قصائد جلال الدين الرومي: احتفاء بتعدد الحب وتشعباته
نحن أمام ألبُوم موسيقيّ نراهُ من الجهود المُشتَرَكة الرَّائعة التي خَرَجَت إلى النُّور بسبب الشَّدائِد، لا رَغمًا عنها. المُغَنِّية الإيرانيَّة الأمريكيَّة (کَتایُون گُودَرزي)، والمُلَحِّن الهنديّ الكلاسيكيّ المُرَشَّح لجائزة "غرامي" للإنتاج المُوسيقيّ – عازف آلة الـ "سِيتار" الوتريَّة – (شُجاعَت حسين خان)، تَضافَرا مع عازف النَّاي الإيرانيّ (شاهُو أَندالِيبِي) وقارِع الطَّبلة الهنديّ (شارِق مصطفى) لإنتاج هذا الألبُوم.
فيما تعاوَن المُوسيقيُّون المُعاصِرُون الأربعة في طرح الألبوم، إلّا أنّ المُشارك الحاسِم والرَّئيسيّ هو شاعِر القرن الثالث عشر، الفَقِيه والمُتَصوّف الفارسيّ جلال الدين محمد الرُّوميّ. ما انفَكَّت التَّرجمات الإنجليزيَّة لأعماله تتصَدَّرُ أعلى قوائم مبيعات المجموعات الشعريَّة في الولايات المُتَّحِدة. لكنّ السُّخرية تَكمُن في أنّ قصائدَ شاعر مُسلِم متصَوّف كالرُّوميّ كانت الأكثَرَ رَواجًا في الوقت الذي نَفَّذَ فيه الرئيس الأمريكيّ السابِق دونالد ترامپ قرارَ حَظر السَّفر على المُسلِمين (الأمر التَّنفيذيّ رقم 13769 لعام 2017) – لضمان بقائهم خارج الولايات المُتَّحِدة – وهو الأمر الذي لم يَخفَ عن مُغَنِّية الألبوُم گُودَرزي.
في بادئ الأمر رَأت گُودَرزي في تجاوُبِ الجمهور الأمريكيّ مع قصائد الرُّوميّ دَلالةً على أنّ الولايات المُتَّحِدة قد بدَأَت بالفِعل في الاِنفِتاح على الثقافات الأخرى. إلّا أنّ الوَقائِعَ المُؤلمة التي تَجَسَّدَت في اجتِذابِ ترامپ لرَعاع العُنصُريّين، ثم تَصاعُد حركة التَّفَوُّقِيَّة البيضاء فيما بَعد، دفَعَت گُودَرزي إلى التَّعجُّبِ من كيفيَّة تعايُش هذه الأفكار الاِنعِزاليَّة مع الإعجاب في الوقت ذاته بقصائد تُنادي بالتَّسامُح، والشُّمولِيَّة، والحُبّ.
حُبٌّ رَبَّانِيّ وإنسانيّ
يتميَّزُ شِعرُ الرُّوميّ بتَعدُّدِيَّةِ المَقُولة التي تَحمِلُ الحُبَّ الرَّبَّانيّ في خِطابِها على هيئة عِباراتٍ من المُمكِن أيضًا أن تَحمِلَ حُبًّا بشريًّا في فَحواها. رَغم أنّ هذه القصائد التي بُعِثَت فيها الرّوحُ المُوسِيقيَّة مُغَنَّاة بالفارسيَّة، إلّا أنّ الإحساسَ الذي يَكسُو كُلَّ كلمة بفَضلِ غِناء گُودَرزي وعَزف المُوسيقيِّين يلمحُ لنا إلى المعاني الرَّفيعَة التي تُعَبِّرُ عنها كُلُّ أغنية في الألبُوم.
للأسف، لا يُقَدِّمُ لنا هذا العمل ترجمةَ نُصُوصِ الأغاني المَطرُوحَة. لكن، نظرًا للشَّعبِيَّة التي يتمتَّعُ بها شِعرُ الرُّوميّ، سيتمَكَّنُ المُستَمِع من العثور على ترجمة القصائد في البحث عبر الإنترنت. بَيدَ أنّه بمُجَرَّد الاِستِماع إلى الأغاني في سِياق مَضمُون الحُبّ والشُّمُوليَّة، سيتمَكَّن المُتَلَقِّي من استيعابِ المَغزَى وراء إبداع الموسيقيِّين في تَطويعِهم هذه القصائد للتَّلحينِ وللغِناء.
تُومِئُ لنا الأغنية التي تَفتَتِحُ الألبُوم، "بَرِّيّ"، بقُوَّة هذا العمل. يَستَهِلُّ الأغنيةَ عزفٌ لشُجاعَت حسين خان على السِّيتار، يَنسُجُ من خلاله حَبكَةً سَمعِيَّة سِحريَّة من شأنها أن تأخُذَ المُستَمِع مُباشَرَة إلى "اللَّادُنيَويّ". حال أيّ مقدمة موسيقيَّة، يُهَيِّئُ عزفُ شُجاعَت خان المَشهَدَ لما ستُؤولُ إليه الأمور في الأغنية التي تصلُ مُدَّتُها إلى 11 دقيقة.
نَخشَى أنّ الإيقاع قد يَصدَعُ المِزاجَ الأثيريّ الذي أوصَلَنا إليه شُجاعَت خان، لكن حين يَنضَمُّ ضابِطُ الإيقاع شارِق مصطفى، نجدُ أنّ هذا يدفَعُ بالمُتَلَقِّي إلى الاِستِماع والاِستِمتاع أكثَرَ فأكثَر. فالنَّبض القَويّ الذي يَخرُجُ من نَقرَةِ الإيقاع يُمَثِّلُ الجِسرَ الذي يَجمَعُ ما بين الواقِع المَحسُوس والآفاق العُليا التي تأخُذُنا إليها آلةُ السِّيتار، وهذه مِيزَة واعِدَة بحَدِّ ذاتِها. وحين تَشرَعُ گُودَرزي بالغِناء مع مُرافَقَةِ العازفين، نَستَشعِرُ انضِمامَ مُقَوّمٍ إنسانيٍّ آخَر. تتمتَّعُ گُودَرزي بصوتٍ خالِص – فهي لا تَفرِضُ علينا أيَّ نوع من التَّجربة السَّمعيَّة المُبهَمَة عبر توظيف حِيَل تَلاعُبِيَّة. بل على العكس، نَلمُسُ في صوتِها وإحساسِها نَبرَةً أصيلة وطبيعيَّة أكثر مما قد يتوقعهُ المرءُ في أيّ تسجيلٍ غنائيّ من هذا النَّوع.
بَعد وصول إشارة الخَمس دقائق من وقت الألبُوم، يَدخُلُ العامِلُ الأخير – وهو عزفُ أَندَلِيبِي على النَّاي. بَعد أن تَفرُغَ گُودَرزي من غناء المَقاطِع الشِّعريَّةِ الأُولى، يَنضَمُّ أَندَلِيبِي إلى عازفَي الطَّبلَة والسِّيتار. مُحَلِّقًا فوقهما كالنَّسيم العَلِيل، تَنسُجُ ألحانُه طِرازًا جديدًا ضِمن البِنيَة الصَّوتِيَّة الأوَّليَّة، مُتَمِّمًا ومُثَبِّتًا لكُلِّ ما سَمِعناه إلى هذه اللحظة، مُضِيفًا بذلك طَبَقاتٍ جديدةً للمادَّةِ والمَغزَى.
الاِحتِواء والتَّعَدُّد
هناك دلالةٌ لا يُستَهانُ بها بشأن الأهداف المُعلَنَة لألبُوم "هذا الأُفُق"، والتي تُرَكِّزُ على الاِحتِواء والتَّعَدُّدِيَّة؛ وهي أنّ هذا الألبُوم يُمَثِّلُ التجربة الأولى التي تَشهَدُ تسجيل آلتَي النَّاي والسِّيتار معًا. هاتان الآلتان – الأولى مُرتَبِطة بشكلٍ رئيسيّ بالموسيقى الكلاسيكيَّة الهنديَّة، والثانية بموسيقى بِلاد فارس/إيران – لهما القُدرَة على أن تَخلُقا التَّناغُمَ والاِنسِجام، فما الذي يَمنَعُنا من القَول بأنّ شَعبَيهِما لا يَقدَران على أن يَفعَلا الشيءَ ذاته؟ هذا النَّوع من التَّعاوُن يُعطينا الأمَل بأنّ جسورًا كهذه ما زال من الممكن أن تُشَيَّدَ بين هاتَين الثقافتَين، خاصةً في وقتنا الرَّاهِن، رَغمًا عن الخِطاب المُعادي للإسلام المُتَفَشِّي في الهند التي يَرأسُ وُزراءَها ناريندرا مُودِي.
في واقِع الحال، يُشَكِّلُ الألبُوم بأجمَعِه بادِرَةً من الأمَل. موسيقيَّان إيرانيَّان وآخَرَان هنديَّان، يُبدِعُون جميعًا في عملٍ موسيقيّ مُستَلهَم من كتابة شاعر فارسيّ، وُلِدَ في أفغانستان وتُوُفِّيَ قَبل 800 عام، وهذا بحدِّ ذاتِه إنجازٌ مُدهِش في زَمَن الكراهية والفُرقَة هذا. إنّ الأمرَ الذي يجعلُ هذا الألبُوم عَملًا بالِغَ التَّأثير هو أنّ الشِّعرَ الذي يُلهِمُ مَقُولتَه يتكلَّمُ في الحُبِّ وأحكامِه.
ولأنّ شِعرَ الرُّوميّ لا يَطرَحُ وصفًا ساذَجًا لمَآثِر العِشق، فقد اختارَت گُودَرزي بعنايةٍ فائقة مع زميلها خان مَقاطِعَ أدبيَّة تعكِسُ تعدُّدِيَّة هذه المَآثِر. في أغنية "بَرِّيّ"، على سبيل المثال، يُحدِّثُنا الشَّاعِر عن التَّواصُل مع "الإلَهيّ" الذي من شأنه أن يُعِينَنا على إدراك العِشق بأكمله، لأنّ الحُبَّ – كُلَّ الحُبّ – هو امتدادٌ للحُبِّ المُطلَق الذي نَكِنُّه للكون.
حين نتعمَّقُ في سِيرَة جلال الدِّين الرُّوميّ، نستطيعُ أن نُدركَ مُلاءَمة اختيار عُنوان المَقطُوعَة. هذا لأنّ الرُّوميّ كان مُتأثرًا بشكلٍ استِثنائيّ بصَداقته مع الشَّاعِر المُتَصَوّف شمس الدين التَّبريزيّ. فالتَّبريزيّ هو ليس مُجَرَّد الشخص المَسؤُول عمَّا نَعرفُ اليوم بمُصطلح "الدَّرويش" – الذي بِتنا الآن نَربُطُه بنَمَطٍ مُعَيَّن من العِبادة والتَّأمُّل ("الدَّرويش" الذي يَدُورُ حول نَفسِه حتى يَبلُغَ مرحلةَ الوَصلِ مع الله) – فقد كان يَدعُو أيضًا إلى عَلاقة العَبدِ المُباشِرة مع الخالِق.
حتى بالنسبةِ للمُستَمِعين الذين لا يعرفون اللغة الفارسيَّة، ما زالت الموسيقى قادرة على أن تَحكِيَ في الحُبِّ الجارِف. ولو نظرنا إلى عُنوان كُلّ أغنية: "أوحَد"، "مُحِبّ"، "أعذَب"، "باقٍ هُنا"، و "كُلُّ ما أملِك"، سنجدُ أنّ كُلَّ عُنوان يلعبُ دورَ المَعلَم المَكانِيّ في الرِّحلة السَّمعِيَّة للمُتَلَقِّي، لأنّ عناوينَ كهذه تُشيرُ إلى المُحتوَى العاطفيّ والوِجدانيّ خلف كُلّ لحنٍ من الألحان. وإن كانت الأغنية الاِفتتاحيَّة، "بَرِّيّ"، تَرمُزُ إلى فِتنَةِ المَشاعِر التي يُؤجِّجُها الغَرام، فإنّ المُستَمِع بإمكانه أن يَستَنبِطَ المَغزَى من بقيَّة الأغاني بكُلِّ سَلاسَة.
يَحمِلُ الحُبُّ في كُنهِ مَفاهيمَ مُختلِفة ما بين الشَّخص والآخَر، وفيما يَرغَبُ كُلٌّ من گُودَرزي وخان أن نتفكَّرَ في فَحاوَى السِّياق الخاص بكُلّ أغنية، إلّا أنّهما لا يُجبِران المُستَمِع على سلوك الطريق الذي يَصِلُ به إلى تلك الحالة. هذا الألبُوم الرَّائع هو احتفالٌ بكُلّ ظِلالِ المَعانِي المُختَلِفة للحُبّ كما جاء في شِعر الرُّوميّ. ولقد بَذَلَ المُوسيقيُّون المُشاركون قُصارَى جَهدهُم لاِحترامِ المادَّة الشِّعريَّة الأوَّليَّة، ولإبقاء مَقُولَتهِم الفنيَّة خالية من أيّ أجِنداتٍ أُخرَى.
لطالَما رَفَعَ المُوسيقيُّون والشُّعراء أصواتَهم كشُعلَةٍ من الأمَل في الأوقاتِ العَصِيبَة. وألبُوم "هذا الأُفُق" هو مثالٌ جميلٌ وبَدِيع للمُنتَج الفَنِّيّ المُتميِّز الذي يتمَخَّضُ عن هذا النَّوع من المُحاوَلات المُشتَرَكة.
ريتشارد ماركُوس
ترجمة: ريم الكيلاني
حقوق النشر: موقع قنطرة 2022