هل أصبح تيار "مابعد الصهيونية" في خبر كان؟

هل انتهى تيار "ما بعد الصهيونية"؟ منذ بداية الانتفاضة الفلسطينية وصوت هذا التيار المنتقد للسياسة الإسرائيلية آخذ في الخفوت. فماذا حدث لهذا التيار؟ بقلم جوزيف كرويترو

أجواء التفاؤل التي سادت إسرائيل في مطلع التسعينات الناتجة عن عملية السلام التي كان يرجى منها الكثير آنذاك، تبدو اليوم حيث يعاني الوسط الثقافي الإسرائيلي من الركود، كأمر من الماضي البعيد. إذ ظهرت في تلك الفترة في المؤسسات الأكاديمية جملة من المؤرخين وعلماء الإجتماع الشبان بدأت بتفكيك المعتقدات الصهيونية وأساطير تأسيس الدولة من خلال توجهات علمية، جديدة سياسياً.

أطلق عليهم في أول الأمر بحياد اسم "المؤرخون الجدد"، إلا أنه سرعان ما ُصنف هذا التيار العلمي الجديد تحت مفهوم "مابعد الصهيونية"، ولم يُقصد به ثناءً على الإطلاق، بل يكاد يكون في أوساط اليمين الإسرائيلي ضربا من الشتيمة حتى اليوم. رافعي لواء مدرسة الفكر الجديدة هذه هم مؤرخون من أمثال بني موريس، توم سِغِف، إلآن بابه أو عالم الإجتماع أوري رام، وقد إتُهِموا من قِبل خصومهم بالخيانة، لأنهم تجرأو بتسليط أضواء انتقاداتهم على التاريخ الإسرائيلي وبالأخص على علاقة الصهاينة بالفلسطينيين.

من اليسار إلى اليمين

دراسات بني موريس حول نشوء مشكلة اللاجئين الفلسطينيين، لم تكشف النقاب عن الخلفيات السياسية الإسرائيلية للتهجير المنظم للفلسطينيين في عام 1948 فحسب، بل أظهرت أيضاً المجازر المرتكبة بحق المدنيين الفلسطينيين المرتبطة بهذه السياسة التي جرى التكتم عنها إلى ذلك الحين.

إلا أن المفاهيم قد تغيرت الآن: فبني موريس يستمر في السنوات الأخيرة في ابتعاده عن موقفه الانتقادي ويزيد اقتراباً من اليمين. حتى أنه قال مؤخرا في إحدى المقابلات الصحفية: أن التهجير المتعمد للفلسطينيين في عام 1948، كان قراراً صحيحاً من الناحية التاريخية. و بهذا فقدت مدرسة "مابعد الصهيونية" أحد مُنظريها المهمين.

ضغوط شديدة على المثقفين الإسرائيليين النقديين

الانزلاق السياسي العام نحو اليمين في اسرائيل منذ عدة سنوات، يدفع بمؤيدي تيار "مابعد الصهيونية" إلى مواقِع دفاعية. ومما يثبت ذلك الكتاب الذي نشر حديثاً باللغة الإنكليزية، والذي يشتمل على مقالات لأهم ممثلي التيار، وما ورد في عنوانه الفرعي "بدائل لسياسة إسرائيل المتطرفة"؛ بالنسبة للمؤلفين فقد إنتقلت القوى السياسة الإسرائيلية اليمينية من الأطراف إلى مواقع الوسط منذ وقت طويل، فيما هم يشعرون بأنفسهم مدفوعين بشدة إلى الأطراف. ما دفع الصحيفة الليبرالية اليسارية الإسرائيلية "هآرتس" حديثاً لأن تتساءل عما إذا كان لتيار "ما بعد الصهيونية" ذي التقدير العالي خارج إسرائيل، أية اعتبار في الحياة الفكرية الداخلية على الإطلاق.

المؤرخ توم سيغيف، الذي عُرف عالمياً من خلال دراساته التي تناولت التاريخ والحاضر الإسرائيلي، يرى أن "مابعد الصهيونية" كتوجه ثقافي على الأقل مُجمد حالياً، هذا إذا لم تكن قد فارقت الحياة بهدوء. ويُحمل الفلسطينيين ذنب هذا التطور: من خلال إنتفاضة الأقصى المستمرة منذ ثلاثة سنوات قضوا على كل أمل لتعايش متساوي الحقوق بين اليهود و العرب.

في حين يرى المؤرخ إلآن بابه، أن مسؤولية أفول "مابعد الصهيونية" تقع على عاتق ممثلي التيار: معظم الأساتذة الجامعيون الذين برزوا في ظل حكومة حزب العمل كناشطين يساريين، ابتعدوا في السنوات الأخيرة عن الأنظار خوفاً على مناصبهم – أي من منطلق انتهازي بحت. بصرف النظر عن هذا لا يعتبر إلآن بابه نفسه "مابعد صهيونياً" فحسب بل ومُناهضاً للصهيونية أيضاً، وهو على قناعة بأن "مابعد الصهيونية" ستنتعش ثانية، إن عاجلاً أم آجلاً، لأن الناس في اسرائيل سيعافوا يوماً ما، البربرية السياسية للنظام الحالي.

الصهاينة الجدد

ولكنه يرى أن خطراً جديداً على "مابعد الصهيونية" يكمن في عدوها "الصهيونية – الجديدة". ذلك لأنها خلافاً للصهاينة التقليديين أكثر استعداداً لترسيخ الطابع اليهودي للدولة، وذلك على حساب الحقوق المدنية المتعارف عليها دولياً، وعلى حساب التعددية الثقافية والمبادئ الديموقراطية.

الصهاينة الجدد فرحون بطبيعة الحال بالصراعات الداخلية للأجنحة المختلفة داخل معسكر "مابعد الصهاينة". إذ يُبدي عالم الإجتماع موشي ليساك من تل أبيب رأيه بصراحة، حيث يتهم "مابعد الصهاينة" بدوغماتية مماثلة لدوغماتية الصهاينة المؤسسين الذين كانوا قد حاربوهم سابقاً.

ليساك يعقد آماله على جيل جديد من الطلاب اليمينيين، الذين لم يعودوا يقبلون " بمابعد الصهيونية" المتوطدة في الجامعات الإسرائيلية وسيقومون الآن بمحاربتهم. إذ أن "مابعد الصهيونية" بحسَب ليساك ابتدأت كعلم نقدي وانحدرت في نهاية المطاف لتصبح ايديولوجية. هذا الاتهام الغير جديد على الإطلاق يُنبئ في الواقع بأن "مابعد الصهيونية" لازالت حية – حتى و لو أراد اليمين الإسرائيلي بلا ريب أن يراها قد دُفنت إلى الأبد.

جوزيف كرويتورو

ترجمة يوسف حجازي

قنطرة 2004©