برابرة الباتاك

المشنقة أو الخازوق: قوميون بلغاريون يهددون باحثيْن في تاريخ الفن يشتغلان بالبحث حول لوحة فنية. تقرير كتبته سونيا زكري عن الحملة اليمينية الموجهة في بلغاريا ضد باليفا وأولف برونباور، والتي تذكر بحملات القرون الوسطى.

اليوم، الأربعاء ستكون الأمور قد بلغت مرة أخرى الحد الذي يدفع بالمرء إلى التساؤل حول بلاد تعرض منحة مالية مقابلا لرأسي عالِميْن، وعما إذا لم تكن هذه البلاد في الحقيقة أقرب إلى العصور الوسيطة منها إلى منظومة الإتحاد الأوروبي الحديث.

ففي كل يوم أربعاء ويوم خميس تبث القناة التلفزيونية البلغارية Skat TV نداء إلى المواطنين من أجل الحصول على صورة للباحثة مارتينا باليفا وعلى عنوان إقامتها، وذلك مقابل منحة تقدر بـ2500 ليفا، أي ما يعادل 1250 يورو.

قناة Skat TV تنتمي إلى الحزب اليميني المتطرف Ataka الذي يعرض على صفحات الأنترنت شريط فيديو لتظاهرة حملة انتخابية يمكن أن يمثل امتدادا وتتمة لذلك النداء: "حبل المشنقة" لباليفا، و"الخازوق" لزميلها "اليهودي الألماني" أولف برونباور، ذلك هو ما ينادي به هذا الشريط.

لوحة مجزرة باتاك

منذ بضعة أشهر والأمور متواصلة على هذا النحو، وعندما تروي مارتين باليفا مضاعفات تطور هذه القضية تتملكها الحيرة والارتباك: "إلى حد الآن لا أستطيع أن أفهم ما الذي حصل. المسألة كلها قائمة على سوء فهم." سوء فهم مقصود وموجّه بإضمار حسبما يبدو. خلال الربيع الماضي وضعت مارتينا باليفا بمعية أولف برونباور، زميلها الباحث بمعهد الشرق الأوروبي بالجامعة الحرة لبرلين، برنامجا لمعرض وندوة حول لوحة فنية للرسام البولوني أنطوني بيوتروفسكي يعود تاريخ إنجازها إلى سنة 1892 وتحمل عنوان "مجزرة باتاك".

ترتكز اللوحة على حدث تاريخي وهي الجرائم التي اقترفها بلغاريون مسلمون ضد جيرانهم المسيحيين في مدينة باتاك سنة 1876. لكن الرسام بيوتروفسكي يجسد الواقعة بطريقة جعلتها تتنزل ضمن صحوة الوعي الوطني البلغاري. وهكذا، من خلاف محلي تحولت الواقعة إلى مسألة صراع مصيري للشعب البلغاري ضد الاستبداد العثماني: رجال معممون ينظرون بلامبالاة إلى أجساد النساء المغتصبات التي تشع بهالة من نور كريستالي؛ لغة بلاستيكية ذات مغزى واضح إذا ما وضعت في سياق ذلك الزمن.

قبلها كان بيوتروفسكي قد أعد مجموعة من الصور الفوتوغرافية كقاعدة لعمله، وذلك بعد مرور عدة سنوات على تاريخ الواقعة، وتحت تأثيرات نوع قائم بذاته من الأدب والرسوم الفنية المعادية للإمبراطورية العثمانية في ذلك الزمن. ثم برزت من بعدها وفي فترة متأخرة صور بطاقات بريدية عن كنيسة باتاك، تجسد كوَمًا من الجماجم وأكداسا مرصفة من العظام: ضرب من الإخراج اللاحق موظف لخدمة قضية الأمة.

إستخدام التاريخ في الدعاية

ما الحدث، وما الأسطورة؟ لم تحولت باتاك بالذات إلى قبلة للحج؟ ذلك هو ما كان برونباور وباليفا يريدان إثارة نقاش حوله. لكن ذلك لم يتحقق لهما. في شهر مايس/مايو وقبل موعد إنجاز المعرض في بلغاريا انهالت على الباحثيْن موجة عارمة من الحقد. وقد ذهب رئيس الدولة جيورجي بارفانوف إلى حد نعت هذه التظاهرة بأنها "استفزاز كريه"، لأنها تنكر واقعة المجزرة؛ تهمة كانت بمثابة توليع حريق.

"لم نضع أبدا هذه المجزرة موضع سؤال، لكننا كنا بطبيعة الحال سنتطرق إلى مناقشة التأويل ذي المنحى القومي الذي أُعطي لهذا الحدث"، يقول برونباور. لكن لا أحد في بلغاريا تعنيه هذه الفوارق الدقيقة: "كانت هناك حملة انتخابية أوروبية، والحزب الاشتراكي كان يسعى إلى اقتناص أصوات اليمين.

المؤرخون القوميون يتذرعون بحجة أن أوروبا قد طالبت بلغاريا بالكثير، و الآن تريد أن تنتزع منها تاريخها." أما مدير المتحف الوطني بوشيدار ديميتروف فيذهب في المغالاة إلى حد تطوير نظرية تدعي بأن هذا المعرض ممول من تركيا بهدف تلميع صورة فترة السيادة العثمانية وتهيئة المناخ لانضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي.

في الأثناء أصبح برونباور يعمل تحت حماية الشرطة في معهده، أما بالنسبة لزميلته فإن الأمر كان أكثر سوءا. في بيت والديها ببلغاريا عمد متعصبون إلى تلطيخ الجدران من أسفل إلى أعلى طابق بعبارات التهديد والدعوة إلى موتها، إلى جانب حصص التنكيل في أماسي الأربعاء على قناة Skat TV.

بيان تضامن

في الأثناء هدأت الزوبعة نسبيا. تخلت صحافة البولفار عن الموضوع، وأصبحت هناك مساهمات ومقاربات على صفحات الصحف الجادة وخاصة على صفحات الأنترنت تحاول أن تقدم مناقشة جدية لموضوع الخلاف، كما تؤكد باليفا.

كما هب مئات من الباحثين والعلماء البلغاريين للإمضاء على بيان تضامن مع الباحثيْن. ولئن مازالت هناك بعض الملصقات الثالبة التي تظهر على جدران الحي الذي تسكن به عائلة باليفا، فإن الجيران قد قاموا بفسخ الشعارات التي تشحذ الأحقاد ضد الباحثة البلغارية.

لكن نيران الحقد قد تندلع مجددا عما قريب. ففي نهاية شهر أكتوبر/تشرين الأول، من المفترض أن يتم تقديم كاتالوج عن المعرض الذي لم يكتب له الإنجاز، وذلك في برلين، داخل المركز الثقافي البلغاري كما يود ذلك الباحثان وهما شبه متأكدين من استحالة تلك الإمكانية.

"إذا ما انطلقت الحملة المعادية مجددا فأمنيتي على الأقل أن لا تتحمل عائلتي تبعات ذلك"، تقول باليفا. ومع ذلك تظل مقرة العزم على استغلال هذه الازعاجات لتحقيق شيء إيجابي ما من ورائها: "هناك 8 ملايين من البلغاريين يعرفون اليوم بأنه يوجد مفهومان مختلفان للأسطورة: الأسطورة كخرافة، وكتلفيق تاريخي للواقع." وحتى إن لم يكن بإمكان مجمل الثمانية ملايين أن يدركوا دقائق النظرية التاريخية ما بعد الحداثية، فإن شرائح واسعة من الرأي العام قد تلقت درسا بخصوص الاستعمال السياسي المغرض للتاريخ، "ولهذا الأمر وحده يمكنني أن أكون ممتنة لأولئك المأجورين ومثيري الحملة التشويهية التي تعرضت لها."

بقلم سونيا زكري
ترجمة علي مصباح
حقوق الطبع قنطرة/زوددويتشه تسايتونغ