شرخ داخل العائلة
"حياة الكلمات" رواية صدرت الآن باللغة الألمانية للكاتبة الفرنسية بريجيت جيرو، تتحدث فيها بصيغة الأنا على لسان بطلتها نادين عن تفاصيل حياتها اليومية في المدرسة. فولكنر كامينسكي الذي قرأ الرواية يقدم هنا قراءة نقدية لها، كاشفا عن مواقع الضعف فيها.
رأى كُتّابُ الرواية الألمان لفترةٍ طويلةٍ من الزمن أنَّ تأليف الروايات لا علاقة له بحركة وحبكة الرواية. وكادت كتابة الروايات ذات الهيكلية والتقسيمات الواضحة أن تكون موضع ازدراء. وتوجب بدلاً من سرد أحداث القصة تركيز الكَاتِب على الوصف المفصّل وإجراء التأملات والاستسلام للبصيرة. ويبدو لي أنَّ رواية "حياة الكلمات" لبريجيت جيرو تعود إلى هذا التقليد الروائي الحديث الذي عاد ليحلّ محله من جديد في الآونة الأخيرة نزوعٌ مكينٌ لصالح "القصة".
تفاصيل مملة
العنوان الفرنسي الأصليّ "J'apprends" "أنا أتعلم" مضمون الرواية بدقة. إذ تعيش نادين التي تروي بصيغة الأنا مع عائلتها في إحدى ضواحي مدينة ليون وتصف لنا حياتها اليومية في المدرسة بعناية شديدة. حيث تقوم في بداية الرواية بتفكيك رموز مجموعة من الكلمات التي تواجهها في الحياة اليومية، على غرار ما يفعله الأطفال الصغار. ومع حلول النهاية تغدو نادين تلميذة في المدرسة الثانوية وقد تراجع جلَدَها على التعلم نوعًا ما.
بين هذا وذاك تقع سلسلة لا متناهية تقريبًا من الحصص المدرسية، لا تهم القارئ في الواقع، وتدفعه ليتساءل أكثر من مرة عن سبب إشعاره بكل هذه التفاصيل المملّة –مواد مدرسية إلى غير مدى-، ثم لماذا يتعين عليه معرفة أنَّ نادين تعتني بدفاترها ذات الأوراق المخرومة، وأنَّها تلصق على الثقوب حلقاتٍ مقويَّةٍ بغية حمايتها من التمزق. كما يتم تسجيل كلَّ تفصيلٍ جزئيٍّ بأسلوب التقارير:
من ظهور أولى بُثُور الشباب، إلى بريد القصاصات الورقية التي يرسلها التلاميذ العشاق في المدرسة، إلى طعام الغذاء في المنزل. تتجلى نظرة الراوية على نحوٍ غير شخصي ومتحفظ. فليس هناك أسماء لأخواتها في النص ولا لأخيها غير الشقيق. أمرٌ يدفع المرء للتساؤل عن السبب.
غموض الأم
كانت بريجيت جيرو، وهي من مواليد عام 1960 في مدينة سيدي بالعباس في الجزائر، قد قامت بنشر كمٍّ وافرٍ من الأعمال (وقد تم نشر بعض رواياتها بالألمانية أيضًا). ويبدو أن اختيارها لمنظور الأنا لتلميذة مدرسة مهذبة في رواية "حياة الكلمات" قد كان لغرضٍ روائي.
إلا أنَّ نادين تكتم سرًا، ففي حياتها العادية في الظاهر هناك شيء جوهري ليس على ما يرام. دافعٌ لا شعوريٌ مجهول المصدر يقف في طريقها للتعرف على الذات. إنَّه أمرٌ يتعلق بنسَبِها ولا يتم الحديث عنه في البيت أبدًا. والدة نادين جزائرية. أما والدها فقد انفصل عن والدتها في وقت مبكر ويعيش مع امرأة أخرى ومع الأولاد الثلاثة.
إلا أنَّه ليس أمرًا نادرًا، أنْ يضطر أطفال الوالديّن المطلقيّن على احتمال تبعات الطلاق، والترعرع في عائلات خليطة حيث لا بدَّ من العيش مع زوجة الأب وأولادها. ويبدو أن الشرخ القائم في عائلة نادين أعمق من ذلك. إذ لا تستطيع نادين تقبُّل زوجة والدها، على الرغم من أنَّ الزوجة تسعى لذلك كما يظهر. ويبدو وكأنَّه لا بدَّ لنادين من التعبير عن ذلك مرارًا وتكرارًا فتسميها في النص بشكل متواصل "المرأة، التي ليست أمي".
إلا أن مشكلة نادين لا تتضح بالفعل، ولا يؤدي أيضًا ورود موضوع حرب الجزائر في النص بين وقتٍ وآخر إلى مزيدٍ من الوضوح. كما لا يغدو الكدر الكامن في كيان نادين ملموسًا، حيث تَظْهَرُ تسجيلاتُها مسرفةً في لطفها واستقامتها.
ولا يحدث في حياتها ما يتجاوز المألوف، فهي تنجز واجباتها اليومية، وتلتقي مع صديقاتها وتحتفل بالنجاحات الرياضية. كما تعكس حياة العائلة انطباعًا عاديًا للغاية، غير إشكاليّ على الإطلاق، كما يوحي لنا النص المكتوب على الغلاف الخلفي للكتاب، الذي يصف المدرسة باعتبارها "مفرًا محببًا لنادين" من المنزل.
داخل لغة غريبة
ورغم ظهور المعاناة النفسية لأخت نادين التي تكبرها عامًا واحدًا في السن، والإشارة إلى أنها تقطن في إحدى دور العناية بين الفينة والأخرى ولا تأتي للزيارة إلا بشكل عابر. إلا أن المحيط الذي تترعرع فيه نادين يجمع إثنيات مختلفة، ففي المدرسة هناك الكثير من أبناء وبنات المهاجرين، بحيث أنَّ نادين لا تعيش حالةً من العزلة.
لدى قراءة الرواية، يساور المرء الشك بأنَّ الكاتبة تخلع على قصتها الواهية موضوعًا سياسيًا، وكأنها تُسقِطُ مشاعر الاغتراب والوحدة على بطلتها الشابة. يتم التعبير عن هذا في إحدى الجمل المركزية، حيث تدوِّن نادين ملاحظاتها التالية: "لغتي الأم هي لغة غريبة عني". لماذا تأتي نادين على هذا القول؟ وهل تقصد هنا بـ "اللغة الأم" اللغة التي تتكلمها أمها الجزائرية؟ إلا أن نادين لم يكن لها أي اتصال باللغة العربية، وتكاد لا تتذكر أمها الحقيقية.
على ما يبدو تجري هنا المبالغة بغموض الأم الغائبة. حيث أنَّ نادين ملمِّة بلا شك بلغتها (الفرنسية) وتجد طريقها جيدًا في "حياة الكلمات". وهذا ما يفعله القارئ أيضًا في لغة جيرو الواضحة والمتحفظة. على الرغم من ذلك لا ينشدُّ اهتمامه إلى ما ترويه نادين عبر مسار القصة، ويخيب ظنه في نهاية المطاف، إذ لا ينكشف إلا ما ندر من قصة العائلة الجزائرية المرضوضة.
بقلم فولكر كامينسكي
ترجمة يوسف حجازي
حقوق الطبع قنطرة 2007