هشام جعيّط: المؤرّخ المجدّد والمفكّر المثير للجدل
ليس من باب الصدفة أن يحتفي مثقّفو المغرب الأقصى خلال الأسابيع الماضية بمفكّر فذّ مثل عبد الله العروي وأن يحتفل أضرابهم التونسيّون بمدوّنة هشام جعيّط في إصدار جماعيّ بعنوان "جدل الهويّة والتاريخ، قراءات تونسيّة في مباحث الدكتور هشام جعيّط" (دار سوتيميديا والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، جانفي 2018). فثمّة تأكيد من جهة على راهنيّة القضايا التي طرحها المفكّران وتواصل من جهة أخرى لإضافتهما إلى الفكر العربيّ محلّيّا وقوميّا من خلال تلاميذهما وزملائهما واعتبار من جهة ثالثة لمكانتهما بعد أن صارا رمزين للمؤرّخ المحترف والمفكّر المثير للجدل المخصب والمثقّف الذي يتدخّل في الشأن العامّ من موقعه الراغب عن المصلحة السياسيّة المباشرة والظرفيّة.
المؤرّخ وصدمات المراجعة
وفي مسار هشام جعيّط الشابّ منذ البداية ظهرت أمارات التميّز والجرأة في مواجهة السائد من الأفكار لدى المستشرقين الذين اعتنوا بالتاريخ الإسلاميّ عامّة وتاريخ المغرب بالخصوص. وهي مواجهة شملت من ناحية أخرى الأفكار الثقافيّة والسياسيّة المنتشرة في المشرق العربيّ. لذلك بدأ التميّز بالنقد الجذري للمنحيين الاستشراقي والمشرقيّ في تواصل مع المدوّنتين بخلفيّاتهما الفكريّة تأكيدا للسعي إلى تناول مختلف للقضايا المتّصلة بالتاريخ والهويّة.
ففي مجال البحث التاريخي الحِرَفيّ برز اسم هشام جعيّط بدراساته عن تاريخ الغرب الإسلاميّ ثمّ بحثه المعلم عن نشأة مدينة الكوفة. لكنّ عودة جعيّط إلى التاريخ الإسلاميّ الذي بدا قد قتل درسا مثّل منعرجا مهمّا في مسيرته البحثيّة والجدل الذي أثارته كتاباته. فلم يكن درسه للفتنة الكبرى مجرّد زيارة ثانية لفترة حرجة من التاريخ الإسلاميّ فحسب بل مثّل تأليفا نظريّا متطوّرا بين الفلسفة الهيغليّة وعلم الاجتماع الفيبري ومكتسبات الاستشراق الغربيّ. ومثّل إلى ذلك تناولا مهمّا لعلاقة الدين بالسياسة في بدايات الإسلام.
وتأكّد هذا التوجّه التجديدي والفلسفي في تناول قضايا التاريخ الإسلاميّ باقتحام جعيّط لمجال مسيّج بمئات الدراسات الدقيقة وهو مجال السيرة النبويّة. فوضع ثلاثيّة السيرة قاصدا مقاربة القرآن وفق أحدث المناهج التاريخيّة. فتناول في كتاب "الوحي والقرآن والنبوّة" (1999) ثم في "تاريخيّة الدعوة المحمّديّة في مكّة" (2006) وأخيرا في "مسيرة محمّد في المدينة وانتصار الإسلام" (2012) الوحي على نحو صادم للوعي العربيّ الإسلاميّ رغم تنبيه جعيّط إلى أنّه لا يهدف إلى مناقشة القناعات الدينيّة. فالبيّن في عمل جعيّط البعد الأنتروبولوجي لتحليله على نحو فصل في تاريخ الإسلام المبكّر بين الدنيويّ والمقدّس مشكّكا في ما كان يُعتقد أنّه حقائق مقدّسة منها تاريخ ولادة الرسول واسمه ومكانة عشيرته...إلخ.
لقد كان تناول جعيّط دقيقا عميقا على نحو يستدعي فيه ما كتبه النقاش بقدر ما يستدعي الإعجاب والانبهار بالرؤية الفلسفيّة العميقة والنظرة الفكريّة الثاقبة والأصالة في المعالجة التاريخيّة لقضايا خطيرة.
جعيّط مفكّرا
لم ينفصل جهد جعيّط في تجديد الكتابة التاريخيّة عن الانكباب على القضايا التي طرحتها الدول الوطنيّة بعد الاستقلال. فدعا إلى تجديد الدين والإيمان وتعمّق أزمة الوعي العربيّ الإسلاميّ الجمعيّ ونقد الإيديولوجيات المبرّرة للحكام العرب. ولم ينج الاسشراق خصوصا منه الأنغلوسكسوني من النقد الجذريّ. وتكشف كتبه المخصّصة لـ"لشخصيّة العربيّة الإسلاميّة والمصير العربيّ" و"أوروبا والإسلام" و"أزمة الثقافة الإسلاميّة" عن تنوّع الاهتمامات الفكريّة للرجل والانغراس في مسائل محدّدة للمصير العربيّ وواقع الأمّة بقدر ما تكشف عن فرادة التناول للقضايا وعمقه.
فمن المسائل الجوهريّة عنده مآزق الدولة الوطنيّة وعجزها عن إيجاد التأليف المناسب بين التقاليد والهويّة التاريخيّة واستيعاب الحداثة. وفي هذا تبرز أفكار جعيّط الفلسفيّة وثقافته الواسعة. فهو يدلّل كلّما تعرّض إلى مسائل الثقافة والحضارة والهويّة والحريّة والحداثة على نظرة تستند إلى معرفة معمّقة تمكّنه من أن يبدي آراءه، منذ سبعينات القرن المنقضي، في جرأة فكريّة نادرة. من ذلك أنّه نقد الفكر القوميّ العربي الوحدويّ في عزّ انتشاره مبرزا الخلط في فكر منظّري القوميّة العربيّة بين مستويات الضمير العربيّ مع وجود دول قطريّة.
بيد أنّ ما يلاحظ هو ضعف تأثير أفكار جعيّط في النقاش العربيّ أوّل الأمر. ويرجع إدريس جباري، أحد الباحثين في المؤلّف الجماعيّ، هذا الضعف إلى اعتماده الكتابة بالفرنسيّة إضافة إلى عزلته بسبب توسّله بمنطق التفاهم بدل منطق الحركة وهو ما لا يشجّع على الحوار البنّاء (ص 150). ففي مواقفه الفكريّة لا يتورّع عن تقديم "حقائق مزعجة" بنبرة نقديّة لا تيسّر قبول أفكاره رغم قيمتها في طرح مسألة النهضة وتجديد جداول البحث والتفكير لدى العرب (ص 146).
رؤية متماسكة
لقد كان جعيّط المؤرّخ من الذين استمدّوا من العلوم الإنسانيّة المختلفة، فلسفةً وعلمَ اجتماع وأنتروبولوجيا، مفاهيمهم ومناهجهم للعودة إلى التاريخ العربي قصد إعادة بنائه بناء واعيا بانتمائه الحضاريّ العربيّ الإسلاميّ رادّا بظاهر اليد القراءة التمجيديّة الساذجة والقراءة الاستشراقيّة المتعالية المغالطة. وكلّ ذلك دون التخلّي عن الصرامة المعرفيّة وما يقتضيه التاريخ العربي من تكامل بعيدا عن الهيستوغرافيا الاستعماريّة. من ذلك أنّه لم ير وجها للفصل بين تاريخ المشرق وتاريخ المغرب.
غير أنّ اعتماد جعيّط على العلوم الإنسانيّة ومكتسباتها لم يصرفاه إلى التنظير. بل عمل كأيّ مؤرّخ محترف على التنقيب على الحقائق والربط بينها وتأويلها ضمن رؤية رحبة متماسكة. فكان ذلك دليلا منصوبا على الوعي المنهجي الحادّ بمقتضيات الكتابة التاريخيّة وعلى فعل التأريخ الدقيق الذي يتفهّم الوقائع ويفسّرها في آن واحد. ففي حديثه عن الفتنة مثلا يستعيد الأحداث والفاعلين والسياقات بدقّة باحثا عمّا يشدّ بعضها إلى بعض شدّا عقليّا دون أن يقصي دور مفاجآت الصدف والأحداث العرضيّة. ولكنّه يصل إلى صياغة حبكة سرديّة تاريخيّة فاتنة تقوم على الإيمان بالجدل الفلسفي والإيمان بالدولة في مفهومها الهيغلي ( مقال محمّد الخرّاط، ص 82). فجعيّط كما يصفه أحد الباحثين في هذا الكتاب الجماعيّ "يكون مؤرّخا حين يسرد ويتتبّع الوقائع والأفكار والمؤسّسات في فضاء زمنيّ محدّد ويكون مفكّرا حين يتجاوز التاريخ الوقائعيّ ويغلّب مبدأ تأويل الذهنيّات ومقاربة الوعي" (ص 88).
إنّ بين المؤرّخ والمفكّر صلات عميقة لا تخطئها العين. فلئن كان مدار اهتمام جعيّط الأساسيّ على امتداد أربعين عاما من البحث هو الهويّة العربيّة الإسلاميّة فإنّ معالجته للتاريخ الحديث من خلال الإشكاليّات الفكريّة التي يطرحها في شأن الدولة الوطنيّة والشخصيّة العربيّة الإسلاميّة لا يمكن فصلها عمّا أسّست له الفتنة الكبرى من علاقة بين السياسة والدين مثلا. فما يقبع عميقا في كتابات جعيّط هو ضرب من أركيولوجيا الوعي العربيّ وطرقه في الإدراك الذهني والتنميط الديني والأخلاقيّ فهما وتأمّلا وتحليلا وتفسيرا (ص 81) خصوصا ضمن صراع كونيّتين هما كونيّة الإيمان (الإسلام) وكونيّة العقل العلماني" (الحداثة) من أجل تحديد غايات البشريّة.
ولا نظنّ أنّ الفكر العربي قد تجاوز هذا الإشكال. ومن هنا تتبدّى راهنيّة هشام جعيّط وبهذا تُفسّر هذه العودة إليه. فقد كان مجدّدا في طرح جوانب أساسيّة من المشكلة، جريئا في كسر قوالبها الجاهزة بروح نقديّة عالية ومعرفة عميقة مكّنتاه من اختراق ما بدا في الفكر العربيّ، لفترة مّا، مسلّمات لا يرقى إليها الشكّ.
ولولا أنّ جعيّط شكّل، بفضل لفيف من طلبته الذين انكبّوا على قضايا دقيقة من التاريخ الإسلاميّ بالمراجعة والنقد وإعادة البناء، مدرسة في الكتابة التاريخيّة لقلنا إنّنا نفتقد بافتقاد كتاباته، وقد جاوز الثمانين، مؤرّخا نادرا. لكنّ رغم هذه المدرسة التي انتسبت لها نخبة من الأكاديميّين التونسيّين فإنّ جعيّط المفكّر الصادم بأطروحاته والمثقّف المباغت بمواقفه يظلّ من الطيور النادرة في سماء الثقافة العربيّة.