عائلة تركية أرهقتها قسوة حياة "العمال الضيوف" في ألمانيا
تبدأ رواية "الأم الحبيبة"وتنتهي بموت والد البطلة. في صفحاتها التي تتجاوز بالكاد الـ200 صفحة، لا تغطي الرواية حياة الأبوين آينور وألفين فحسب، بل طفليهما مريم وآدا أيضا. وتدور أحداثها حول جيلين بين مضيق البوسفور ونهر الراين، بين العمل في المصنع والجامعة، بين البحث عن الهوية وفقدان الوطن، بين العنف المنزلي والبحث عن الشعور بالانتماء - بل أكثر بكثير مما يمكن أن يشمله عمل أدبي واحد. قد يحتاج بعض الروائيين إلى ألف صفحة من أجل كتابة قصة كهذه، ومع ذلك قد لا تكون مثل ما كتبته الصحافية أكيول في روايتها الأولى، فهي عمل خيالي متجذر بعمق في الواقع.
تعكس طريقة سرد أكيول، المولودة عام 1978 في هيرنه، وهي أيضا من أصول تركية كردية، التي سبق لها أن نشرت كتبًا غير روائية عن تركيا، الصراع الداخلي لشخصياتها. فبدلاً من السير حسب التسلسل الزمني، تنتقل الكاتبة بين منظوري الوالدين والأبناء (خاصة بين الابنة والأم)، وبين الأطر الزمنية والمنظورات السردية.
تُروى أجزاء من قصة مريم بضمير الغائب، وأجزاء أخرى بضمير المتكلم. وتشكل هذه الأجزاء بضمير المتكلم، التي غالبًا ما تُقدَّم على شكل حوار بين مريم وأمها، جوهر الرواية الموضوعي، إذ تُفصِّل الطرق التي تتنقل فيها العلاقة الصعبة مع أحد الوالدين، وجيل الوالدين بين الخوف والرعب والرفض من جهة، والحب والاعتراف من جهة أخرى.
في موضع متأخر بالكتاب، توجد محادثة بين مريم وآدا، وهما شقيقان يلتقيان معًا مرة أخرى بعد فترة طويلة. كلاهما في الثلاثينيات من العمر، ويعيشان وضعا مستقرا في حياة مهنية أكاديمية مزدهرة، حياة لم تكن متاحة لوالديهما اللذين قدما إلى ألمانيا كعمال ضيوف.
وفي الوقت الذي فرّ آدا من العائلة منذ فترة طويلة بعد أن أنهكه الخوف من والده ورفض والدته له ونوبات الهلع المستمرة، عادت مريم لترعى والدها الذي يعاني من مرض عضال في رحلته الأخيرة، وتتصالح مع والدتها. لقد تغيرت نظرتها إلى أينور، لكن آدا ليس مهتما، ويجد أخته ساذجة.
تلك اللحظات الصادقة والصريحة والإنسانية للغاية تمنح الرواية قوتها. لا شيء واضح في حياة هذه العائلة وهؤلاء الناس. إنهم معقدون وغير مستقرين وغير آمنين، ونحن نتابعهم في كل خطوة على الطريق. هنا يكمن فن السرد القصصي الرائع، في استخدام ضربات فرشاة دقيقة لبناء صورة مرصودة بعناية، صورة تستحوذ على القارئ وتهزه، ليس أقلها الشعور بأن نقاط ضعفه هي الأخرى تتكشف. أين يكون المرء في الحياة أضعف مما هو عليه في علاقته بوالديه، في نفس المكان الذي نود أن نكون فيه أقوياء؟
عائلة علوية في هيرن
ينشأ كل من أينور وألفين في بيئتين متناقضتين تمامًا في تركيا، هي الحضرية والعصرية، وهو التقليدي والريفي. لا يجدان بعضهما البعض، ولكن يجمعهما شقيق أينور. توافق أينور على الزواج من ألفين على الرغم من أنها تعلم أنه ليس المسار الذي ترغب فيه بشكل خاص. وتنتقل إلى هيرن في ألمانيا مع زوجها الغريب وغير المتعلم، وتعيش في شقة صغيرة إلى جانب شقيق ألفين ووالده. يعمل الرجال الثلاثة لساعات طويلة في مناجم الفحم والمصانع مقابل أجور زهيدة للغاية. لا أحد يثني عليهم.
ينجب الزوجان طفلين وينتقلان أخيراً إلى شقتهما الخاصة، لكن الحياة لا تظهر تحسناً يذكر. يفقد ألفين وظيفته ويقامر بأموالهم ويقع في الديون ويخرج إحباطه المكبوت على الأسرة. وبينما تبدو أينور، وكأنها قد استسلمت منذ فترة طويلة، إلا أنها في داخلها لا تزال تعاني، ليس فقط مع الوضع وزوجها غير المحبوب والعنيف في كثير من الأحيان، ولكن أيضا مع أطفالها الذين توقفت عن فهمهم قبل أن يبلغوا سن الرشد. وتتساءل بين الحين والآخر عما تعنيه كلمة "عامل ضيف" في الواقع، ولماذا لديها فكرة مختلفة تمامًا عن الألمان عن كيفية معاملة الضيوف.
فضل دور النشر الصغيرة
تتشكّل طفولة آدا ومريم من خلال تجربتهما في منزل العائلة. وبينما يتنقلان بين الشعور بالخوف من والديهما والعاطفة تجاههما، يجدان الدعم في بعضهما البعض إلى أن يبدأ كل منهما في الابتعاد عن الآخر، وهي رغبة متجذرة ليس فقط في سن الرشد، بل أيضًا رغبة دفينة في الهروب من ظروفهما العائلية. بعد ذلك، يتشبث كل منهما بالآخر مرة أخرى، فيستشيط والدهما غضبًا من والدتهما، وتمرر هي إهانتها إلى الأبناء.
وبينما ينزوي آدا في عزلة، تلجأ مريم إلى إيذاء نفسها وعدم الالتزام بواجباتها. ولا تتعلم مريم أن تسامح والدتها إلا في وقت لاحق، عندما تعمل كصحافية في تركيا، وتكتسب منظورًا جديدًا لوطن والديها. من خلال ذلك المنظور، وإلى جانب تأثير وفاة والدها، تكتشف مريم مدى صعوبة حياة والديها في نهاية المطاف، ومدى المشقة التي تحملاها من أجل أطفالهما.
قصة عائلة مهاجرة من ست وجهات نظر مختلفة
كاتبة المقالات والمحررة الصحفية فاطمة آيدمير من أكثر الأصوات تألُّقاً في الأدب الألماني الحديث. في روايتها "الجن" تحكي قصة عائلة مهاجرة من ست وجهات نظر مختلفة. حاورها شايان رياض لموقع قنطرة.
تتسم نظرة تشيديم أكيول بالوضوح وعدم العاطفة في تصوير هذين الزوجين العلويين (إذ ينتمي أغلبية الأتراك المسلمين المذهب العلوي)، وأطفالهما؛ كما تتسم بالوضوح أيضًا بشأن الظروف المعيشية القاسية في بعض الأسر المسلمة التقليدية، وبشأن الاستغلال والإقصاء القاسيين للعمال الضيوف وكيف يمكن أن يؤثر ذلك على أطفالهم الذين قد يعانون من الفقر والعنف المنزلي والعنصرية بعد فترة طويلة من بلوغهم سن الرشد. والأهم من ذلك كله، تمكنت الكاتبة من تقديم هذه الشخصيات بكل تناقضاتها دون أن تحكم عليها. فهي تترك ذلك للقارئ، وتقدم له وجهة نظر جديدة في الوقت الذي يعتقد فيه أنه قد كوّن رأيًا ما.
نادرًا ما عُرضِت قصة عن جيل العمال الضيوف بشكل أدبي مثير للإعجاب. ومن الملفت للنظر أنه الآن فقط، وبعد مرور أكثر من 60 عامًا على اتفاقية استقدام العمال الضيوف إلى ألمانيا، يسلط جيل جديد من أبنائهم الضوء على هذا الموضوع. في السنوات الأخيرة، رأينا رواية الشاعر والكاتب المسرحي الألماني دينشر غوتشيتر الأولى "Unser Deutschlandmärchen" أي "قصتنا الخيالية في ألمانيا" الصادرة عن دار ميكروتكست" عام 2022، (وهي أيضًا انحناءة احترام عميقة للأم)، ورواية فاطمة آيدمير " Dschinns" أي "الجن" والصادرة عن دار هانسر للنشر في عام 2022.
من الواضح أن هذه الروايات ليست أولى الأعمال الأدبية التي تتناول تلك المرحلة التاريخية. ولكن في السابق، كانت المطبوعات الصغيرة تنشرها عادة. وهذا يذكرنا بالكاتب والمسرحي التركي آراس أورين الذي خلّد ذكرى العمال الضيوف في برلين قبل حوالي 50 عامًا، أو ثلاثية دويسبورغ للكاتب التركي فقير بايقورت الصادرة باللغة التركية، والتي لم تتوفر ترجمتها الألمانية إلا منذ بضع سنوات عن طريق دار نشر صغيرة هي دار دويسبورغر. هذه الأعمال الأدبية تستحق اهتمامًا أكبر بكثير.
© قنطرة 2024