المولعون بالكتب

منذ سنوات تتعالى أصوات منادية بأهمية الحوار بين الغرب وأوربا. الناشر هانز شيلر يطبق هذا الحوار منذ أكثر من 25 سنة. الصحفي كريستوف بورغمر زاره في مكتبه في حي كرويتسبرغ البرليني.

ليس من اليسير استثارة غضب هانس شيلر. فالسياسة التي تتبعها دور النشر حاليا في ألمانيا في مجال بيع الكتب المتأزم والمسماة في لغة الاقتصاد "إدارة الأزمات" هي ما يتبعه هانس شيلر منذ ثلاثين عاما تقريبا. أحضر لي من المخزن كرسيا آخر وأزاح بعض الصناديق عن المكتب ليوفر مكانا لكوب الماء الذي قدمه لي. قبل بضعة أسابيع انتقل بدار نشره الجديدة المسماة باسمه (www.verlag–hans-schiler.de) إلى محل جديد بحي كرويتسبرغ. إنه حاليا الساكن الوحيد للمبنى القديم المتعدد الطوابق. إنهم يقومون حاليا بعمل صيانة شاملة للمبنى. لكن لا شيء يمكن أن يؤثر على تركيز الناشر، لا الدق والثقب ولا عمل وصلات الكهرباء وتركيب مواسير المياه. فعليه أن يفرغ من برنامج موسم الخريف. كما اقترب موعد التوريدات لأصحاب المكتبات. تحتاج دار النشر التي يقوم بإدارتها شخص واحد إلى الخبرة، فلا أحد يتناول سماعة الهاتف سوى الناشر نفسه وهو الذي يحدد برنامج العمل الجديد ويتفاوض مع المطبعة والكتاب والمكتبات ويكتب الحسابات والإنذارات ويقوم بمراجعة نصوص الكتب في الساعات الهادئة القليلة، وينتقي منها ما يصلح كعناوين قادمة تصدر عن دار نشره.

طبعا، يُعتبر هانس شيلر شخصا مثاليا، لكنه ليس خياليا كبعض الناشرين الصغار. فليس باستطاعته تحمل الشكليات، وحتى المشاركة في معرض فرانكفورت الدولي تعد بالنسبة له شيئا مكلفا من الناحية المادية. وبرغم ذلك فقد ساهم هانس شيلر أكثر من أي دار نشر أخرى في تفهم العالم العربي- الإسلامي. وقد يكون هذا هو مصير الرواد، حيث لا يلقون التكريم اللائق بدورهم الفعال. يقول هانس شيلر: "هذا لا يهمني، فعلينا أن نجتهد أكثر في تكثيف

Verlag Hans Schiler
Fidicinstr. 29
D-10965 Berlin

Tel.: +49 (0)30 322 85 23
Fax.: +40 (0)30 322 51 83
Email: info@verlag-hans-schiler.de

www.verlag-hans-schiler.de التبادل الثقافي بين أوروبا والشرق." وهو المشروع الذي أخلص له هانس شيلر المتخصص في الدراسات الإسلامية منذ 25 عاما، حيث أسس عام 1977 دار نشر باسم دار الكتاب العربي وألحق بها مكتبة لبيع الكتب. وتتلخص فكرة المشروع في خلق فضاء ثقافي يتيح اللقاء والتبادل بين أوروبا والشرق بثقافاته العربية والفارسية والتركية والهندية.

وجدير بالذكر أنه في عام 1977 بعد تخطي أزمة النفط وقبل عامين من الصدمة التي حدثت للغرب من جراء الثورة الإيرانية، لم يكن هناك تقريبا أي كتاب لمؤلفين عرب أو إيرانيين في قائمة بيع الكتب بألمانيا. فالكتب المتخصصة بشئون المنطقة كانت تؤلف خصيصا للدارسين في المعاهد المتخصصة بالجامعات. وكانت كلمات مثل الإسلام والقرآن والشريعة غير معروفة في المناقشات العامة المتعلقة بالوضع السياسي الدولي. وكانت معرفة المناقشات الأدبية داخل العالم العربي قاصرة فقط على بعض الدوائر الثقافية المحدودة التي لها صلة بالأمر. ورأى هانس شيلر أن عليه أن يساعد في تغيير هذا الوضع. من ناحية قام بنشر عدة أبحاث علمية ومن ناحية أخرى قام بنشر أعمال أدبية حديثة صدرت لأول مرة في داره، كأعمال رفيق شامي وسليم الأفينيش الذي لم يكن معروفا من قبل. وكذلك يتضمن برنامج الدار نشر نصوص بلغتين وطبع النصوص الكلاسيكية العربية والفارسية. وحين كان على دار الكتاب العربي أن تغلق أبوابها في العام الماضي، نتيجة لأن الجامعات قد شطبت الميزانية المعينة لشراء الكتب المتخصصة، وضع هانس شيلر بعضا من كتب الدار السابقة على قائمة دار النشر الجديدة المسماة على اسمه. من ضمن الكتب القليلة التي ما يزال الحصول عليها ممكنا، الترجمة الممتازة لكتاب "بستان سعدي" وأنطولوجيا الشعر العربي الحديث منذ 1945 حتى اليوم "بين السحر والإشارة"، والتي أصدرها الشاعر العراقي خالد المعالي الذي يعيش في منفاه بمدينة كولونيا.

ومن بين الكتب التي أشرف هانس شيلر على نشرها، كتاب "القراءة السريانية-الآرامية للقرآن" الذي فتح مجالا للنقاش على مستوى عالمي. فعندما رفضت دور النشر طبع هذه الدراسة العلمية، أدرك هانس شيلر أهميتها وتحمل مخاطرة نشرها. أحدث الكتاب منذ صدوره ضجة على المستوى العالمي وقامت صحف مثل نيويورك تايمز ولوس أنجلوس تايمز الأمريكية ولاستامبا الإيطالية والغارديان البريطانية بنشر متابعات له على صفحات كبيرة. هل هناك كتاب علمي ألماني لقي مثل هذا النجاح من قبل؟ أما في ألمانيا، فكما هو معتاد لا نجد في الغالب أي أثر لرد فعل محسوس، إذا ما تعلق الأمر بدراسات متعمقة بخصوص العالم العربي الإسلامي.

ومن خلال هذا المثال يتبدى لنا جليا أن ناشرا له معرفة هانس شيلر وخبرته، كان سيصبح في العالم الأنغلو-ساكسوني أو في فرنسا شخصية عامة شهيرة. والسؤال طبعا هو إن كان الناشر البرليني يسعى إلى ذلك. يقول هانس شيلر: " الدار الجديدة بحاجة إلى اهتمام كبير، نظرا لأن برنامج الدار سيتوسع ليشمل موضوعات مثل اليمين المتطرف والعولمة." يريد شيلر أن يستمر في نشر أعمال كتاب عرب يكتبون بالألمانية. إن ذاك العمل يشبه البحث عن كنوز مخبوءة، ومع كل ما يرتبط بهذا العمل من مصاعب، فقد يحصل المرء هنا أو هناك على لؤلؤة ثمينة. وطبعا لا يغيب عن شيلر أن دور النشر الكبيرة تستقطب الكاتب الذي ينشر لديه إذا ما حقق نجاحا، لأن إمكانياته المادية لا تتيح بقدر كاف ترويج كاتب شاب في سوق الأدب. لذلك فالعمل في سوق الكتب لا يمكن أن يكون عملا للرومانسيين. إن استمرار وجود مجال لصغار الناشرين المبدعين ذوي الحسابات الدقيقة في سوق النشر يعد نوعا من الحظ. ومن وجهة نظر شيلر فإن ذلك التواجد ناتج عن الإصرار والجهود المتواصلة. وهكذا لا يتبقى لنا إلا أن نتمنى لهذا الناشر البرليني المثابر أن يتابع عمله بنفس الحساسية التي أتاحت لنا في الأعوام الخمسة والعشرين الماضية أن نغير رؤيتنا عن "الشرق" بمعناه الواسع، من خلال الكتب العلمية المتخصصة والأدب الحديث. فبدون ناشر مثل هانس شيلر، سيفتقد تبادل الرأي بين أوروبا والعالم الإسلامي إلى أحد الفاعلين الرئيسيين.

كريستوف بورغمر،LiteraturNachrichten 74/2002 عن ، ترجمة أحمد فاروق