"الوطن هو الزمن الذي فقدناه"
لقد مضى أربعون عامًا على قدومك إلى ألمانيا. كيف تصف المسيرة ما بين 1965 و 2005؟
سعيد: لقد وصفت هذه المسيرة في الكثير من الكتب والمقالات. ولا يمكنني تقديم عرضٍ كهذا في حديثٍ قصير. الأمر يتعلق بحياةٍ بأكملها، ويجب أنْ تُراعي أنَّني كنت في السابعة عشر من العمر عندما قدمت إلى هنا.
أعتقد أن التحدي الذي أواجهه، هو إبراز الاختلاف بين هذين الجزأين من حياتي. وما أعود الآن لتسميته بالدرب هو في الواقع تفاعل بين البلدين. هذا هو ما يؤرقني وما يشغلني. وأقول بإدراك، يكاد كل ما أكتبه يتعلق –قصائد الحب أيضًا – بهذا الاختلاف وبهذا الزمن الثنائي. إذ لا أستطيع ترك الآخر، ولا أريد أيضًا ذلك.
وبالمثل لا أستطيع إنكار ما هو هنا، حيث أحيا وأشعر بالراحة وحيث أعمل أيضًا وأشعر بالاحترام. فأنا أحملهما معي، وهذا مرهق. لكن هذا هو الطريق الوحيد الذي يتناسب مع حياتي.
لو طُلب منك وضع اللغة الألمانية في صورة، فما هو المجاز الذي ستختاره؟
سعيد: كنت سأختار صورة أو تعبير المسكن. فاللغة مسكن بالنسبة لي، لا أملك مسكنًا آخر –ما عدا ذكريات الطفولة الغائبة.
في أحد مقاطع الكتاب الجديد تقول إنك مسلم من حيث البيئة الاجتماعية. كيف يؤثر الحادي عشر من أيلول/سبتمبر اليوم على علاقة سعيد بديانة لم يمارسها قط وفي بيئة اجتماعية غربية متزايدة في عدائيتها؟
سعيد: الأمر كالتالي: لم أمارس أيّةَ ديانة في حياتي، ولا أنظر بازدراء إلى أيٍّ من الأديان –وآمل أن لا أفعل هذا بتاتا! – و آمل أيضًا أني وصلت إلى ذلك الحد الذي لا أنظر فيه بازدراء لهذا الوسط المتدين ولا أرفضه.
المسألة تتعلق بالطفولة، فقد ترعرعت في بلدٍ إسلامي، مع أنَّ عائلتي لم تكن متدينةً أبدًا، وتركتني –والحمد لله!– وشأني فيما يخص مسائل العبادة. لكنَّ المرء يرى ويسمع ويلتزم ببعض القواعد فيُنمَّي بذلك قسطًا من الاحترام لمشاعر الآخرين الدينية، وهذا ينطبق على جميع الديانات.
في الفترة الأخيرة –بسبب بعض رماة القنابل من زاوية إسلامية– شاع بالطبع في أوروبا موقفٌ يريد وضع كل المسلمين في هذه الزاوية. عندما أسمع أو أرى شيئًا كهذا أستشيط غيظًا. فعلى المرء أيضًا، لا سيما في الغرب، أنْ يوجِّه لنفسه السؤال، لماذا اتجه الإسلام في السنوات العشرين الماضية إلى القنابل.
وعندما يقول لي أحدهم، بأن هذا متأصل في القرآن، عندها أجيب: كيف لهذا أنْ يكون متأصل في القرآن، لماذا لم يسلك رماة القنابل هذا السلوك في عام 1930 مثلا؟ البيئة الاجتماعية إذا شئنا البقاء عند هذا المصطلح، هي التي تقود مرارًا وتكرارًا إلى أعمالٍ كهذه، أو ربما ذلك التبايُن الخرافي بين الفقر والغنى.
إذا طالع المرء كُتبَ سعيد المتوفرة حتى الآن، سيلفت نظره خضوعها بشكل متكرر للصيغة التالية: مرة بعد أخرى لا بد من وصف الذعر والإرهاب الذي يتكرر حدوثه، لكنْ أيضًا المرة تلو الأخرى وصف حب البلاد وبالتالي وجوب الدفاع عنها، أي البلاد التي تضع هذا الحب على الدوام موضع الاختبار. كيف هو حال سعيد في هذا الدور؟
سعيد: بدايةً لا أشعر بمرارة في نفسي. لكن غالبًا ما أحمل الحزن معي، وأعتقد أن أولئك الذين لا يريدون حمل الأحزان، سيشعرون يوماً بمرارة في نفوسهم.
أنا لا أنفي ولا أنكر هذا البلد، أنا لا أنفي ولا أنكر أصدقائي. أحمل هذا كله معي، ولا أبتعد عنه. إذ أني لا أستطيع القول: أنا الآن في أوروبا، وأحمل جواز سفرٍ ألماني، فلأنسى كل ما مضى. موقف كهذا هو موقف مابعد استعماري.
عندما يحمل المرء كل شيءٍ معه، يكون قد حمل معه الحزن أيضًا. أعلم أن هذا المفهوم قد بات في الأوقات مابعد الاستعمارية غير محبوبًا. ولكني آمل أنْ أستطيع فعل ذلك حتى نهاية حياتي. فأنا لا أريد مهما بلغ الثمن أن أنفي أو أنكر ذاتي.
هل يصيبك أحيانًا نوع من الكلل من جراء ميل الغرب لسؤالك عن شروحات بشأن إيران؟
سعيد: أحاول رفض هذا الدور. وأقوم بدور الشارح بشكلٍ ما من خلال كتابتي القصص أو من خلال استعادتي للوقائع. في الكتاب الجديد أعدت عمليًا تسجيل الأخبار –عاريةً– كما كُتبت في الصحافة الإيرانية والألمانية. أصبو بذلك لإظهار مواضع التصدع.
إذا تسنى الأمر لي فلا أحتاج إلى دور الشارح، الشاق والشائك أولاً، وغير المجدي كما خبرت ثانيًا. فعندما تكون الأحكام المسبقة بهذا القِدَم والقرار قد تم اتخاذه: نحن في الغرب، كلنا ديمقراطيون، متنورون وتتوفر عندنا حقوق الإنسان، أما أولئك في الجنوب فلا يملكون شيئًا، عندها لا يستطيع المرء أن يوضِّح أيَّ شيء. لا أملك سوى أنْ أضع المواد كما هي بين يدي القارئ.
تكتب في مجلدك الجديد، الحب، يعني اصطحاب مواضع التصدع إلى العلاقة الجديدة. هل لا زالت إيران بهذا المعنى حبيبة؟
سعيد: دعيني أعبر كالتالي: البلاد حبيبة بالتأكيد. ولكنها كما كتبت في مراتٍ عديدة، فهي حبيبة مرحلة اليفاعة وقد غدت اليوم سيدة رسمية. هذا يسبب المعاناة. في الأساس يعاني المرء من جراء ذكرياته الخاصة ومن جراء تصوراته الخاصة.
البلاد لا تعاني، البلاد تتطور –شئت أم أبيت. المؤكد أنَّ البلاد اليوم لا تقارن مع ما كانت عليه قبل عشرين أو أربعين سنة. والمؤكد أن التطور الاجتماعي –لا أذكر هنا أي شيء عن العلاقات السياسية– يجعل من العودة إلى أحضان الحبيبة في الواقع أمراً غير ممكن. لكن الصورة تبقى.
ليس بوسع المرء خلع الصورة. صورًا أملكها عن طفولتي وصورًا عن شبابي. إليك بمثال بسيط جدًا: العديد من أصدقائي سُمِحَ لهم بالعودة إلى طهران وقالوا لي من بعدها: لم يعد بوسعك العيش في طهران، لأنه لم يعد باستطاعتك التجول هناك.
لم يعد أحد يستطيع التجول هناك –إنه عالم أمريكي، حيث يتم التنقل بالسيارات وتعلو أبواق السيارات والجميع على عجلة من أمرهم. هذا مثال بسيط جدًا–لكنني أحببت طهران دائمًا من خلال تجوالي فيها.
إذا لم يعد ذلك ممكنًا، يكون حينئذ المدخل إلى هذه الحبيبة موصداً. وهذه في نهاية المطاف هي مأساة كل مهاجر: يمتلك المهاجر نوعًا من الوطن في رأسه، صورةً ساكنةً. أما الحقيقة فهي مختلفة. عندما يعود المهاجر، ترتطم هذه الرؤى ببعضها البعض. لا داعي أن أخص بالذكر لمن سيُكتب الفشل.
يمثل الحب في الأساس مفهوماً جوهرياً في كتاباتك –وهو أيضًا المفهوم الجوهري للدين، الجوهر الذي يدور الكتاب الجديد حوله. لأي جهة تميل الكفة اليوم برأيك، نحو قليل أو كثير من الدين؟
سعيد: التَدَيُّن نادر جدًا. ما يعنيني هو الشعور، حالة الالتصاق العميقة. لا يعنيني المبنى، أكان جامع أو كنيسة. وكذلك لا تعنيني الممارسة اليومية لطقوس دين ما، أي كان. ما يعنيني هو حالة الالتصاق العميقة. هذا الشعور يتضاءل باستمرار. و/أو يعود مرة تلو الأخرى من الباب الخلفي.
أستذكر هنا زيارة البابا لمدينة كولون، والأعداد التي لا تصدق من الشابات و الشباب، الذين توجهوا إلى هناك، وأذّكر بأن جماعات من هذه الشبيبة قالت أمام الكاميرات بأنها تستخدم الواقي أثناء الاتصال الجنسي، على الرغم من تحريم البابا لذلك. لكنهم لم يروا ثمة تناقضًا بين أقوالهم وزيارتهم إلى كولون. هذا دليل على فرضيتي القائلة بأنَّ التديُّن يقوم خارج حيّز الكرادلة والأساقفة وعلماء الدين. وأنَّ البشر بحاجة للتديُّن.
ما هو مدى التقارب أو التباعد بين المسيحية والإسلام – وبالتالي بين الإسلام والغرب؟
سعيد: هذه مسألة تأويل شأنها شأن كل الأمور الأخرى في الدين. لنأخذ مثالا بسيطًا على ذلك: عندما أصدر آية الله الخميني الفتوى ضد الكاتب البريطاني-الهندي، تنصل منها رئيس جامعة الأزهر في القاهرة، أقدم جامعة في العالم الإسلامي. كلاهما مسلم!
عندما يكون هناك مجال للتأويل فلا أجد أية مشكلة في التماس مع المسيحية. لا تنسي أن البابا السابق دخل برفقة مفتي الجمهورية في سورية إلى جامع. ولا تنسي أنَّ في اندونيسيا مسلمين ومسيحيين يصلون اليوم سوية، بالرغم من كل ما حصل. هذا ممكن دائمًا.
يجب التعامل مع الإسلام المستشرس سياسيًا وليس لاهوتيًا. منذ بدء المحادثات بين اسرائيل وفلسطين، انخفض عدد الهجمات. ليس الفلسطيني حيوانا مستشرس بالطبيعة. الإسلام بجوهره ليس معاديًا للسامية أو للمسيحية. الديانات مدونة في بعض الكتب. أما ما يفعله الناس بها، فتلك مسألة أخرى.
ولكن أليس الغرب أيضًا حيوان مستشرس؟
سعيد: الغرب شرس بأسلوبه الوديع، وكان دائمًا بالغ البراعة في ذلك. تَبيَّن لي مرارًا وتكرارًا، أنَّ الغرب يسعى للحوار –دون أنْ يكون لديه الاستعداد للإصغاء. لهذا أقول أيضًا في الكتاب الجديد: أن الحوار يستدعي، أنْ يُظهِركل طرفٍ نقاط ضعفه الذاتية.
لا يتم الحوار من على البرج العاجي العالي مع الأسفل. أتذكر شعار دعاية لشركة أدوية أمريكية: نحن لدينا الأدوية وأولئك في الجنوب لديهم الأمراض. في هذا الفهم تكمن المشكلة. وهذا ما يجب تغييره. لا أعلم إذا كان الغرب سيدرك ذلك في يومٍ من الأيام. وبالقنابل لا يمكن إيقاظ الغرب بالطبع.
كيف ترى الاهتمام المتصاعد الذي تلقاه إيران في الغرب؟ أشير هنا فقط إلى كُتّاب مثل نويد كرماني أو الكتاب الهزلي بيرسيبوليس، أو قراءة آزار نفيسي لكتاب لوليتا في طهران.
سعيد: هذا يفرحني لأني أعلم أنَّ بإمكان إيران تقديم أكثر من بضع رماة للقنابل، وبعض القتلة ودعاة الكراهية. حاولت في كل كتبي إظهار وجود أوساط أدبية مزدهرة هناك –قياسًا على ما يجري في البلاد.
هذا البلد لازال حيًا، أدبيًا وثقافيًا. لسنا في القرن الثامن عشر والبلاد كانت دائمًا منفتحةً على الخارج، وعلى الغرب قبل كل شيء.
حان الوقت لكي يفهم كل مواطن في الغرب بأنَّ في هذه البلاد من يرسم الرسوم الهزلية، وكتّابٌ، وأن النقاشات الثقافية فيها زاخرة وأنها لا تتشكل من رماة القنابل ومن الضحايا وحسب.
حتى اليوم هناك من يسألني في الأمسيات الأدبية عما إذا كان مسموحًا للنساء الإيرانيات بالدراسة في الجامعات. المضحك أن %70 من الطلبة الإيرانيين هن من النساء. وهذا ما تكتبه الصحف الألمانية!
الوطن – كيف يمكن لسعيد وصفه؟
سعيد: قال إرنست بلوخ ذات مرة: الوطن هو حيث لم يكن أحد بعد. ويضيف، بأن الأمر يتعلق بالطفولة. لا أستطيع تصوّر الوطن بدون طفولتي وبدون اللغة. كلاهما وثيق الارتباط بالآخر.
عندما أكون متشائمًا أقول: الوطن هو الزمن الذي فقدناه. عندما أكون متفائلا أقول: الوطن هي تلك الصورة التي أحملها في رأسي –أو اسمحي لي أن أعبِّر عن هذا بطريقتي؛ هي تلك الصورة التي أحملها في قلبي. هذه الصورة تبقى ماثلة، بهذا المفهوم يمكنني أن أقول أنني أملك وطنًا.
أجرت الحوار كلاوديا كراماتشك
ترجمة يوسف حجازي
حقوق الطبع قنطرة 2005