حينما بكت السيدة العذراء في مانهاتن!
سيدة شابة تقف بلباسها الساري الرمادي وسط محطة قطارات في مومباي وعلى وجهها ملامح الهدوء، بل الخشوع. الحياة الطبيعية، أكثر البديهيات هشاشة، تصخب من حولها. المارة يمرون بها بسرعة البرق الى درجة ان ملامحهم تبدو وكأنها خيوط. في وقفتها الهادئة نوع من التحدي ورصانة نظرتها مستفزة إلى حد ما.
صور عن الإرهاب
مرت ثلاث سنوات على التفجيرات التي بددت الروتين اليومي في محطة القطارات. المصور يوهان هيب زار المكان عام 2005، ليستشعر التغيرات التي فرضتها الاعتداءات على المنطقة. تُعرض صوره حالياً في "التجمع الدولي لفن التصوير" التاسع في حلب. عيسى توما، فنان ومدير غاليري "الجسر" نقل أعمال سبعين فناناً من سبع وعشرين دولة الى حلب، ثاني أكبر المدن السورية.
يعرض الفنان "هيب" ضمن سلسلة "اليوم التالي" صوراً من أماكن وقوع أعمال الارهاب. يكشف ببراعة ماكرة في التعامل مع حيادية تقنيات التوثيق عن حقائق وهمية: يعرض في إحدى صوره مبنى محطة القطارات للمواصلات الخارجية المشيد من الحديد والباطون المسلح على مساحة كبيرة. وها هما ثانية، العينان العميقتان والوجه ذوالملامح الجادة. المشاهد يلتقي السيدة الشابة للمرة الثانية في الصورة نفسها.
يقول الفنان الألماني من مدينة ميونيخ إن "هذه الصور مركبة" ويضيف ان واقعية الصور تتزعزع عند النظرة الثانية. ويضيف "أريد لفت النظر الى اساءة استعمال الصور كأدلة".
لا مكان للمستقلين في سورية
كان عيسى توما، مدير المعرض ينوي عرض أكثر من ألف صورة في محطة توليد الكهرباء القديمة في حلب، إلا أن بلدية المحافظة رفضت فجأة إعطاء موافقتها وبهذا لم يعد ثمة مكان للعرض. يقول عيسى توما إن "الحكومة تريد ان يتم عرض الأعمال الثقافية في مراكز أوروبية مثل معهد غوته أو المعهد الفرنسي، حيث يستطيعون مراقبة كل شيء". وبعد صمت لم يدم طويلاً يضيف توما "الأشخاص غير التابعين لأية جهة لا يحق لهم الحياة."
يعمل توما منذ عشر سنوات على مستوى دولي وله اتصالات مع فنانين في جميع أنحاء العالم. وقد لمحت له الحكومة مرات عديدة بأنه يتعدى حدود المسموح. وتم إغلاق معرضه في إحدى المرات لأشهر عديدة.
يقول رافعاً كتفيه متعباً: "أنا لا أعمل معهم وهم يعلمون ذلك تماماً". إلا أنه لا يسمح لليأس بأن يجد طريقه إليه. فبدلاً من الاستسلام يعرض الصور في معرضه الصغير على دفعات. فبدلاً من أن يستمر المعرض أحد عشر يوماً، كما كان مقرراً، مدده الى شهر ونصف ليعرض كل الصور بالتتابع.
السيدة العذراء في مانهاتن
يعمل فنانون آخرون، مثل ريني هوكمانز، على مستوى تجريدي فترتسم أبعاد الشرق الأوسط في ذهن الناظر: ترمز الفنانة الهولندية في صورها الذاتية الى الصراعات العالمية. فهي دائماً جالسة على مرتفع تحمل في ذراعيها جسما في هيئة انسان. وتقول موضحة انها تقلد وقفة السيدة مريم العذراء في صورة العطوف حاملة ابنها الميت، وتضيف ان "هذا الرمز في كل أنحاء العالم ليس مجرد رمز كاثوليكي، إذ أن في كل زاوية من العالم أمهات فقدن أبناءهن."
وفي إحدى الصور نراها تجلس في مانهاتن ممسكة بدمية بيضاء بريئة، الحزن الصامت، الخسارة اللامنطقية فيما تمارس مدينة (نيويورك) حياتها اليومية رغم كل شيئ: الحادي عشر من سبتمبر/أيلول ليس مجسماً بشكل مباشر، إلا أن الترابط موجود في هذه الصورة.
المدينة القاحلة
أما العوطف الجياشة المعروفة في قصص ألف ليلة وليلة فلا نجدها في أي من الصور ولا حتى أيضاً في الصور التي قدمها الفنانون الشرقيون. يقدم الفنان السوري بيدروس تاميزيان عالم المدينة الكبرى القاحل. نشاهد في صوره سورية المليئة بالمباني والانهيار المتحضر. يصور سوريا مليئة بمرتفعات من الباطون المسلح المسكون بالبشر. لم يعد المرء يشعر بالامان هناك.
أتاح المعرض لقاء الغرب والشرق في أفضل صورة، حافظ خلاله كل من الطرفين على استقلاليته ولكنه فتح بالمقابل نوافذ جديدة على الآخر كما على الذات أيضاً. في صورة للفنان الأميركي فانس جاغوبس تقف فتاة صغيرة غريبة مشوهة الملامح مبرجة بزينة الموت للاشتراك بمسابقة ملكة جمال للأطفال.
وتصور الفنانة اللبنانية رانيا مطر فتاة أكبر سناً من الفتاة في الصورة السابقة لابسة الحجاب بكل خشوع وعناية. المتفرج يقرر من خلال ذلك أي مجتمع يتيح لهما التأقلم مع محيطهما بشكل أفضل. على كل حال الكليشيهات المعهودة بدأت تتهاوى.
حضر الافتتاح ما يقرب من أربعين مصوراً فناناً. وفي اليوم التالي التقى مفتي سوريا الكبير، أحمد حسون مع مجموعة الفنانين المشاركين وقال: "انهم يحملون رسائل من مكان إلى آخر. أحياناً تكون رسائل جمال وحظ وأحياناً أخرى رسائل حزن واضطهاد." وتكلم حسون بعد ذلك عن التسامح وعن وحدة الطريق الى الله لدى الديانات السماوية الثلاث. وأبدى الحاضرون اعجابهم بالتقاليد الاسلامية المنفتحة على العالم في سوريا، "الدولة المارقة".
بقلم غابريلا كيللر
ترجمة منال عبد الحفيظ شريده
حقوق الطبع قنطرة 2006