ضرورة تجاوز المغالاة في «تقديس» أفكار ابن رشد
لطالما وضَع التنويريون العرب، قاضي قضاة قرطبة أبا الوليد بن رشد، في مكانة سامية، حتى نزّهوه عن أي نقد أو مساس، بل أخرجوا أفكاره من زمنه وسياقه، ونصّبوه حامل لواء التنوير في عصرنا الحديث ضد الرجعية والأفكار المناوئة من اتجاهات التيارات الدينية. فابن رشد هو التنويري الأول وهو «الفيلسوف العملاق» و «آخر فلاسفة العرب والمسلمين» وفق تعبير الأكاديمي المصري الراحل عاطف العراقي المعروف كأحد أعتى «الرشديين». ووصل الابتعاد بابن رشد عن الانتقاد وتحميله عبء التنوير والمواجهة الفكرية إلى وضعه في منزلة تشبه منزلة القداسة. فمنتقدو أبي الوليد في وجهة نظر العراقي مثلاً «أشباه باحثين» و «مدعو تنوير» و «ناشرو الكذب». هذه الحماسة وضعت ابن رشد في وجهة النظر المقابلة من منتسبي الاتجاهات الدينية، في منزلة الصنم الذي يجب هدمه، اجتثاثاً للأفكار التنويرية غير الثابتة أصلاً في التربة العربية. بين هؤلاء المغالين في تقديس ابن رشد وصولاً به إلى درجة الكهنوتية والآخرين الراغبين في هدمه هدماً لجهود التنوير، لم يوضع ابن رشد كثيراً في الميزان العقلي، وكأن دعواته لإعمال العقل جافت أفكاره ذاتها، حتى وصلت إلى درجة من الثبات والدغمائية، لذا كان من المهم أن ترفق الطبعة الجديدة من كتاب «فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من اتصال» لابن رشد الصادرة عن سلسلة «التراث الحضاري» (الهيئة المصرية العامة للكتاب) بدراسة حيوية ناقدة و «ناقضة» لأفكار ابن رشد أعدها الباحث المصري مدحت صفوت. فالدراسة التي اعتبرتها الروائية ورئيسة تحرير السلسلة سلوى بكر، «رؤية معبرة عن أجيال جديدة تنظر إلى الحياة والفلسفة والتاريخ وتطور الأفكار وصراعها من منظور مغاير»، اختارت أن تنحاز انحيازاً حقيقياً إلى دعوة ابن رشد لإعمال العقل، بأن وضعت أفكار الكتاب الأشهر لفيلسوف قرطبة على طاولة التشريح النقدي، مستعينة بإستراتجيات التفكيك، في قراءة «فصل المقال»، وهو ما ينسجم مع تخصص صفوت في مجال تحليل الخطاب، وهو الحاصل على درجة الماجستير حول «تلقي النقاد العرب لإستراتجيات التفكيك»، المطبوعة في كتاب بعنوان «السلطة والمصلحة». ويجيب الباحث في مطلع دراسته، التي اقترب عدد صفحاتها من عدد صفحات الكاتب ذاته، عن سؤال: لماذا ابن رشد الآن؟ وهو سؤال ينفي به شبهة استدعاء قاضي القضاة لتقديم «روشتة تنويرية لحل مشكلاتنا، أو ليرسم لنا طريق الخلاص الفكري من الأزمات التي تتلاحق علينا»، وهو العبء الذي أثقلَ به المفكرون العرب كتفي ابن رشد كثيراً. من هنا ينفي صفوت أن استحضاره ابن رشد رهين هذه النظرة المحدودة، ويؤكد أن الحاجة الرئيسية الآن هي «فهم ابن رشد والإحاطة برؤيته وفلسفته في إطار زمنه وسياقه التاريخي، ثم نقد ابن رشد والرشدية، حتى نقضهما وتقويضهما على النحو الذي يسمح بتجاوزهما وتخطيهما تمهيداً لتقديم رؤية راهنة تكون ابنة السياق الحضاري والثقافي الذي نعيش فيه».
إذن يعلنها صفوت بأن مساره سيكون على عكس ما اعتدناه، وأن دخول ابن رشد هنا في هذا السياق سيكون بالأصح خروجاً. ويحتمي صفوت بمارتن هيدغر وجاك دريدا، في استعداده لـ «نقض» الرشدية، فالأول يمنحه الثقة في أنه «لا مانع من أن نوجه نحو الموروث الرشدي معاول الهدم»، والثاني يدفعه إلى الدخول في «الهدم» باعتباره «لعبة لا نهائية». وإن اختار الباحث الانحياز إلى لعبة دريدا اللانهائية في قراءته ابن رشد، مفضلاً على الإجابات وضعَ الأسئلة «المشروعة»، على حد قوله، على المنتج العربي الكبير الذي دار حول ابن رشد والرشدية. ويرى مدحت صفوت أن ثمة أسباباً عدة دفعت التنويريين العرب إلى اللوذ بابن رشد، منها الانتماء الأيديولوجي والموقف من السلطة السياسية، وتفضيل الدخول في الخانة الآمنة «النخبوية»، وعدم الاشتباك مع الواقع، باللجوء إلى جزء من التاريخ والتراث يمنحهم «صك المشروعية»، ويكون بمثابة أب شرعي للخطاب «الوافد» أو «قناع يمرر من خلاله التنويري خطابه الغريب عن السائد». هنا، يدخل الباحث في سؤال آخر عن مدى الخطورة التي صنعتها هالة تقديس وضعها التنويريون حول ابن رشد، منتجين بذلك «صورة متخيلة» للرجل، تصل بهم إلى حد السقوط في هاوية التعصب، ما يعني أن «التعصب للتراث والسلف ليس مقصوراً على السلفيين فحسب، وإنما هناك من التنويريين والعقلانيين الذين لم يبرحوا القرن السادس الهجري». مصيبة ما سبق، أن هؤلاء تعاملوا مع التراث الرشدي، وفق رؤية صفوت «خارج أطر التاريخ» وهو منطق الأصوليين ذاته، «حتى بات النص الرشدي في عيون المحدثين كنص أرسطو من وجهة نظر ابن رشد أنه منتهى ما وقفت عليه العقول الإنسانية». ويعدد الباحث أمثلته على الهوة الكهنوتية التي سقط فيها العقلانيون العرب نتيجة تقديهم ابن رشد بوصفه المُخلّص واجب الاتباع والسير خلفه، مثلهم في ذلك مثل منتسبي التيارات الدينية، منها ما ذكرناه في مطلع المقال من العبارات «المفتقدة الانضباط» التي ردّدها العراقي عن مؤلف «تهافت التهافت». لا تتأتى خطورة الدخول الشامل في عباءة ابن رشد والرشدية فقط في الشكلية المتمثلة في تقديس قاضي القضاة، ولا من أن أخطاراً عدة تنشأ من ظلم أفكاره بإخراجها من زمنها وسياقها الحضاري، فالخطورة الأكبر في الفخاخ المنصوبة، منها فخ السقوط في شبح الشيخ أبي حامد الغزالي الحاضر بقوة في عديد من مؤلفات ابن رشد، الموضوعة في سياق الجدال مع أفكار الغزالي حول مدى حرمانية أو إباحة الاشتغال بالفلسفة. فكتاب «فصل المقال» رسالة حول حكم دراسة الفلسفة، وتنظيم العلاقة بين «الحكمة» و «الشريعة» وحول حدود التأويل. ومن هنا فابن رشد محاصرٌ حصاراً مطبقاً بشبح الغزالي لحد أن أبا حامد هو من يتمكن من فرض «رؤيته ولو في شكل غير معلن»، الأمر الذي ينتهي إلى خنق أبي الوليد ويدفعه إلى هدف محدود يسميه صفوت بـ «عقلنة الإيمان»؛ أي إصباغ الإيمان بالصبغة العقلية. خلال هذه المطاردة العتية من شبح الغزالي، لابن رشد، يسقط فيلسوف قرطبة في الفخاخ الأخرى، من بينها «التكريس للسلطة المقدسة» و «الوقوع في شرك الكهنوتية»، وإن بدت هذه المرة كهنوتية فلسفية، فكما تضع التيارات الأصولية علماءها في منزلة منزّهة، مصبغة عليهم «قداسة مكتسبة» تبعدهم عن النقد أو المساءلة الفكرية، يضع أبو الوليد «أهل البرهان» (الفلاسفة) في منزلة أعلى من الناس، ويقصر حقوق النظر والتأويل عليهم، من دون بقية الجمهور. مثله مثل الغزالي الذي يصنف الناس صنفين، هما عوام وخواص، وهو ما يفعله ابن رشد حين يقسم الناس إلى أصناف ثلاثة، هم الخطابيون (الجمهور) والجدليون (أهل الجدل فقط) والبرهانيون.
ويصل الأمر بابن رشد إلى درجة «تكفير من يفشي الأسرار المقدسة» فمن «يصرح بشيء من التأويلات لمن هو من غير أهلها، وبخاصة التأويلات البرهانية أفضى بذلك بالمُصرَّح له والمصرِّح إلى الكفر»، وهو موقف الغزالي ذاته الذي يكثر من الاستشهاد بـ «لا تعلقوا الدّر في أعناق الخنازير» شارحاً المثل بأنه إفشاء المعرفة لغير أهلها. هكذا يتابع مدحت صفوت في دراسته، التي اختار لها عنواناً لافتاً هو «صوت الغزالي وقِرطاس ابن رشد»، الطغيان الشبحي للغزالي على فيلسوف قرطبة، ليبدو أن المختلف عليه بينهما هو عملية المعالجة فقط، وطرائق التعاطي مع المعطيات، لينتهى الأمر وفق الباحث بـ «موت ابن رشد بعد أن تقلصت مساحات نفوذه»، وهو ما يتسق مع ما أعلنت عنه الدراسة في غرضها بضرورة «فهم ابن رشد، ثم نقده حتى نقضه وتقويضه على النحو الذي يسمح بتجاوزه لتقديم رؤية راهنة».