عندما يتوقف العقل عند الماضي وموضوع الخلافة - عزمي عاشور

عندما يتوقف العقل عند الماضي وموضوع الخلافة - عزمي عاشور

أصبح الحديث عن الإسلام وما يرتبط به من ثقافة وسلوكيات من الأمور التي تتطلب جدية في البحث على اعتبار أن هذا المكون بات رافداً أساسياً في تشكيل عقلية وتصرفات الأفراد داخل المجتمع. والخطورة هنا لا تكمن في أن الدين الإسلامي كمكون لثقافة المجتمع، فهو إحدى الديانات التي جاءت وارتقت بإنسانية البشر، وإنما تكمن في أن هذا الدين تباينت بشأنه عملية التفسيرات وهيمنت فيه التأويلات المرتبطة بالماضي، بصرف النظر عن مدى صحة مضمونها، وندرت فيه التفسيرات العصرية المدركة لسنن التطور للمجتمع البشري.

والقرآن الكريم نفسه في آيات كثيرة أسس لهذا المبدأ، وهو مبدأ التعلم من تداول الأيام واستخلاص السنن والعبر والأحكام منها. وأن عملية الإيمان بالخالق هذه لا تقتصر على البشر بمن فيهم المسلمون وإنما تشمل المخلوقات الأخرى. فالمخلوقات كافة تسبح باسمه تعالى. ومن هنا يتأصل مبدأ مهم يتمثل في عدم الاحتكار والتعلم من السنن الكونية في ما يتعلق بالمعرفة. فعملية الإيمان والتدين ليست حكراً لا على الإسلام ولا على أي دين آخر. فكل له منهجه الذي يعبد به خالقه. وبالتالي احتكار الدين وتوقيف الزمن وتوقيف عقل المجتمع على فترة زمنية ترجع إلى السلف في تفسيراتهم وفي رؤيتهم للحياة والواقع إنما هو باطل يدحضه الدين بالمبادئ العامة التي جاء بها.

وتتبدى عملية توقيف عقل البشر على مرحلة معينة من التاريخ في قضايا كثيرة لعل أبرزها قضايا خلط الدين وإقحامه في أمور تحتاج إلى استخدام العقل وليس الاعتماد على أفكار كانت محكومة بظروف العصر التي ظهرت فيه. وفي هذا الإطار يجب التمييز بين المبادئ والقيم التي جاءت بها الأديان، ومنها الدين الإسلامي، وبين الأفكار البشرية وما يستجد فيها من تطورات وتغييرات، حيث في الحالة الأولى الأفكار والقيم أمور ترتبط بالأساس بالفطرة البشرية وبالتالي فالقيمة نفسها المرتبطة بهذه الفطرة والتي ارتضاها البشر وأكدتها الديانات المختلفة قد لا تختلف في مضمونها في الماضي عنها عما هو موجود الآن. فمثلاً قيمة العدل أو قيمة كالحرية ترتبط بالفطرة قد تكون تعرضت للانتكاسة في مراحل معينة، إلا أن بوصلة الإنسانية تسعى للتمحور حولها مهما كان الابتعاد.

ومن هنا فعند دراسة تاريخ القيم الإنسانية لن نجد لها جنسية واحدة تحتكرها، فهي ملك لكل البشر، وقد أسهمت في إثرائها ليس فقط الديانات السماوية وإنما غير السماوية أيضاً والحضارات الإنسانية التي تعاقبت على مدار آلاف السنين، بما فيها الحضارات التي سبقت ظهور اليهودية والمسيحية والإسلام، لأن السنن الكونية ليست مرتبطة في التصاقها بعملية التدافع والتفاعل في المجتمعات بنزول الديانات وإنما جاء ارتباطها بشكل أساسي مع بداية الخليقة. ولذلك كانت السنن الكونية متحققة منذ هذه اللحظة وإلى الآن ونافذة سواء كان ذلك متوافقاً مع التفسيرات الدينية أو متعارضاً معها، مع التسليم بأنه ليس بالضرورة أن كل ما هو تفسير ديني يكون مرتبطاً بالحقيقة. فمسألة الرزق، بمنطق الدين، لا تقتصر على فئة تدين بدين دون أخرى، ولا تقتصر على أصحاب الديانات السماوية دون الديانات الأرضية، ولا على المؤمنين دون غير الذين لا يعرفون الخالق، فهذه السمة تعم الكل. فمسألة الرزق ترتبط بقوانين الحياة كالأخذ بالأسباب عند طلبه، بأن يكون هناك سعي وبذل جهد للحصول عليه.

وهذا منطق طبيعي، لأنه إذا كانت هناك وحدة في الخلق، مثلاً، للجنس البشري من حيث التكوين العضوي والشكل، فذلك يستتبع أن توجد سنن كونية حاكمة غير سنن وقوانين البشر لا تستثني فئة عن أخرى في ما يتعلق بوجود هذا الإنسان. ومن هنا فهذه الوحدة في السنن الكونية الحاكمة على الكل تدحض احتكار أي فئة بالدين، وتجعل من كل الدينات بمثابة رسائل إرشادية في مسائل جاءت في فترات زمنية معينة لإرشاد البشر إلى اكتشاف حقيقة جوهرهم. ولعل أول شيء كانت تؤكده هذه الديانات هو الحرية، ليس فقط من الاستبداد والقهر، وإنما حرية العقل بمعنى أن يؤمن المؤمن بالخالق عن طريق العقل والاقتناع وليس عن طريق الاتباع. إلا أن الخطورة كمنت أن الدين الذي تحول إلى عادة وإتباع، أصبح مع مرور الأيام ومع كثرة التفسيرات وتفشي الجهل والفقر، أداة لسلب عقل وإرادة البشر وتحويلهم إلى خاضعين ومستسلمين، ليس فقط أمام تعاليم الدين بصرف النظر عن الصحيح منها والمشوه، وإنما أيضاً أمام الأسطورة. وأصبح الإنسان البسيط في ظل هذه الظروف ضعيفاً وملجأه هو الدين أو الأسطورة. وبناء على ذلك تعاظمت وقويت سلطة كل من تكلم باسمه أمام هؤلاء الضعفاء من البشر.

ومن هنا استبدَّ أصحاب السلطة الدينية التي أخذت تتفحل وتتوغل نتيجة إلغاء العقل في هذه المجتمعات. وترعرع السلطة الدينية هذا أخذ أشكالاً، مختلفة سواء داخل المؤسسة الدينية الرسمية أو خارجها من طريق تفشي ظاهرة الإسلام السياسي في شكل جماعات وفرق تبني شرعيتها على النهج نفسه المرتبط باحتكار الدين وبتفسيراته الماضوية، مستغلة في ذلك ضعف البشر الناتج مِن الفقر والجهل والقمع الذي تمارسه السلطة السياسية لنشر فكرها. ومن هنا استطاعت هذه الجماعات أن تطلق أفكاراً أشبه بالأسطورة منها بالحقيقة ومحاولة إلباس الماضي بالحاضر المختلف كثيراً عنه، بخاصة على مستوى الأفكار وتطبيقاتها الذي يؤكد تاريخها أن الصالح منها يجد طريقه التلقائي للتطبيق.

ولعل أبرز الدعوات التي تحملها هذه الجماعات سواء المعتدل منها أو المتطرف هي الدعوة لعودة الخلافة الإسلامية. وكثرت تحت هذا المسمى أفكار كثيرة فضفاضة لا تمت بصلة للواقع الذي تنادي برفضه.

فعند النظر إلى فلسفة الحكم في الوقت الحاضر في النظم السياسية الغربية، نجد أنها تميز بين معنيين: الأول مرتبط بمضمون وجوهر عملية الحكم وتسيير شؤون المجتمع. والثاني مرتبط بشكل هذا النوع من الحكم، حيث في المعنى الأول نجد أنه حدث ما يشبه مأسسة القيم الإنسانية الصالحة كالعدل والحرية، في سلوكيات وثقافة المجتمع، الأمر الذي جعل من هذه الثقافة وهذه المؤسسات التي تترجم فيها بمثابة هي القيّم على شكل عملية الحكم، وبالتالي الفرد الحاكم ما هو إلا تابع لهذا النظام الثقافي يتحرك وفقاً له. ويتضح ذلك مثلاً في نمط اختيار رئيس دولة من طريق الانتخابات لفترة محددة ثم بعد ذلك يترك الحكم، وأيضاً ظاهرة محاسبة هذا الحاكم وفقاً لنمط مأسسة القيم والثقافة في المجتمع في حال إذا ارتكب خطأً. وهذا يقترب أكثر بالمعنى الثاني المرتبط بشكل الحكم والذي يبدو ضعيفاً جداً أمام المعنى الأول المرتبط بمأسسة القيم داخل مؤسسات وثقافة المجتمع تترجم كسلوك. ومن خلال التحليل السابق يمكن تسكين موضوع السلطة السياسية أو السلطة الدينية أو الدولة الإسلامية في إطار المعنى الأول ولكن في شكل معاكس، بمعنى أنه ليس من المهم مأسسة المجتمع وثقافته بقيم كالعدالة والحرية وإنما المهم هو تسكين الشكل سواء في سلطة دينية تستلب هوية الأفراد، سواء تمَّ ذلك في شكل خلافة إسلامية أو أي نوع آخر لشكل الحكم يهتم بالشكل على حساب المضمون وبالفرد على حساب المجموع وبالرأي على حساب الآراء وبالتفسير الواحد للدين على غيره من التفسيرات. ومن هنا يتأكد جوهر أن كل هذه المصطلحات الفضفاضة كالخلافة الإسلامية ما هي إلا خدعة كبيرة. ويحدث هذا في إطار أن السنن الكونية تمضي سيرورتها، حيث المسألة ليست في المسمى وإنما تكمن في الجوهر والمضمون. ومن ثم ليس مستغرباً أن نجد انتشار الإسلام لم يحدث على نمط هذا الفريق وإنما على نمط السنن الكونية في كل أقطار المعمورة حيث تنجح هذه التجمعات في أن تجد بيئة تتوفر فيها الحرية وقيم العدالة وتجد من يحترم دينها فتتعايش في نظام مجتمعي عصري من دون أن يكون هناك أدنى تعارض مع قيمها الدينية والأمثلة كثيرة، كالولايات المتحدة الأميركية أو أوروبا باستثناء فئة قليلة تحاول أن تسير على نهج فريق التأسلم، فتعبر عن هويتها بالتطرف بدلاً من أن تعبر عنها بالقيم الإنسانية التي هي لب الدين الإسلامي.

ومن هنا، فالمسألة ليست هي توقيف الحياة البشرية عند مرحلة معينة من الزمن، تحت دعاوى الخلافة الإسلامية، وإنما هي عملية هل نستخدم العقل أو نعطيه إجازة في سبيل استدعاء ما أنتجته عقول السلف وإضفاء القدسية والحصانة عليه. إنها إشكالية كبيرة تحتاج إلى جهد، إذ إن هذا الأمر يرتبط بمسائل كثيرة أخرى ليست فقط إشكالية الخلافة وإنما هناك مسائل أخرى تدخل في صميم عقلية التفكير لدى البشر والمنهج الذي ينظرون به إلى الحياة. وعملية نقد الحاضر هذه تعد في حد ذاتها سمة جديدة، فلولا هذا النقد لما تطورت البشرية ولتوقفت الحياة عند فترة معينة. إلا أن النقد عند جماعات التأسلم هذه أمرُه غريب، فهو بدلاً من أن يحض على المستقبل يدعو للرجوع إلى الماضي في منطق لا يتفق إلا مع الأسطورة ولا يمس للعقل.

المصدر: جريدة الحياة