هل تنقمون على مصر الدفاع عن حياة شعبها وأمنها؟

يجب صون الحقوق المصرية في نهر النيل وحماية الناس من خطر العطش والفناء. النيل الخالد هو علة وجود وبقاء مصر المحروسة، ومياهه هي شريان حياة شعبها ومصدر استقراره

في الداخل والخارج، نختلف كمواطنين مصريين حول الكثير من الأمور الاقتصادية والاجتماعية من بناء العاصمة الإدارية والاتفاقيات المتتالية مع صندوق النقد الدولي إلى تطوير منظومات الرعاية الصحية والنظم التعليمية وطرق مواجهة جائحة كوفيد-19. تتمايز مواقفنا من قضايا السياسة بين من يرون في صون حقوق الإنسان وحرية التعبير عن الرأي ترفا لا أهمية له ويؤيدون غلبة الصوت الواحد داخل المؤسسات الرسمية وفي الفضاء العام طلبا للدولة القوية وللمجتمع المستقر، وبين من أنتمي إليهم ويدفعون بكون صون الحقوق والحريات شرط ضرورة للدولة القوية والمجتمع المستقر ويدعون إلى الاستعادة التدريجية للتعددية ولإجراءات التحول الديمقراطي بإرادة وطنية خالصة يستحيل أن تتشكل سوى داخل مصر المحروسة وليس خارجها.

غير أن اختلافاتنا المشروعة حول الأمور الاقتصادية والاجتماعية والسياسية ليس لها أن تكون مدعاة للفرقة أو سببا للتنازع وحياة شعبنا تتعرض لتهديدات وجودية وأمن بلادنا يواجه تحديات خطيرة.

خلال السنوات الماضية، سعت الحكومة المصرية بكافة السبل السلمية ودون كلل إلى التوافق مع الحكومة الإثيوبية بشأن سد النهضة وانتهى بها الحال اليوم إلى التوجه لمجلس الأمن الدولي شاكية من التعنت الإثيوبي ومطالبة المجلس باستصدار توصية ملزمة للدولتين ومعهما السودان بحتمية صون مصالح دول نهر النيل كافة وليس فقط دولة المنبع (إثيوبيا هي دولة منبع النيل الأزرق) وضرورة التوصل إلى توافق بشأن السد قبل شروع السلطات الإثيوبية في ملء خزانه في يوليو/تموز القادم. منذ تم توقيع الاتفاقية الإطارية في 2015 والتي أقرت حقوق مصر والسودان وإثيوبيا في مياه النيل معترفة بحق الأخيرة في بناء السد لاحتياجاتها التنموية المشروعة وبحق الشعبين المصري والسوداني في ألا تتضرر مواردهما المائية وملزمة من ثم الأطراف الثلاثة بآليات التفاوض والحلول التوافقية قبل تشغيل السد وبعد التشغيل (خاصة في فترات جفاف الهضبة الإثيوبية المتوقع حدوثها مستقبلا)، والحكومة المصرية ممثلة في وزارات الري والخارجية وأجهزة الأمن القومي لم تبتعد عن جلسات التفاوض إن ثلاثية الأطراف بالمشاركة مع السودان وإثيوبيا أو متعددة الأطراف كمفاوضات واشنطن التي أجريت مؤخرا بحضور ممثلين عن الإدارة الأمريكية والبنك الدولي.

خلال السنوات الماضية، لم تتوقف الحكومة المصرية عن إعلان تمسكها بروح ونصوص الاتفاقية الإطارية 2015 وبقواعد القانون الدولي العام المنظمة لحقوق الدول المطلة على الأنهار العابرة للحدود وأهمها عدم مشروعية الإجراءات الأحادية، والتشديد على اعترافها بمشروعية الاحتياجات التنموية لإثيوبيا وبحقها في بناء سد النهضة شريطة عدم الإضرار بحقوق ومصالح الأطراف الأخرى. كذلك أكدت الحكومة المصرية مرارا على التزامها الحلول التوافقية ورفضها المبدئي للحلول غير السلمية. الحق أقول، لم تروج الحكومة المصرية خطابا إثاريا باتجاه الداخل ولم تدق في الخارج طبول الحلول العسكرية، بل سعت إلى توعية الرأي العام في الداخل بمشروعية الاحتياجات الإثيوبية ومشروعية طلبنا ألا تلحق الأضرار الجسيمة بمواردنا المائية ويتعرض 100 مليون مصري لخطر العطش (90 بالمائة من الموارد المصرية المائية يأتي من النيل) ودللت مبادراتها وخطواتها الديبلوماسية في الخارج على التمسك بآليات التفاوض حتى الرمق الأخير (شهدت بذلك الإدارة الأمريكية والبنك الدولي والاتحاد الأوروبي الذي تصاعد مؤخرا اهتمامه بسد النهضة).

اليوم والحكومة المصرية تتجه إلى مجلس الأمن شاكية من التعنت الإثيوبي ومن التهديدات المتكررة (التصريحات الأخيرة لوزير الخارجية الإثيوبي بكون حكومته ستشرع في ملء سد النهضة إن بالتوافق مع مصر والسودان أو دونه) وتطالب الجهة الدولية بحماية السلم والأمن في حوض النيل بإلزام إثيوبيا الامتناع عن الإجراءات الأحادية والعودة حسنة النية والجادة إلى التفاوض، اليوم يتعين علينا كمواطنين وبغض النظر عن تمايز مواقفنا بشأن أية أمور أخرى (لا أقلل أبدا من أهميتها من مواجهة جائحة كوفيد-19 إلى حقوق الإنسان والحريات) دعم الحكومة في هذه اللحظة الفارقة وتأييد سعيها إلى صون الحقوق المصرية في نهر النيل وحمايتنا من خطر العطش والفناء. النيل الخالد هو علة وجود وبقاء مصر المحروسة، ومياهه هي شريان حياة شعبها ومصدر استقراره.

يجب صون الحقوق المصرية في نهر النيل وحماية الناس من خطر العطش والفناء. النيل الخالد هو علة وجود وبقاء مصر المحروسة، ومياهه هي شريان حياة شعبها ومصدر استقراره

ليس صون حقوقنا في نهر النيل بأمر يقبل الاختلاف بيننا كمواطنين مصريين، وليس لمعارضة وطنية تقدم مصلحة البلاد على أية صراعات سياسية أو حسابات حزبية غير أن تؤيد توجه الحكومة إلى مجلس الأمن الدولي وأن تصطف معها لدعم تمسكنا بحتمية امتناع إثيوبيا عن الإجراءات الأحادية وضرورة التواصل إلى حلول توافقية. أسجل، وبعد قراءة تفصيلية للمادة المعلوماتية المنشورة عن جلسات التفاوض الثلاثية بين مصر والسودان وإثيوبيا وجلسات التفاوض متعددة الأطراف، قناعتي أن صانع القرار المصري لم يتهاون في إدارة ملف سد النهضة تأسيسا على قواعد القانون الدولي العام وروح ونصوص الاتفاقية الإطارية الموقعة في 2015 وأن كيل الحكومة المصرية كان قد فاض قبل أن تلجأ إلى مجلس الأمن في خطوة تصعيدية مشروعة وأن اصطفافنا الوطني وتحييدنا فيما خص النيل الخالد للتمايزات بين مؤيدي الحكم وأنصار المعارضة يمثل شرط ضرورة لنجاحنا في ردع التعنت الإثيوبي، بل وشرط شرعية الوجود والبقاء لحركات المعارضة كقوى وطنية تقدم رحابة الدفاع عن الحقوق والمصالح المصرية على ضيق الصراعات السياسية والحزبية. لا أدعو المعارضة إلى الصمت عن الأمور الاقتصادية والاجتماعية الهامة ولا إلى التنكر لقضايا الحريات واجبة الطرح المستمر، بل أطالبها بألا تحول اختلافاتها مع الحكم دون التزامها الضروري بتأييد الخطوات الحكومية المتعلقة بإدارة ملف سد النهضة والاصطفاف معها في شراكة وطنية حقيقية تنتصر لمصر وأمنها وحياة شعبها.

وينطبق ذات الأمر، تقديم رحابة الدفاع عن أمن مصر وشعبها على ضيق الصراعات السياسية والحزبية، على الموقف من الشأن الليبي. لا تملك مصر رفاهية تجاهل الأحوال الليبية أو الإشاحة بوجهها بعيدا عن كارثة وجود ميليشيات وقوات أجنبية على الأراضي الليبية، وعلى من ينقم على الحكومة المصرية دورها السياسي والعسكري في ليبيا ومبادرتها الأخيرة المتعلقة بوقف إطلاق النار وتفاوض الفرقاء الليبيين طلبا لتسويات سلمية أن يفصح عن أسباب دعمه للحضور السياسي والعسكري لتركيا وهي قوة إقليمية بعيدة عن الجوار الليبي وعلى عكس مصر وكذلك السودان وتونس والجزائر لا يتأثر أمنها القومي بمجريات الأمور في ليبيا.

بين مصر وليبيا شريط حدودي طوله 1200 كيلومتر، بين مصر وليبيا قبائل وعمالة وتجارة تتحرك عابرة للحدود منذ أزمنة طويلة، بين مصر وليبيا حقائق جغرافيا وتاريخ ومجتمع تلزم بالتقارب والتعاون وطلب الاستقرار. لمصر ولحماية أمنها القومي مصالح مشروعة في ليبيا لا تقبل القسمة على موائد أطراف إقليمية طامعة أو قوى خارجية همها الوحيد استنزاف موارد ليبيا الطبيعية.

لست هنا في صدد تقييم مجمل سياسات الحكومة المصرية تجاه ليبيا خلال السنوات الماضية، ولست في وارد إنتاج مقولات إثارية بشأن هوية كل الفاعلين الإقليميين والدوليين الذين تورطوا في ليبيا عسكريا ومسؤوليتهم الجماعية عن غياب السلم الأهلي والتوافق الوطني عن المجتمع الليبي إلى يومنا هذا. فقط أسجل أن القاهرة أعلنت عن مبادرة لوقف الصراع العسكري وللتسوية السياسية دون استبعاد لأي من الفرقاء الليبيين، وأمهرت ذلك بالتشديد على أن غياب الاستقرار عن ليبيا يضع الأمن القومي المصري في معية تهديدات مباشرة وكبرى وأنها مستعدة للتدخل العسكري الفوري ما لم يلتزم الجميع ومعهم الأطراف الإقليمية والدولية المساندة لهم بآليات التفاوض والحلول التوافقية. كغيري من المواطنين المصريين، لا أتمنى أبدا أن يفرض على مصر التدخل العسكري في ليبيا وأنشد حلا سلميا يعيد اللحمة الوطنية بين الشرق والغرب الليبيين ويخرج الميليشيات والقوات الأجنبية ويحيد من ثم التهديدات الواردة على أمن مصر. إلا أن واجب الحكومة المصرية هو التوظيف الفعال لكافة أدوات القوة من إعلان المبادرات السلمية ودعوة الفرقاء الليبيين إلى التفاوض وحشد التأييد العربي والدولي إلى التلويح بالقوة العسكرية لاحتواء تمدد الدور والنفوذ التركيين وفرض خروج الميليشيات والقوات الأجنبية. لم يكن في قيام القوات المسلحة المصرية بضربات عسكرية ضد بعض الميليشيات المتطرفة وفي أعقاب جرائم ذبح المصريين (سرت، 2015) وتنفيذ عمليات إرهابية داخل مصر (حافلتا دير الأنبا صموئيل، محافظة المنيا، 2017) سوى الحماية المباشرة لمصر وأمن شعبها، وليس في التلويح الراهن بإمكانية استخدام القوة العسكرية ما لم ينزع جميع الفرقاء وداعميهم الإقليميين والدوليين إلى التفاوض غير طلب تحييد التهديدات الواردة من الداخل الليبي على الأمن القومي المصري.

في شأن ليبيا كما فيما خص سد النهضة الإثيوبي تتقدم، إذا، رحابة الدفاع عن أمن مصر وشعبها على ضيق الصراعات السياسية والحزبية وتصير مسؤولية المعارضة الوطنية هي ممارسة الاصطفاف مع الحكم وتأييد توظيفه الحاسم والشجاع لأدوات القوة المصرية لدرء الخطر عن حقوقنا ومصالحنا. مجددا، أسجل أن الاصطفاف الوطني المنشود لا يعني أن تصمت المعارضة عن الأمور الاقتصادية والاجتماعية الهامة ولان أن تتجاهل قضايا الحريات. فقط يلزم بألا تحول الاختلافات مع الحكم في مصر دون الاصطفاف وراء قضية وجود كمياه النيل أو وراء قضية أمن قومي كحال ليبيا.

حين وقعت الحكومة المصرية اتفاقية تيران وصنافير مع المملكة العربية السعودية (2016)، رفضت علنا أن تتهم الحكومة التي كنت ولم أزل على اختلاف معها بشأن قضايا الحريات والديمقراطية بأنها تبيع الأرض المصرية أو أن يطعن في وطنيتها. ورتب ذلك توجيه الكثير من سهام النقد الجارح وغير الأخلاقي لي من قبل معارضين كنت أظن أنهم سيدافعون مبدئيا عن حرية التعبير عن الرأي أو على الأقل يمتنعون عن التورط في تخوين المختلفين معهم. واليوم، دون صمت عن قضايا الحريات التي أكتب عنها دون توقف، أسجل تضامني مع توجهات الحكومة المصرية بشأن التعنت الإثيوبي في ملف سد النهضة الذي يهدد حق شعبنا في الحياة وبشأن خطر تغول الدور التركي في ليبيا وحتمية التسوية السلمية للصراعات المسلحة الدائرة طلبا للسلم والوحدة في ليبيا وحماية للأمن القومي المصري.