لماذا يتعثر العرب ويتقدم الآخرون؟
فى العام 1893 كتبَ الشيخ عبدالله النديم كتابا أو دراسة معمقة بعنوان «بِمَ تقدم الأوربيون وتأخَرنا والخلق واحد؟!».. وفى بداية القرن العشرين وضع المفكر الإسلامى الأمير شكيب أرسلان مؤلَّفا بعنوان: «لماذا تأخَّر المسلمون ولماذا تقدَّم غيرهم؟» وكان يقصد آنذاك الغرب المسيحى، ومن بعدهما توالت الكتابات حول سر تخلُّف العرب والمُسلمين وتَقدُم غيرهم. وتفاوتت المُقاربات من دون يقين أو حسم فى الإجابة.
إذا كانت تساؤلات هؤلاء قد تزامنت مع مرحلة الاستعمار الغربى، وبالتالى كانت الإجابات تُرجِع غالبا السبب إلى الاستعمار وعدم تمسُّك المُسلمين بدينهم أو خروجهم عن النهج الإسلامى الصحيح، فإن طرْح التساؤلات نفسها بعد مائة عام أو أكثر وفى زمن ما بعد الاستقلال لدول عربية وإسلامية يتطلب إعادة النظر فى أغلب التفسيرات أو الإجابات عن التساؤلات السابقة.
***
أعاد مفكرون مُعاصرون طرْح إشكال تخلُّفنا وتقدُم غيرنا بتواضعٍ وواقعية مُتسائلين ليس عن سر تخلُّف العرب والمُسلمين وتقدُم الغرب، بل عن سر تخلُّف العرب وتقدُم اليابان والصين وكوريا، وبعض هؤلاء كمحمد عابد الجابرى ومحمد أركون وجورج طرابيشى وعبدالإله بلقزيز وبرهان غليون وهشام شرابى وغسان سلامة وحامد أبو زيد... إلخ عزوا السبب لبنية العقل العربى، وثقافة البداوة والموروث الثقافى بشكلٍ عام، والشطط والانحراف فى فهْم الإسلام وتفسيره، والاستبداد السياسى، وغياب الديمقراطية، والتبعية للغرب... إلخ.
واليوم نتواضع مُكرَهين فى طموحاتنا وفى النماذج والقدوة التى نريد الاحتذاء بها، ولم نَعُد نُقارن حال العرب بحال أوروبا والأميركيتَين أو اليابان وكوريا والصين بل سنُقارن ونضرب المثل بنماذج من مجتمعات كان حالها كحالنا بل أقل شأنا فى مرحلة ما قبل الاستعمار أو بعده مباشرة كالهند ودول إفريقيا.
ومن دون التقليل من شأن ما تم إنجازه فى بعض الدول العربية والإسلامية، ومع الأخذ بعَين الاعتبار الجغرافيا السياسية للمنطقة وتأثير وجود إسرائيل فى قلب العالَم العربى، نتساءل: لماذا نجحت شعوب العالَم الثالث التى كانت مثلها مثل الشعوب العربية تخضع للاستعمار والاستغلال الغربى كالدول الإفريقية والهند وغيرها فى الخروج من دائرة التخلف والجهل ودخول عالَم الحداثة والتطور والديمقراطية، بينما الدول العربية، وباستثناء قلة منها، ما زالت تراوح مكانها، بل وتتراجع مكانتها على سلم التطور الحضارى؟
هل العقل العربى عصيٌ على الديمقراطية، وبنيته وموروثه التاريخى والدينى مركَبة بطريقة تجعل دولنا فى حالة رفض للديمقراطية؟ هل تحتاج بنية العقل العربى، وخصوصا السياسى، إلى تفكيك ومُراجعة وإعادة بناء؟
لماذا العرب يتصرفون كالقُصَّر الذين يحتاجون دوما إلى مَن يوجِّههم ويقودهم، وإن ولجوا المَسار الديمقراطى تكون ديمقراطيتهم مشوَهة وأبوية وموجَهة من الخارج وسرعان ما تنقلب إلى حُكمٍ استبدادى بواجهة ديمقراطية شكلية؟
لماذا ما تسمى ثورات الربيع العربى، التى قامت أساسا، كما يزعم مؤيدوها والمُدافعون عنها، كثورات ضد أنظمة استبدادية ترفض الديمقراطية وتنتهك حقوق المُواطنين... إلخ، لماذا آلت إلى الفوضى والحرب الأهلية والطائفية وتقويض مرتكزات الدولة الوطنية وإعادة إنتاج أنظمة الاستبداد؟
سأكتفى بشعبَين كان العرب يتعالون عليهما فأصبحا نموذجَين يُحتذى بهما وهُما الهند وأفريقيا غير العربية أو إفريقيا السوداء.
الهندى الذى تفوَق على سيده الأول
منذ عقود، وإلى وقتٍ قريب، كان بعض العرب ينعتون كل جاهل أو متخلف بـ«الهندى» من منطلق أن الهند بلاد الجهل والتخلُف من وجهة نظرهم، واليوم أصبحت الهند من الدول العظمى التى يُحسب لها ألف حساب ويُضرب بتقدمها الاقتصادى المثل ويصل معدل النمو فيها إلى نسبة 7.2 فى المائة خلال العام المالى الحالى، بينما يصل نمو الإنتاج الصناعى إلى 8.3 فى المائة، وهى تحتل الترتيب الخامس عالَميا وبالتالى تتجاوز المَملكة المتحدة ــ بريطانيا ــ الدولة التى كانت تستعمرها، ويتوقَع المختصون أن تحتل الترتيب الثالث بعد سنوات قليلة، وما ساعد الهند على نهضتها اهتمامها بتكنولوجيا المعلومات وما يرتبط بها من صناعات.
وفى مجال التنمية السياسية تُعتبَر الهند أكبر الديمقراطيات فى العالَم، من حيث عدد السكان وأهمها من حيث مُواجَهة التحديات المُعيقة للديمقراطية، سواء أكانت ثقافية أم اجتماعية أم دينية، وقد نجحت فى بناء نظامٍ ديمقراطى علمانى، على الرغم من أن تعداد سكانها يفوق المليار وربع المليار نسمة يعيش مُعظمهم فى الريف ويستعملون مئات اللغات ودستور الهند يعترف باثنَين وعشرين لغة كلغات رسمية، كما أن السكان موزعون على طوائف دينية عدة، فيما العرب، الذين تحرروا من الاستعمار فى المرحلة نفسها من استقلال الهند ــ استقلت الهند فى العام 1947 ــ ويتكلمون لغة واحدة ولهم ثقافة واحدة وتاريخ مشترك ومنَت عليهم الطبيعة بثروات يُحسدون عليها، يراوحون مكانهم حضاريا، بل ويتراجعون، ويستوردون من الهند ما تعجز «العبقرية» العربية عن إنتاجه؟
إفريقيا تبيِّض صفحتها
إلى وقتٍ قريب كان العرب ينظرون باستخفاف إلى إفريقيا والإفريقيين ويعتبرونهم متخلفين وجهَلة أو مجتمعات ما قبل الدولة والحضارة، وهى نظرة عنصرية فوقية لا تقل سوءا من نظرة الأوروبيين البيض لغيرهم من الشعوب. كما أنها تستحضر الماضى ــ حين كان العرب يتعاملون مع إفريقيا كمَصدر للعبيد ــ وتستلهمه.
فى السنوات القليلة الماضية، وعلى الرغم من سوء الوضع الاقتصادى، فإن دولا إفريقية وَلَجت عالَم الديمقراطية حيث اليوم أغلبية الدول الأفريقية تخوض تجربتها الديمقراطية باقتدار وتمر بحالة مقبولة من الاستقرار. كما يُراقِب الاتحاد الأفريقى الحياة السياسية فى إفريقيا ويتدخل عندما تنحرف دولة عن المَسار الديمقراطى. وقد تَدَخَل الاتحاد فى 18 محاولة انقلابية فى القارة وأَجبر الانقلابيين على الانصياع لإرادة الشعب، وكان آخر تدخُل له عندما قرَر قبل أسابيع تجميد عضوية السودان فى الاتحاد حتى يلتزم المجلس العسكرى بتسليم السلطة لحكومة مدنية.
أما بالنسبة إلى العالَم العربى، وباستثناء بعض الحالات، فإن كل محاولات الانتقال الديمقراطى والتنمية الشمولية تتعثر، بل ويفقد العرب حتى القليل من الإنجازات التى راكموها فى زمن ما قبل فوضى الربيع العربى. وجامعة الدول العربية بدلا من أن تكون الحارس والموجِه للمَسار الديمقراطى وللوحدة العربية أصبحت فى مكانٍ بعيد عن هذا الهدف.
***
لا نريد مُمارَسة جلْد الذات أو الترويج لليأس وقطع الأمل بإمكانية تغيير حال العرب إلى الأفضل، بل نؤمن بأن دوام الحال من المحال، ولا بد للشعوب العربية أن تتغلب على مشكلاتها وأن تأخذ بناصية الحضارة والديمقراطية يوما ما، ولكنها خواطر وتساؤلات فرضت نفسها ودفعتنا للتفكير بصوتٍ عالٍ عسى ولعل الصوت يصل ويحدُث التغيير المنشود.
من الجيد الإحساس بالمشكلة ومن الجيد أكثر تلمُّس أو وضْع إجابات عن التساؤلات المرتبطة بالمشكلة أو السؤال عن سبب تعثُر العرب وتقدُم غيرهم، ولكن الأهم من كل ذلك هو كيفية تحويل الإجابات إلى استراتيجيات عمل؟ ومَن يأخذ بناصية الانتقال والتغيير؟ هل هى الأنظمة والنخب القائمة نفسها، والتى تماهت مع حالة التخلُف وأَنتجت التخلُف والاستبداد، أو أنظمة حُكم ونخب جديدة بثقافة وعقلية جديدة؟
النص الأصلى:من هنا