شعر "ثعلب اليمن البري" مشهد شجي عن جذر ومهجر

مجموعة شعرية باللغة الإنكليزية تضم كل قرائها ثم تغمرهم في عالم الشاعرة الخاص وهي تشق طريقها في أمريكا التي تفصلها محيطات عن بلد أهلها اليمن. بقصائدها لا تتتبَّع فقط حياة المهاجرين وتفاوت الثقافات بل أيضا تعرِّف ببلدها الذي لا تتردد عن إبداء ولائها له على عِلّاته. الناقد الأدبي ريتشارد ماركوس قرأ الكتاب لموقع قنطرة.

الكاتبة ، الكاتب: ريتشارد ماركوس

ما انفَكَّت بلادُ اليمن تُمَزّقُها صراعات القُوى بين إيران والسعوديَّة ونِزاعات العالم الإسلاميّ بشِقَّيه السُّنيّ والشيعيّ، فيما يَتِمّ التَّجويع إلى درجة الموت للشَّعب الذي إليه تنتمي ثُرَيَّا المُنتَصِر، وقد طالَ الخرابُ بلادَها.

وفقًا لمُنظَّمة "أطبَّاء بلا حدود"، يُعتَبَرُ اليمن من أسوأ الكوارث الإنسانيَّة في العالم. لكن يبدو أنّ لا أحد يرغبُ في، أو حتى يَقدِرُ على، القيام بأيّ شيء لإنهاء هذا الوَضع المأساويّ.

غلاف المجموعة الشعريَّة للشاعرة الأمريكية اليمنية ثُرَيَّا المُنتَصِر "ثعلبُ اليمن البَرّيّ" (المصدر: دار "جري وُولف" للنَّشر) (source: Gray Wolf Press)
"The Wild Fox of Yemen by Threa Almontaser is an amazing collection of poems which not only explores the reality of an immigrant's life in America, but introduces readers to the country of Yemen behind the bloodshed and horror," writes Richard Marcus

في مجموعتِها الشعريَّة "ثعلبُ اليمن البَرّيّ"، من إصدار دار "جري وُولف" للنَّشر، تَخطُو ثُريَّا المُنتَصِر على أطرافِها في حقل الإرباك العاطفيّ المُلَغَّم – الذي يتمَثَّلُ في محاولتِها شَقّ طريقِها في الولايات المتَّحدة، كما يتمَثَّلُ في دَمار وطن والديها ومَنبَع ثقافتها الأُمّ، وفي الشُّعور بالعَجز القاهِر – بكُلِّ تألُّقٍ وأمانة.

نجدُ في كُلِّ واحدةٍ من قصائدِها طريقَنا للوصول إلى درجة إعجابٍ تُناسِبُ تجاربَها الخاصَّة. قد لا يتمكَّن القُرَّاء من أن يَشعُروا كما تَشعُرُ هي، لكنّ القصائد تُكلِّمُ المُتلَقِّي بأُسلوبٍ يُجبِرهُ على تَفَهُّم ما تَمُرُّ به الشَّاعرة.

قدمٌ واحِدةٌ في عالمَين اِثنَين

تَفتَحُ هذه القصائد البَوَّابَةَ إلى العالم الفَريد الذي تَجِدُ الشاعِرةُ نفسَها ضِمن فَضائه. هنا، وَجَب على كُلِّ طفلٍ مُهاجِرٍ أن يَخلُقَ وطنًا لا حدود له، خاصًّا به أو بها، بحيث تَسَعُ مساحتهُ الواحِدة عالمَين مُختَلِفَين.

وقد نجَحَت المُنتَصِر بمهمَّتها الاِستِثنائيَّة في البَرهَنةِ على أنّه رغم الصِّعاب الشَّديدة بين الفَينَةِ والأُخرَى، قد تكونُ هذه الوَضعيَّة مَنبَعًا نابِضًا بالقُوَّةِ والجمال في أحيان أُخرَى.

تُذَكِّرُني المُنتَصِر، في سِياق هذه المجموعة على الأقَلّ، بالمَقُولةِ الشَّهيرة للشَّاعر الأمريكيّ إِي. إِي. كامِينغز [مُتَرجَمةً]: "الوطنُ اللّامَحدُود لكُلِّ فنَّان هو ذاتُه. والفنَّان الذي يَخُونُ هذا الوطن، هو كمَن يُقدِمُ على الاِنتِحار".

في هذه المَجمُوعة الشعريَّة، نجدُ أنّ المُنتَصِر لم تَخلُق وطَنَها اللّامَحدُود الخاصّ بها من رَحِم قصائدها وحسب، بل بَقِيَت مُخلِصَةً لهذا الوطن في كُلِّ كلمةٍ تَخُطُّها.

تَخلُقُ هذه الأشعار صُوَرًا تَبعَثُ الحياةَ في أبياتِها، بدءًا من مَشاهِد الرّمال الصَّحراويَّة في اليمن، ووُصولًا إلى المَشاهِد المُرهِبة والمُرَوّعة التي تَختَرقُ مُخيّلتِنا إثر رُهابِنا من الاِضطِهاد، وكأنّها صُوَرٌ مُجسَّدةٌ في ذِهن القارئ.

كما تَكشِفُ هذه التَّخيُّلات عن مشهَدٍ شَجِيٍّ ذي تَشَعُّباتٍ رفِيعَة. حتَّى الذّكريات المُتعَلِّقَة باليمن – كما نتعرَّفُ إليها من شهادات أقارب الشَّاعرة ومن روايَتِها الخاصَّة حين تزُور موطنِها – فتبقَى بعيدةً عن نَمَطِيَّة الذِّكريات الوجدانيَّة لـِ "الوطن الأُمّ". ثُرَيَّا المُنتَصِر شاعرةٌ بمَعنَى الكلمة، في كلِّ بيتٍ تَنظِمُه.

 

 

يُمَثِّلُ اليمن شخصِيَّةً رئيسيَّةً من "شخصِيَّات" هذه المجموعة الشعريَّة، كما أنّ قصائدَ المُنتَصِر مُفعَمَة بالصُّوَر المُستَوحاة من وطنِها.

وسواء كان مَظهَرُ هذا الوطن مَلمُوسًا أو مَحكِيًّا في قصَصِه، نشعُرُ باليمن وهو يتسَرَّبُ داخل مُفرَدات المُنتَصِر – على هيئة ذَرَّاتِ رمالٍ صحراويَّة تَهُبُّ في القصائد التي تَصِفُ الحياةَ في أمريكا، وليس اليمن فحَسب. فنَسمَعُ صَريرَ صِراع الثَّقافات المُتَضاربه، والصَّدى المُوجِع من هَولِ هذا الاِصطِدام. 

كما يُفصِحُ الأُسلُوبُ اللُّغويّ في شِعر المُنتَصِر عن صِدام الحَضارات، خاصَّةً حين يَظهَرُ الخَطُّ العربيّ على حين غِرَّة في إحدى القصائد.

يبدو هذا الظُّهُور المُباغِت لأبجَدِيَّةٍ مُختَلِفَةٍ عن أبجَديَّتِنا المَألوفَة أمرًا أجنَبِيًّا ومُغايِرًا، كنُوَّارٍ نادِر في حديقةٍ مَنثُورَة غير مَنظُومَة. أمّا بالنسبة للمُنتَصِر، فهذا هو واقِعُها. ذلك أنّ اللُّغتَين العربيَّة والإنكليزيَّة هُما ما تُمَيّزانها، مما يجعلُ ثُرَيَّا المُنتَصِر شاعرةً مُنفَردةً بذاتِها، ومُستَهدَفةً من ذاتِ الآخَر.

عن واقِع المَرأة المُحَجَّبة ذات البَشَرة الحِنطِيَّة في الولايات المتَّحدة

فلنَكُن واقِعيّين هنا: خلال العشرين سنة التي مَضَت، أصبَحَت المَرأةُ ذات البَشَرة الحِنطِيَّة التي تلتزمُ الحِجابَ وتتكلَّمُ العربيَّة، أو الأُوردِيَّة، أو لغةَ الپاشتُو، مُستَهدَفةً في الغرب.

حين تكونُ بَشَرَتُك ذاتَ صِبغَةٍ حِنطِيَّةٍ مُعيَّنَة، يَضَعُكَ هذا تحت مِجهَر الاِهتِمام الاِستِثنائيّ عند مُوَظَّفي الأمن في المَطارات. تخيَّلْ أن يعيشَ الإنسانُ في ظِلّ هذا الخوف المُتواصِل الدَّفين، وأن يُكابِدَ الكوابيسَ التي قد تَنجُمُ عن ذلك.

في قصيدةٍ بعنوان [مُتَرجَمًا] "الأمنُ القَومِيّ من بَعدِ الحادي عَشَر من سبتمبر"، تُدخِلُنا المُنتَصِر في حالةٍ من الوَعي بالخوف وبغموض الحياة.

فنَجِدُ مُقتَطَفاتٍ من كتُب في القانون تحمِلُ تَعريفًا لكلمة "قَبُول"، وهي في حالةِ تمازُج مع مَشاهِدَ كابُوسِيَّة لهذا التَّوَجُّس النَّابِع من التَّتَبُّع الدَّائم للمُهاجِرين، [مُتَرجَمًا]:

"نحنُ مُختَطَفُون من قِبَل []/ وأنا أسألُ الضَّوءَ الأبيَضَ الخافِت، ’أين سيَذهَبُ كُلُّ المُسلِمين؟‘/ رجالٌ زُرقٌ يَزُجُّونَ بي في عَرَبةِ الشُّرطَة، نَجِدُ كُلَّ شيءٍ في حالةِ تَقَلُّبٍ بطيءٍ وساطِع، ونَجِدهُ مُعَنَّفًا بقَسوة في هذه الدُّميَةِ المُجَسَّدَة".

 

 

تُصَرِّحُ ثُرَيَّا المُنتَصِر بمَوقِفها العَلَنيّ حتَّى في طريقة ترتيبِ قصائدِها في طَيّ صَفَحاتِ الكتاب.

من القصيدة المُصَوَّرَة على هيئة كَبشِ أُضحِيَةٍ يتصَدَّرُ مائدةً احتِفاليَّة، إلى إدراج أبياتٍ باللُّغة الإنكليزيَّة، مُسَطَّرَة من اليَمين إلى الشِّمال كما في اللُّغة العربيَّة.

وفي تجربةٍ اعتيادِيَّةٍ كقراءة بِضعِ كلماتٍ مُرَتَّبَة في النَّص باتِّجاهٍ مُعاكِسٍ لما اعتَدنا عليه، نستطيعُ أن نتصَوَّرَ – ولو قليلًا – ما يَشعُر به الإنسانُ المُجبَر على حَلِّ رُمُوز الأساليب الجديدة في القراءة والكتابة.

 تخيَّلْ، على سبيل المثال، أنّك مُرغَمٌ على تعَلُّم اتِّجاهِ الأحرُف في النَّص الذي أمامك من جديد.

إن كُنتَ ستَجِدُ صعوبةً في إعادةِ تدريب عينيك على تَتَبُّع شَطرَي أحَد هذه الأبيات، فما هو إذًا حال المُجبَرين على عمليَّة الاِنتقال هذه بشكلٍ دائِم؟

لا تتحدَّثُ القصيدةُ المُسمَّاة [مترجمًا] "لغةٌ مُعتَرَفٌ بها" عن المَشاعِر التي يُوَلِّدُها هذا التَّغيير الإجباريّ وحسب، بل أنّها تُبَيِّنُ هذا بنَظمٍ هيكَلِيّ الطَّابَع، في استِخدام أبياتٍ مكتوبة عَكسِيًّا [مُتَرجَمةً]:

 

عميقًا أحرُفَها المَفقُودَةُ كلماتي تَدفِنُ

[تَدفِنُ كلماتي المَفقُودَةُ أحرُفَها عميقًا]

الأمريكيّ الثَّرَى في

[في الثَّرَى الأمريكيّ]

 

يَغلِي أُمِّي دَمَ يَجعَلُ ما

[ما يَجعَلُ دَمَ أُمِّي يَغلِي]

 

زَلَل بصَوتٍ أنتَحِبُ حينَ

[حينَ أنتَحِبُ بصَوتٍ زَلَل]

 

فَمِي باطِنِ من

[من باطِنِ فَمِي]

 

لصُورَتِي انعِكاسٍ شِبه، نَفسِي لستُ وكأنِّي أشعُرُ

[أشعُرُ وكأنِّي لستُ نَفسِي، شِبه انعِكاسٍ لصُورَتِي]

 

سيَّارَة بابِ على، ومُنقَبِض مُنبَسِطٍ

[مُنبَسِطٍ ومُنقَبِض، على بابِ سيَّارَة]

 

الاِحتفاء بالاِختلاف

من المُؤَكَّد أنّ شِعرَ المُنتَصِر لا يدُور حول مَقُولَةِ الاِنفِصال وحدها دون غيرها.

فهناك القصائد التي تحتفِي بالاِختلاف بين شخصِ الشَّاعرة وبين أُصُولِها؛ وقصائد تَكشِفُ عن سِحر اليمن وروحانيَّته؛ وقصائد تَحتفِلُ بالتَّاريخ الشَّخصيّ وبالمَحصُول الثَّقافيّ، وأُخرَى تَقطَعُ الأنفاسَ عجبًا واندهاشًا من الجمال المَكمُون في أبياتها.

تُسَيطِرُ ثُرَيَّا المُنتَصِر على مُفرَداتِها كتحَكُّمِ فنَّانةٍ تشكيليَّةٍ في رسم الألوان على قُماش لوحَتِها، ويتواصَلُ بناءُ الحَبكةِ والفَحوَى كُلَّما أمعَنَّا في تأمُّلِ قصائدِها.

وكما في اللَّوحات الفَنِيَّة الأكثَر شُهرة، تدفعُ أعمالُ المُنتَصِر القُرَّاءَ إلى التَّأمُّلِ والتَّفَكُّر، كما تُثِيرُ فيهم المَشاعِرَ الصَّادِقة في صَمِيمِها.

يتضَمَّنُ كتاب "ثعلبُ اليمن البَرّيّ" لثُرَيَّا المُنتَصِر مجموعةً مُذهِلةً من القصائد التي لا تَتَتَبَّع وقائعَ حياة المُهاجِرين في أمريكا وحسب، بل تُعَرِّفُ القُرَّاءَ كذلك على بَلَدِها اليمن، على الرَّغم من أهوال الدماء المُراقَةِ على أرضِه.

وفي هذا، تَبقَى المُنتَصِر مُخلِصَةً لوطنِها المُكابِد الرَّاسِخ، غيرَ مُتَرَدِّدَة في إظهار وَلائِها له، على عِلّاتِه.

 

 

ريتشارد ماركوس

ترجمة: ريم الكيلاني

حقوق النشر: موقع قنطرة 2021

ar.Qantara.de

 

 

[embed:render:embedded:node:43180]