإمكانيات المادية لصيانة وترميم مبانيهم، وكانوا مهددين بفقدان مساكنهم. إذ أن البنايات كانت مهددة بالانهيار، ومن ناحية أخرى، وضمن إطار فهم خاطئ للتحديث، أهمل مجلس حلب البلدي المدينة القديمة بالكامل لفترة طويلة إستمرت حتى منتصف السبعينات. فبقيت البنى التحتية بلا صيانة، وتداعت شبكات المياه وشبكات الصرف الصحي، وتسربت المياه إلى أساسات الأبنية، التي تضررت بشكل كبير وباتت من جراء ذلك مهدده بالانهيار.
إعتُبِرت المدينة القديمة في تلك الفترة مُتخلِفة، وفضل الكثيرون النزوح عنها، ما أدى إلى تغيير التركيبة السكانية. ما هو الدور الذي لعبه التخطيط العمراني هنا؟
سبيكرمان: التخطيط العمراني دعم حتى السبعينات تهديم أحياء كاملة من المدينة بهدف "تحديثها". إلا أن التحديث كان يَعني: التخلص من النسج العمرانية القديمة وتبديلها بنسج جديدة. وكان مفهوم نسج العمارة الجديدة يعني شق شوارع كبيرة تخترق الأحياء القديمة، وإقامة الأبنية الجديدة متعددة الطوابق.
نحمد الله أن هذا المخطط التنظيمي للمدينة قد أُوقِف العمل به في عام 1979. حيث تم الإدراك، بأن التهديم يطال أكثر بكثير من مجرد الأبنية، إنه يطال بالتحديد مجمل هوية هذه المدينة وواجتها. فاتُخِذَت، بداية، إجراءات للحماية وللمحافظة على ما هو قائم فقط.
هل إستطاعت هذه الحماية والمحافظة أن تنقذ المدينة القديمة؟
سبيكرمان: لا. الحماية والمحافظة وحدهما ما كان لهما ان تكفيا لإنقاذ هذه المدينة. فالمدينة نظام يتفاعل مع عالم خارجي، تكمن فيها كل الصيرورات الممكنة؛ أكانت إقتصادية، إجتماعية أو ثقافية وهلمجرا. وحتى لو تُركت المدن على حالها كما هي، فسوف يؤدي ذلك عاجلاً أم آجلاً إلى إختناقها.
يجب على المدينة التاريخية أيضاً أن تستمر في تطورها! هذه هي أيضاً الفكرة الأساسية للإقتراح الذي يقُدِّم لليونيسكو، والذي يُرَشِّح مدينة قديمة للائحة التراث العالمي -اليونيسكو بدورها تتفق مع هذه الرؤية. وبناء عليه نشأ في عام 1993 هذا المشروع الألماني – السوري "حماية وإحياء مدينة حلب القديمة".
ما هي خطوات المشروع الأولى؟
سبيكرمان: ابتدأ المشروع بالترميمات الأكثر ضرورة، وطورنا في الوقت نفسه "نظام ضابطة البناء"، ورممنا واجهات لأبنية محددة . قمنا بذلك بداية لنعرض ما هو ممكن، ولنتعلم أيضاً من هذه التجارب.
حتى الآن جدّدنا حوالي % 70 من أنظمة التزويد بالمياه وأنظمة الصرف الصحي. وهذا يُعتبر إنجازاً كبيراً نسبياً، نظراً لوجود حوالي 300 كيلومتر من الأزقة والطرقات.
اليوم، يستطيع أغلب الناس الحصول بانتظام على مياه للشرب مجددا. الأضرار التي نشأت بفعل المياه الراشحة، جرى إزالتها بشكل كامل تقريباً. ومُنح مالكو ومستأجرو الأبنية قروضاً صغيرة، مكنتهم من صيانة وترميم الأبنية.
المشروع يهدف "للحماية والإحياء". وهذا لا يتعلق فقط بالمباني والمرافق العامة، بل أيضاً بالموارد البشرية، والإقتصادية، والثقافية والمجتمعية. هل إستطعتم تحقيق نجاحات في هذه المجالات أيضاً؟
سبيكرمان: الفكرة الأساسية هي، أن امكانية إنقاذ هذا الإرث التاريخي لا يمكن أن يتم فقط من خلال حماية المباني والمحافظة عليها، بل بإعادة تأهيل مجمل الظروف الحياتية بحيث تتلاءم مع الإحتياجات العصرية للسكان.
لذا نسعى لتحسّين البنية التحتية والخدماتية. علمنا أن أكثر ما تطلبه النساء في هذه الأحياء هو توفير رياض الأطفال والمراكز الطبية. فبنينا عددا منها بالتعاون مع مديريتي الصحة والتعليم. لكن مرافق كهذه لا يستطيع مشروعنا توفيرها بشكل وافٍ، ولكننا نستطيع أن ندفع بهذا الاتجاه. حالياً نقوم مع الجهات المسؤولة بتطوير مخطط طويل الأمد، لإيجاد حلول وبناء مرافق كهذه في كل أحياء المدينة.
كما نقوم بأعمال ثقافية لتحسين صورة المدينة القديمة. فعلى مدى عشرات السنين، كانت هذه الصورة مقرونة بطابع سلبي، وهذا ما يجب تغييره الآن. ويبدو لي أن إرتفاع عدد المطاعم والفنادق، في المدينة القديمة، دليل على تحسن مكانتها الإقتصادية.
أما ما يخص البنية الإجمالية للشركات فلا زال هناك الكثير لفعله من أجل تطويرها. نحن نسعى عبر سياسة إستقطاب موَجّهة، لإجتذاب الشركات إلى هذا الجزء من المدينة، وكذلك لدعم الشركات القائمة هناك.
لقد كان عملكم بشكل مباشر مع المواطنين. هذا الأسلوب ليس معهوداً في سورية، حيث المواطن يميل لعدم الثقة بالدوائر الحكومية. كيف كانت تجربتكم فيما يتعلق بالعمل المشترك؟
سبيكرمان: كان العمل صعباً في البداية. إلا أن الجانبين تعلما من بعضهما البعض. في البدء كانت هناك معارضة كبيرة للمشروع، حيث إرتفعت أصوات لم تفهم خلفية المشروع، وإدعت أن الألمان أتوا إلى هنا لإقامة بيوت دعارة. لكن بعد مضي وقت على العمل المشترك تكوَّنَ لدى السكان رصيد كبير من الثقة تجاه المشروع.
لقد خبروا أن هناك آذان صاغية للجميع بإستمرار، وليس فقط في الحالات الخاصة. وشاركوا بالتخطيط التفصيلي، سواء كان ذلك يخص تشكيل الفراغات العامة، أو أماكن تهدئة السير أو في التخطيط للبنى التحتية. التصاميم نوقشت مع السكان والتجّار وأُخِذَت إحتياجاتهم بعين الإعتبار.
كيف تعلل سبب هذه الثقة؟
سبيكرمان: أعتقد أن نيل الثقة هذا يعود بالتحديد لطول فترة المشروع. فهو لم يكن مجرد فكرة عابرة نُفذِت بسرعة.
فقد جرى على أرض الواقع، بإنتظام، تجديد البنية التحتية، على مدى أكثر من عشر سنوات. في البدء راقب الناس العمل، ولاحظوا نتائجه. من الصعب البدء بالصيرورات، لكن عند وصولها لمرحلة ديناميكية محددة، تُغذي هذه الصيرورات ذاتها بذاتها. مشروعنا في حلب وصل إلى هذه المرحلة الديناميية.
هل لاحظتم تغيراً في التركيبة السكانية بفعل تحسن القيمة العقارية؟
سبيكرمان: حركة البيع والشراء لا زالت في بدايتها بعد. وبالرغم من تحسن السوق، إلا أن الأعداد الإجمالية لا زالت ضئيلة. والسبب الرئيسي لذلك يعود لعجز قانون الإرث العربي.
ليس هناك تقسيم قانوني فعّال للأملاك الموروثة. فإذا كان لدى أب ما عشرة أبناء وأرض يوَرِثُها لهم، فقد تُقسم الأرض إلى عشرة أجزاء؛ ومن الممكن أن يكون للأبناء أبناء أيضاً، فتقسم الأرض من جديد وهكذا دواليك. هذا الواقع يُصعِّب تجارة العقارات إلى حد كبير.
لكن هذه مشكلة عربية عامة، وبالتالي لن يستطيع هذا المشروع حلّها. إنها مهمة تقع على عاتق الدولة. ومساهمتنا هنا ستقتصر على إجراء تحليل ودراسة للمشكلة بشكل منفصل ونقترح بعض الحلول.
متى سيكتمل العمل في المشروع؟
سبيكرمان: الدعم الألماني سينتهي في عام 2007. إلا أن مشروع الحماية والإحياء سيستمر بالطبع. 30 - 40 سنة هي المدة اللازمة لإنجاز دورة التحديث. هذه المدينة القديمة، وهذا المركز التاريخي، ببناه العمرانية والثقافية والإجتماعية، سيُكتب لهم المستقبل، فقط إذا توفرت لهم شروط التطور. الأمر لا يتعلق بالحماية ولا بإقامة ديزني لاند شرقي، بل بتطوير وإحياء المدينة بشكل مستدام.
المشروع في حلب يشكل مثالاً جيداً، ماذا عن المدن السورية الأخرى؟
سبيكرمان: المشروع يمثل بالتأكيد عامل تحفيزي في سورية. والحكومة السورية وجهت توصياتها لكل المدن، وحثتها لتبني النهج التكاملي لهذا المشروع.
إلا أن توجيه التوصيات لا يكفي. هناك إدراك لأهمية المشروع، و لكن مسألة التطبيق تبقى صعبة، ويجب تعلُمها والتدرُب عليها. حلب كان لديها عشرة سنوات للتعلم، ليس نظرياً فحسب، بل بالوقائع الملموسة. ويجري حالياً تطبيق هذه الخبرات على المدينة بأكملها.
من جهتنا سنقيم في ربيع العام القادم ندوة، لعرض إمكانية تطبيق نهج المشروع التكاملي في مدن أخرى. حيث سنجمع محافظي المدن السورية الكبيرة وعددا من ممثلي الجهات المسؤولة في الدولة والوزارات، وكذلك الجمعيات المانحة المُمَثلة في سورية، والاتحاد الاوروبي، ومشاركي التنمية اليابانيين، ولجنة الأمم المتحدة للتطوير، ومؤسسة الآغا خان على طاولة واحدة لنناقش معاً، إمكانية إعادة تجربة حلب في مدن أخرى.
أجرى الحوار يوسف حجازي
ترجمة يوسف حجازي
© Qantara.de 2004