كيف يظهر الخطاب الطائفي في الفضائيات العربية؟
نماذج كثيرة لهذا الخطاب الإعلامي الحاث على التعصّب والكره يمكن رصدها، نماذج يناصب بعضها العداء للبعض الآخر، ولكنها في نهاية المطاف تتحد في سعيها إلى بث قيم معيّنة، قيم تعارض كل ما هو حديث.
اختطت العديد من القنوات الفضائية التي ترفع لواء المذهب السني لنفسها نهجاً يقوم على الإساءة إلى الآخر والتجريح به، سواء كان هذا الآخر مختلفاً عنها مذهبياً كالشيعة، أو دينياً كالمسيحيين والبهائيين.
من أهم القنوات السنية التي "تميّزت" في هذا المجال قناة صفا التي تبث برامجها من مدينة الإنتاج الإعلامي بالقاهرة، وتحوم الشبهات والشكوك حول مموليها وأهدافهم.
تحليل محتوى برامج القناة يوضح بجلاء خطابها الطائفي الذي يؤدي إلى إثارة الحساسيات الدينية والمذهبية في المجتمعات العربية.
برنامج "كلمة سواء" الذي يقدمه الإعلامي المصري محمد صابر بالاشتراك مع بعض الدعاة ورجال الدين السلفيين، من أمثال السوري عدنان العرعور واليمني خالد الوصابي، هو البرنامج الرئيسي في القناة، وتقوم فكرته على عقد مناظرات مع ممثلين للمذهب الشيعي الاثني عشري.
في الكثير من الأحيان، لا تصل تلك المناظرات إلى نهايتها، إذ يرفض الطرف الشيعي إكمال المناظرة، وفي أحيان أخرى يتم قطع الاتصال عن المناظر بعد أن يصل النقاش إلى السباب المتبادل بين الطرفين.
واللافت أن ضيوف القناة من الشيعة يُستضافون من أجل إحراجهم، فهذا هو هدف البرنامج، لذلك كثيراً ما نرى أن مَن يقبلون بالظهور على شاشتها هم من رجال الدين الشيعة المغمورين، وإن كانت هناك بضعة استثناءات.
ويظهر غرض القناة من برامجها من عناوين مقاطع الفيديو التي تبثها عبر قناتها على يوتيوب، فيمكن مثلاً أن نرى فيديو بعنوان: "الطفل آدم الذي هز مراجع الشيعة على الهواء".
ويأتي الهجوم ضد الأفكار الوسطية والمتنورة، في المرتبة الثانية في أولويات قناة صفا التي تخصص برنامجاً بعنوان "قرار إزالة"، مهمته الأولى هي نقد مفكرين من أمثال إسلام بحيري وسيد القمني وبعض شيوخ المؤسسة الدينية والأزهر كالدكتور سعد الدين الهلالي.
وعلى نفس خُطى قناة صفا، تسير قناة وصال التي تبث برامجها بست لغات حية، واعتادت أن تكرس جهودها لنقد المذهب الشيعي الاثني عشري والهجوم على معتنقيه أو المتعاطفين معه.
ومن أشهر برامج قناة وصال، برنامج "وجهاً لوجه"، والذي شهدت إحدى حلقاته واقعة شهيرة هي طرد الداعية السعودي حسن فرحان المالكي على الهواء مباشرة، بعدما تم اتهامه بالإساءة إلى الصحابة.
بعيداً عن مهاجمة التشيع، تأتي بعض القنوات السنية الأخرى التي تركّز على مهاجمة الدين المسيحي والسخرية من رموزه.
ومن القنوات التي سارت على هذا النهج، قناة الأمة، التي بثت برامجها في مرحلة ما بعد 25 يناير 2011، وتوقفت بعد 30 يونيو 2013.
وشهدت بعض برامج القناة هجوماً لاذعاً من الداعية السلفي المصري أبي إسلام على الكنيسة وبابا الأقباط في بعض الأحيان.
كما شهدت سخريته من بعض الممارسات التعبدية والطقوسية المسيحية في أحيان أخرى.
كما ظهر أبا إسلام هذا في بعض المقاطع المصورة وهو يقوم بتمزيق الأناجيل، وهو الأمر الذي تسبب في تصاعد الغضب القبطي في مصر، وعرّض صاحبه للملاحقة القانونية والقضائية.
وكان لقناة الناس التي تبث من مصر، والتي تعرضت للإيقاف في الكثير من الأوقات، نصيب وافر من بث الشحنات الإعلامية الطائفية السنية، فقد اهتمت بإنتاج بعض المواد عن البهائية، واتهمتها بإباحة تبادل الزوجات وتحدثت عن كذب بهاء الله و"زيف كتابه الأقدس".
وعلى الخط نفسه، سارت قناة الرحمة المملوكة للداعية السلفي الشهير محمد حسان، إذ قدمت سلسلة من الحلقات التي هاجمت البهائيين، واعتبرتهم "ذيلاً من ذيول الشيعة"، وصنيعة للروس واليهود، ودعت للتفريق بين الأزواج البهائيين وزوجاتهم المسلمات.
تتصدّر قناتان بارزتان القنوات الشيعية ذات الخطاب الطائفي، وهما قناتا صوت العترة-فدك وأهل البيت.
القناة الأولى أطلقها رجل الدين الشيعي المثير للجدل، ياسر الحبيب. فالحبيب الذي تعرض للسجن في الكويت، وغادرها في ظروف غامضة إلى إنكلترا، أطلق حملة موسعة في الأوساط الشيعية في أوروبا والبلاد العربية بهدف جمع التبرعات لإطلاق قناة فضائية لنشر أفكاره وآرائه.
وبالفعل تم إطلاق قناة فدك في شهر سبتمبر من عام 2010، على قمر أتلانتيك بيرد 4، ولكن لما وصل عدد من التهديدات إلى إدارة القمر الصناعي، اضطر الحبيب إلى إعادة بث قناته على قمر هوت بيرد في فبراير 2011.
وفي محاولة منه لنشر أفكاره في أكبر رقعة ممكنة، قام بإذاعة برامج القناة على قناة جديدة تُعرف باسم "صوت العترة"، وبدأ بثها عبر القمر الصناعي نايل سات عام 2013.
اعتاد الحبيب مهاجمة رموز وأعلام أهل السنة والجماعة، والانتقاص من قدرهم بشتى السبل الممكنة.
ففي 27 أغسطس 2010، قامت قناة فدك بالاحتفال بذكرى وفاة السيدة عائشة، بتنظيم احتفالية شاعت فيها مظاهر البهجة والفرح، ودعا الحبيب الشيعة في جميع بلاد العالم إلى الاحتفال بما سمّاه هلاك عائشة، وهو الأمر الذي أثار غضب السنة في البلاد العربية.
واعتادت قناة صوت العترة أيضاً تقديم البرامج التي يخرج فيها الحبيب ليطعن في أنساب بعض الصحابة، ويكيل لهم الاتهامات بالفسق والكفر.
فقد شكك في بعض حلقاته في نسب الخليفة الثاني عمر بن الخطاب، معتمداً على بعض الروايات التراثية الضعيفة.
كما ادعى في حلقات أخرى بأن كبار صحابة الرسول كفروا واشتركوا في مؤامرة لقتله.
ولم يقتصر هجوم قناة صوت العترة على السنة فحسب، بل خرج الحبيب، في الكثير من الحلقات، ليهاجم الفصيل الشيعي الوسطي الذي يميل إلى التوافق مع السنة، ومن ذلك هجومه على الشيخ أحمد الوائلي والمرجع الشيعي اللبناني الراحل محمد حسين فضل الله.
وقام الحبيب أيضاً، في بعض الحلقات، بتوجيه بعض من خطاباته الطائفية ضد الطائفة الأيزيدية التي تسكن في بعض نواحي العراق، واتهمهم بعبادة الشيطان وبعلاقتهم التاريخية بالأمويين أعداء أهل البيت .
وسارت قناة أهل البيت، التي أسسها الشيخ الشيعي الأفغاني حسن الله ياري، على نفس الخط الإعلامي الطائفي الذي حددته قناة صوت العترة.
فالقناة التي تبث من كاليفورنيا بأميركا، اعتادت على التعرض بالسب واللعن لرموز أهل السنة، وجعلت مهمتها الرئيسة إثبات ما تدّعي أنه فسقهم وكفرهم.
وأفرد حسن الله ياري، الذي يكاد يكون المقدم الوحيد على شاشة القناة، مساحات واسعة لانتقاد الصحابة وعلماء السنة، فتعرض بالإهانة والسخرية للخليفتين أبي بكر الصديق وعمر بن الخطاب.
كما ظهر في الكثير من برامجه وهو يسخر منهما ويتهمهما بالجبن والضعف والفرار من المعارك.
واعتاد المعمم الأفغاني كذلك على مهاجمة الفصيل الشيعي المؤيد لنظرية ولاية الفقيه، التي يعتبرها خروجاً صريحاً عن تعليمات المذهب الإمامي الإثني عشري، كما ظهر كثيراً وهو يسب ويلعن آية الله الخميني قائد الثورة الإسلامية وخليفته علي خامنئي.
وتعرّض حسن الله ياري كذلك بالنقد لبعض المرجعيات الكبرى عند الشيعة، ومن ذلك هجومه على السيد علي السيستاني، متهماً إياه بالفسق وسقوط العدالة، بسبب انتقاده لممارسة التطبير وجرح الجسد في الاحتفالات بذكرى مقتل الحسين.
تُعتبر قناة الحياة، واحدة من أهم القنوات الفضائية المسيحية التي لها دور ملموس وفعال في تصاعد الخطاب الطائفي المنشط للتعصب وكره الآخر.
قناة الحياة هي قناة تعمل بالشراكة مع منظمة جويس ماير الأمريكية المشهورة، والتي تتركز أنشطتها على التبشير بالسيد المسيح. بدأ بث القناة عام 2003، وتعرض عدداً من البرامج التي يتشارك في تقديمها بعض المتنصرين من ذوي الخلفية الإسلامية، وبعض رجال الدين الإنجيليين.
ورغم أن الشعار الذي ترفعه القناة، يقول إن "فضائية قناة الحياة هي محطة تلفزيونية مسيحية لا طائفية تعمل على زرع كلمة الله النقية وسط المجموعات الناطقة باللغة العربية"، إلا أن تحليل محتوى بعض من المواد المقدمة على شاشتها يكشف بطلان ذلك الادعاء.
فمنذ بداية بث القناة، كان انتقاد الدين الإسلامي والانتقاص من رموزه والتهكم على عباداته وشعائره من أهم أولوياتها.
مثلاً، يطرح المتنصر المغربي رشيد حمامي المعروف باسم الأخ رشيد، عدداً من الأسئلة المتعلقة بثوابت الدين الإسلامي وأركانه، في برنامجه الموسوم بـ"سؤال جريء".
اعتاد الأخ رشيد في هذا البرنامج الذي تعدّت حلقاته الخمسمئة حلقة، على التشكيك في ثوابت الإسلام، مثل القرآن والسنة النبوية، وربط جميع العبادات الإسلامية بأصول تاريخية فارسية وسريانية قديمة.
القناة فتحت الباب أيضاً أمام حامد عبد الصمد لتقديم برنامجه المعنون بـ"صندوق الإسلام".
عبد الصمد هو باحث مصري متخصص في التراث الإسلامي، يقيم في ألمانيا، وأعلن إلحاده وإنكاره للعقائد الإسلامية، ويقوم في برنامجه بنقد التراث والتاريخ الإسلاميين، ومحاولة إثبات العلاقة بين الإرهاب والإسلام، كما أنه دائماً ما يحاول الانتقاص من الدين الإسلامي وتفريغه من كل المضامين الإيجابية الموجودة فيه.
وليست الفكرة في مضمون ما يقدّمه عبد الصمد أو الأخ رشيد، فهي مسائل قد يتفق معها البعض، بل الفكرة في تركيز القناة على مهاجمة الدين الإسلامي والمسلمين بشكل يضع المشاهد أمام ثنائية المسيحية الخيّرة والإسلام الشرير، علماً أنها قناة دينية وليست قناة معادية للأديان.
البرنامج الأشهر على القناة، كان برنامج "حوار الحق" الذي اعتاد القمص المصري المطرود من الكنيسة القبطية زكريا بطرس، على تقديمه أو المشاركة فيه.
في هذا البرنامج، تم توجيه عبارات السب الصريح لنبي الإسلام، كما تمت السخرية من جميع المقدسات الإسلامية، ما نتجت عنه إثارة موجة غضب كبرى في الشارع العربي عموماً والمصري خصوصاً.
ورغم أن هذا البرنامج تحديداً تم إيقافه لأسباب لم يعلن عنها، فإن بطرس وجد فرصة لاستكمال خطابه الطائفي من خلال قناة الفادي المسيحية، التي لا تختلف توجهاتها عن توجهات قناة الحياة.
ولا يقتصر الخطاب الطائفي الذي تبثه قناة الحياة على معاداة الدين الإسلامي فقط، بل في الكثير من الأحيان، يتم استهداف بعض الطوائف والفرق المسيحية الأخرى أيضاً.
ففي برنامج "شبهات وردود"، الذي يقدمه رجل الدين المعروف باسم الأخ وحيد، تم توجيه سؤال عن طائفة شهود يهوه، فكان رد وحيد هو: "أنا أقول لهم كونوا شجعان ولا تقولوا للناس نحن مسيحيون، لا تقرعوا أبواب المسيحيين وتقولوا نريد أن نتكلم عن المسيح، أنتم تعرفون جيداً أنكم لستم مسيحيين، ولا تنضمون إلى العائلة المسيحية في العالم".
وهو ما يقترب كثيراً من ملامح الخطاب التكفيري الذي تمارسه الفرق والجماعات الراديكالية الإسلامية القائمة إحداها بحق الأخرى.
محمد يسري
حقوق النشر: رصيف 22
محمد يسري باحث في التاريخ الإسلامي والحركات السياسية والمذهبية، صدر له عدد من الدراسات والكتب المنشورة، منها الحشيشية والمهدية التومرتية، وثورة الأمصار: قراءة تحليلية في الروايات التاريخية. محمد يكتب بشكل مستمر لرصيف 22.