قادمة من الشاطئ الآخر
قادمة من الشاطئ الآخر
كنت خارج ألمانيا لمدة أربعة أعوام قضيتها في جنوب شرق آسيا. ليست هناك مدعاة للمغالاة، فهذه الفترة لم تكن طويلة للغاية. لكن أربعة أعوام هي مدة طويلة بالنسبة لأمر بسيط وإن كان بالغ الأهمية.أقصد بذلك أن محور العالم قد انتقل من خلال العودة. هذا المحور شخصي الطابع نتحسسه وكأنه منتصف الكرة الأرضية دون أن نعترف بذلك. فنحن نعتقد بأن بوسعنا من هذا المكان أن ندرك ونستوعب العالم وملامحه ورموزه وألوانه وصلواته بل وحتى ما يقع فيه من أعمال عنف واغتيال.
لقد كنت على الشاطئ الآخر لهذا العالم وبالتحديد كنت حتى قبل ثلاثة أسابيع أسكن في ماليزيا التي تعيش فيها أغلبية إسلامية، وبالتالي فإنها تقع في الجانب الآخر من الخندق الذي يفصل العالم إلى قسمين. أشعر وأنا أعود إلى الجانب الغربي منه بالبرد القارس وما كنت أود أن أعيش في ألمانيا لو كنت كمسلمة.
لغة الصور ابتداء من مجلة دير شبيغيل واستمرارا بأجهزة إعلام أخرى توحي بأن المسلمين كائنات حية دون وجوه وهوية واضحة يراهم المرء من الخلف وهم يصلون على الأرض.أما إذا ظهر وجه ما فإنه نم عن التطرف أو كان مقنّعا. ما أكثر ما نقرأ عن كون المسلمين "جنود الله"، وإذا تجمهروا للصلاة على الأرض كرّسوا "قوة النبي وهيمنته". وبغض النظر عما تعنيه هذه العبارات فإنها توحي بالخطر وبفقدان المؤمنين للوداعة والاعتدال.
قد يقول البعض بأن النصوص أكثر توازنا وموضوعية من الصور والعناوين. لكني أتساءل: لماذا هذه الصور بالذات؟ ما الغرض من ورائها؟ هل هناك حاجة لإظهار الاسلام دينا كريها قبيحا وعدوانيا ومدعاة للخوف؟
الإحساس بالارتياح في بلد آسيوي
نقاش دار في معهد مختص بالاسلام في ماليزيا حول ما إذا كانت أجهزة الإعلام الغربية معادية للإسلام. بالنسبة لأغلبية الحضور من بلدان إسلامية مختلفة فالجواب على ذلك واضح. من هنا تتحول الندوة إلى محكمة تقاضينا، أقصد الصحفيين الضيوف من بيننا. لكني أدافع عن الإعلام الألماني على وجه خاص. كان ذلك قبل قرابة عامين، وقبل الحادي عشر من سبتمبر/أيلول تحديدا. ماذا كنت سأقول اليوم؟
كادت ألمانيا أثناء تلك الأحداث أن تكون واقعة تحت وطأة الحمى. وكنت يومها صدفة هناك. في ماليزيا كان الجميع أيضا يتابعون الأحداث في محطة سي.إن.إن وبغض النظر عن كونهم مسلمين أو مسيحيين أو هندوس شعروا كلهم بالبلبلة والذهول. وفي ألمانيا شعرت بأنني لست قادرة على التنفس بسبب حدة الكراهية الموجهة للمسلمين. وتنفست الصعداء بمجرد عودتي إلى ماليزيا .فبالفعل استشعرت ولو لفترة ما بارتياح واسترخاء في بلد آسيوي رغم أن القيود تهيمن فيه على الحقوق المدنية وحرية الصحافة، فهناك لم أعان من ذلك الجو الاستحواذي المفرط في الغرب.
أعود الآن إلى أجواء رواد الأدب الساخر. "الانتقال إلى ألفية جديدة"!آلاف السطور والمداخلات. مرور العام الثاني على بدء الألفية الجديدة. لم أكن شاهدة على الاحتفالات الأخرى السابقة حيث كنت بمثابة الهارب المهمل المقيم على الشاطئ الآخر.
يبدو أن حقبة جديدة بالفعل قد بدأت في الغرب، ولعل الإحساس بالأمن الأساسي المصيري قد ولى هناك الأدبار، علما بأن مثل هذا الإحساس لم يكن موجودا على الإطلاق في أماكن أخرى من العالم، حيث التمزق والانهيار قائمان دوما ولأسباب متعددة، فهناك المذابح والجفاف والفيضانات. قد تبدو مقولتي هذه سطحية، ربما على منوال المقال المنشور عام 1982 في مجلة العالم الثالث!
حوار الحضارات
كتب الزميل البارع يورغ لاو في مجلة "دي تسايت":"منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر أصبح كل من آمن بفكرة حوار الحضارات ومجتمع الحضارات المتعددة ونزوع الإسلام للسلام، في وضع صعب للغاية." إنني أردد مثل هذه الجمل بتمعن وعناية فائقتين وكأنني أقرأ نصا بلغة أجنبية لا أتقنها جيدا.
يا عزيزي يورغ لاو دعني أثقل عليك بمثال تبسيطي آخر. تصور أن سفينة حربية تصل إلى ميناء ما في إندونيسيا تحمل آلاف اللاجئين الذين فروا من بورنيو هربا ممن اضطهدوهم وعذّبوهم. رغم أنهم كانوا جيرانهم فقد لاحقوهم بالفؤوس وقطعوا رؤوس بعضهم. من بينهم إمرأة تحمل رأس زوجها المقطوع في كيس. صراع عرقي، أو لنقل تحديدا صراعا حول الأرض والمصادر الطبيعية بأشكال عرقية.الضحايا في هذه الحالة مسلمون بينما الفاعلون مسيحيون. هل كان علي في ذلك اليوم الذي تحدثت فيه مع اللاجئين أن أفقد إيماني بسلمية الديانة المسيحية وبفكرة حوار الحضارات؟
تبدو الكلمات وكأنها فارغة من المحتوى. لم أشهد مواقع جسيمة للحروب والصراعات وبالتالي ليس بإمكاني أن أتحدث عن ذلك. لكني عاصرت تجارب شبيهة من ذلك لنزاعات ومجازر تقع يوميا. شاهدت فتيات صغيرات قد لا يصلحن مثالا على الانتقال إلى ألفية جديدة عندما يتحدثن بجمل ثلاث لا أكثر عن تعرضهن للاغتصاب. هناك آلاف الأسباب لجعل المرء يفقد يوميا الأمل في هيمنة السلام بين الأعراق والأديان.
لكننا لا نكتب عادة عن الناحية الإيجابية ، أقصد قدرة الكثيرين من الناس المقيمين في قرى مدقعة الفقر على احتواء الصراعات يوميا من خلال روح التسامح على الرغم من أنهم غير قادرين على تهجي عبارة صعبة مثل "حوار الحضارات".
مؤخرا في القطار السريع المتجه إلى ميونيخ: رجلان في نهاية الخمسينيات يبدو أنهما يحتلان مركزا اجتماعيا طيبا يتعاركان بالكلام الحاد لأن أحدهما أمسك جريدة وأخذ يقرأها اعتقادا منه بأنها ليست ملكا لأحد، فيما عاد صاحبها من المرحاض متشبثا بحق ملكيته فيها. واستمرت المعركة طاحنة حتى بعد أن استلم الجريدة صاحبها الشرعي. لا نود أن نتصور ما كان سيحدث لو تصارع هذان الرجلان حول نبع بدأ ينضب.
خبراء في الشؤون الإسلامية
يا له من غرور سافر! منذ الانتقال إلى الألفية الجديدة ازداد كثيرا عدد من ادّعوا بكونهم خبراء في الشؤون الإسلامية. فالذين لم يصبحوا خبراء في أمور التقاعد أصبحوا خبراء في الشؤون الإسلامية، نظرا لأن هذا الموضوع من مواضيع الساعة الرئيسية. وبعض الصحفيين يعتقدون أثناء انعقاد جلسات أعضاء التحرير بأنهم أكثر إدراكا ومعرفة بالأدلة الخاصة بالمحاكمات الموجهة ضد بعض زعماء الجماعات الدينية في الأرخبيل الإندونيسي من المشاركين في تلك المحاكمات أنفسهم. ويعمد هؤلاء الصحفيين بكل بساطة إلى توزيع الأحكام فهؤلاء "طيبون" وأولئك "شريرون". ولا بأس من ذلك فعدد سكان الأرخبيل يبلغ 220 مليون نسمة فقط يعيشون في حوالي 3000 جزيرة، أي في بقعة جغرافية محدودة! يصل هؤلاء "الخبراء" إلى استنتاجين هما: أولا الإرهاب الإسلامي تزداد خطورته، ثانيا من السهل تعبئة المسلمين "الغاضبين" في صفوف الإرهاب. الخلاصة من ذلك: راجع الاستنتاج الأول.المدهش بالنسبة لي هو أنني لم أر حتى الآن بأن المسلمين "الغاضبين" يلجأ ون إلى استخدام السلاح.
أميل غير متعمدة إلى استخدام الأسلوب الساخر في الكتابة. سبب ذلك صعوبة التطرق إلى المواضيع التي أرى بأنها أكثر أهمية مما تتم كتابته. من أمثلة ذلك البحث في أسباب نفور مجتمعاتنا من مجتمعات أخرى لمجرد أنها تولي ديانتها أهمية تفوق العادة.
الآن وقد حلّ المساء أتذكّر "كوماندوز التاندوري". لقد أطلقت هذه التسمية سرا على أربعة رجال من الهنود المسلمين كان الجوع في أواخر المساء يدفعهم، ويدفعني أيضا، إلى الذهاب دوريا إلى مطعم صغير بالقرب من المسجد. كان هذا الرباعي يصاحب تمتعنا بدجاج التاندوري الأحمر دائما بإعطائي مواعظ حول القرآن. وكنت بفمي المملوء بالطعام وبحكم من لا يملك إبداء أي اعتراض أهز رأسي دليلا على الاقتناع بكلام الرباعي. وكان هذا يجلب السعادة إلى وجوههم. حيث كان هناك من يستمع إليهم، أحد قادم من الشاطئ الآخر.
شارلوته فيديمان
ترجمة عارف حجاج
شارلوته فيديمان(1955) صحفية ألمانية مقيمة حاليا في برلين، عملت من 1999 حتى 2003 في جنوب شرقي آسيا وكانت مقيمة آنذاك في ماليزيا