طنجة المغربية - ماضٍ أدبي ثري وحداثة نابضة
في مقهى الحافة (كافيه هافا) توقَّف الزمن. طلاء جص أزرق وأبيض منهار عن الجدران. بعض الزبائن الشباب جالسون على الكراسي البلاستيكية في المقهى تحت الهواء الطلق وهم ينظرون حالمين إلى البحر، بينما تسير في البعيد سفنُ الحاويات عبر مضيق جبل طارق.
بالإمكان من هنا رؤية الأراضي الإسبانية بشكل غير واضح في البعيد. تبدو أوروبا قريبة في متناول اليدّ، ورغم ذلك ليس بإمكان معظم المغاربة الوصول إليها. وبدلاً عن ذلك يلتقي الشباب في مقهى الحافة، الذي تأسَّس قبل مائة عام تقريبًا وكان المكان المفضَّل للكاتب الأمريكي بول بولز في طنجة، والذي كان يجلس فيه لساعات يشرب الشاي بالنعناع ويعمل على كتابة نصوصه.
نقطة اتّصال بين البحار والقارات
طنجة هي مكان بين بَيْنَيْن، تقع عند نقطة الاتّصال بين البحار والقارات. فالبحر الأبيض المتوسط والمحيط الأطلسي يلتقيان عند الطرف الشمالي الغربي للمغرب، وأوروبا وأفريقيا أقرب إلى بعضهما هنا مما عليه الحال في أي مكان آخر: وفقط خمسة عشر كيلومترًا تفصل المغرب عن الأراضي الإسبانية. تعتبر مدينة طنجة، التي سكنها الفينيقيون واليونانيون في فترة مبكِّرة، المدينة المأهولة منذ أطول فترة زمنية في المغرب، وهي مركز للتجارة والتبادل، ولكنها كثيرًا ما كانت أيضًا بأهميتها الاستراتيجية موضع خلافات وإثارة للجدل.
جاء الكاتب الأمريكي بول بولز إلى المدينة في عام 1950 تقريبًا وذلك بناءً على توصية من الكاتبة الأمريكية غيرترود ستاين، ووقع في حبِّ خِفَّتها المتوسِّطية وبقي فيها حتى وفاته في عام 1999. وقد عاش الفترات الوحشية في زمن منطقة طنجة الدولية.
فقد كانت طنجة تحت الإدارة الدولية في الفترة من عام 1923 حتى استقلال المغرب في عام 1956. وكانت الكلمة هنا لتسع قوى أوروبية مشتركة. لقد كان عصرًا ذهبيًا بالنسبة للمهرِّبين وتجَّار المخدِّرات والجواسيس.
في تلك الفترة، رحل الكثير من المؤلفين القادمين من الولايات المتَّحدة الأمريكية من وطنهم الضيِّق والمتزمِّت إلى طنجة، حيث كان بالإمكان العيش بمال قليل وتدخين الكيف (الحشيش) من دون عوائق والعثور على الجنس الرخيص بجميع الأنواع. وفي وقت ما غادر معظمهم، ولكن بول بولز بقي في طنجة، وكتب قصصه الوجودية وتقارير رحلاته حول المَلل من الحضارة الغربية والبحث اليائس عن شيء أفضل.
تلاشى ذكريات الأديب بول بولز
توجد في متحف المفوَّضية الأمريكية الواقع عند طرف المدينة القديمة ملصقاتٌ سينمائية تُذكِّر بفيلم "السماء الواقية" للمخرج الإيطالي برناردو برتولوتشي المأخوذ عن رواية لبول بولز تحمل الاسم نفسه. وتُظهِر صورٌ بالأبيض والأسود هذا المؤلف المستقل بذاته والمُكتئب أثناء عمله على الآلة الكاتبة وتسجيله الموسيقى التقليدية.
إذ إنَّ بول بولز، الذي لم يكن مؤلفًا فقط بل كان أيضًا ملحنًا، قد اهتم بثقافة البلاد على العكس من معظم الكتَّاب الغربيين. طاف وتجوَّل في جميع أنحاء المغرب وسجَّل تسجيلات صوتية للموسيقى الشعبية المغربية تشكَّل اليوم أهم مجموعة إثنوغرافية من الموسيقى المحلية.
عندما نشاهد هذه الصور القديمة، نلاحظ أنَّ الكثير لم يتغيَّر من الناحية الشكلية في العديد من المقاهي الأسطورية، التي كان يرتادها البوهيميّون.
كان يجلس في الخمسينيات والستينيات في مقهى غراند دو باريس المنهار كتّابٌ مثل تينيسي ويليامز وجاك كيرواك وترومان كابوتي وويليام بوروز - يقضون معظم الوقت وهم مخدَّرون قليلًا من المخدِّرات والكحول، يتناقشون حول الله والعالم. أمَّا اليوم فيرتاد هذا المقهى بالإضافة إلى الرجال المسنِّين بعضُ النساء أيضًا، يشردون بأفكارهم هنا. توجد على باب المدخل الزجاجي ورقةٌ تمنع أجهزة الكمبيوتر المحمولة. يبدو أنَّ الحلم مسموح هنا ولكن العمل ممنوع.
لقد شيَّد الكتَّاب الأمريكيون بنصوصهم نصبًا تذكاريًا لطنجة، ولكنهم في الوقت نفسه غيَّروا صورتها أيضًا إلى خيال أدبي - يختلط الواقعي والخيال إلى حكاية حول الشرق كخلفية غرائبية وحسِّية. ولكنهم كانوا قليلي الاهتمام بحياة السكَّان الأصليين. أصبحت طنجة مكانًا يتلهَّف إليه الغربيون المُتعَبون من الحضارة.
لمحات عن أقدم مكتبة في طنجة
تقع في شارع باستور -على بعد خمس دقائق فقط سيرًا على الأقدام من مقهى غراند دو باريس- أقدمُ مكتبة لبيع الكتب في طنجة، تم تأسيسها في عام 1949. منذ البداية، كانت مكتبة كولون دائمًا مكانَ التقاءٍ للمبدعين والمثقَّفين. هنا كان بول بولز يطلب كتبه. واليوم يسود الهدوء في مكتبة كولون، ويجلس بائع الكتب منصف بوعلي لوحده ولديه وقت لتبادل أطراف الحديث.
يقول منصف بوعلي إنَّه يعمل في المكتبة منذ ثلاثين عامًا تقريبًا. تشغله -بحسب تعبيره- أشياء مختلفة تمامًا عن الماضي الممجَّد بالحنين. تعاني مكتبته كغيرها من المكتبات في جميع أنحاء العالم من تراجع أعداد القرَّاء.
لم يعد يجلس أي شخص في المقهى وهو غارق في كتاب، يقول ذلك مع بعض الحزن. ويضيف أنَّ الكتب علاوة على ذلك باهظة الثمن في المغرب: "الشعراء الشباب اليوم يواجهون صعوبات في إيصال كتبهم إلى السوق لا تقل عما كان يواجهه معاصرو بول بولز".
هذا الكاتب الأمريكي كان يدعم في تلك الفترة مؤلفين محليين أيضًا. وكان يترجم النصوص العربية إلى الإنكليزية ويقيم اتِّصالات مع الناشرين. المؤلفون المجهولون في تلك الفترة، مثل محمد شكري، باتوا يُعتَبرون الآن من كلاسيكيي الأدب المغربي الحديث.
فقط في طنجة استطاع الفتى الأمازيغي محمد شكري، الذي كان يدخِّن بشراهة، كتابة روايته الفضائحية "الخبز الحافي"، التي تتحدَّث حول سيرته الذاتية وتعتبر بمثابة تصفية حساب راديكالية مع الفقر والجهل والعنف الأُسري. أثارت هذه الرواية فضيحة عندما تم نشرها باللغة العربية في عام 1982. واليوم يُعتَبر محمد شكري وبول بولز من أشهر أبناء مدينة طنجة. فهل يمكن اليوم نشر مثل هذه الرواية الراديكالية؟
مناخ ثقافي ليبرالي
"لا يزال المناخ الثقافي في المدينة ليبراليًا حتى اليوم أيضًا"، مثلما يقول منصف بوعلي: "يوجد طلب كبير على كتب حول موضوعات شائكة، مثل النزاع حول قانون الإرث الإسلامي في المغرب"، سواء كانت مكتوبة بالفرنسية أو بالعربية. وتُباع كثيرًا -بحسب تعبيره- كتبُ الناشطة النسوية المعروفة أسماء المرابط وكذلك عبد الله الطايع، وهو كاتب مغربي يعيش في فرنسا ويكتب بصراحة حول مثليته الجنسية.
يَذْكُر لنا من بين مؤلفي الجيل الأصغر المهمين الصحفي عبد السلام القادري، الذي نشر كتابًا يضم حوارات ومناقشات مع المؤلف إدريس الشرايبي، المُتَوَفَّى في فرنسا عام 2007. وإدريس الشرايبي كان أيضًا يتناول الهياكل الاجتماعية في رواياته. ويذكر كذلك الكاتب محمد المغربي، الذي كتب (عام 2018) رواية حول مدينته ومسقط رأسه تحمل عنوان: A Tanger dans le bec de la pie.
لقد تغيَّرت طبيعة المدينة تغييرًا كبيرًا منذ زمن بول بولز ومحمد شكري. أصبحت طنجة جزءًا من المملكة المغربية مع استقلالها عن فرنسا في عام 1956. رحل عن طنجة كثير من الأمريكيين واليهود. وفي عهد الملك الحسن الثاني، أمست طنجة عديمة الأهمية. وفقط محمد السادس اكتشف من جديد إمكانياتها كنقطة اتِّصال بين أفريقيا وأوروبا واستثمر فيها استثمارات ضخمة.
نشأت في طنجة وظائف كثيرة بفضل ميناء طنجة المتوسطي، وهو أكبر ميناء للحاويات في منطقة البحر الأبيض المتوسط برمَّتها، وكذلك منطقة التجارة الحرة، التي يُنتِج فيها مستثمرون أوروبيون مثل مجموعة رينو للسيارات.
اشترى المستثمرون المباني القديمة وأُضيفت فنادق جديدة، وأعيد تصميم كورنيش الميناء من أجل السياح، وأنشئ مرسى يخوت ليجذب المسافرين والسياح في قسم الرفاهية. ازداد في طنجة الطابع العربي والإسلامي منذ مطلع الألفية الجديدة، وذلك بشكل خاص من خلال تدفُّق السكَّان المحافظين من منطقة الريف إليها. فحتى طنجة بات يوجد فيها اليوم أيضًا مشهد سلفي واسع.
أجواء تفاؤل جديدة في طنجة
ولكن تم تجاوز الركود وباتت تسود في المدينة أجواء تفاؤل جديدة. تعتبر طنجة اليوم مركز تبادل مهم في التجارة بين أوروبا وأفريقيا وآسيا. تقول خديجة الهمام في شقتها المليئة بالذكريات في منطقة القصبة القديمة: "طنجة تتحرَّك. في طنجة أشياء تتقدَّم".
كانت خديجة الهمام البالغة من العمر ثلاثة وثمانين عامًا من أوائل النساء في السينما المغربية، وشاركت كمصمِّمة أزياء في كثير جدًا من الإنتاجات السينمائية، إلى درجة أنَّها لا تستطيع تذكُّر الجميع. غير أنَّها لم تتمكَّن من المشاركة في فيلم "السماء الواقية" للمخرج برناردو برتولوتشي، لأنَّ ذراعها انكسرت.
تتحوَّل خديجة الهمام باستمرار أثناء حديثها بين اللغة العربية والإنكليزية والفرنسية، مثل الكثيرين من الطنجاويين. وتعتقد أنَّ تطوير طنجة ذو حدَّين: فهي تخشى من خسارتها طنجة، التي يعرف فيها كلُّ شخص جيرانه ولا يلعب فيها الانتماء الديني دورًا كبيرًا ويهتم فيها الناس بكبار السنّ وبتدبُّر أمورهم.
لقد عاصرت زمن التنانير القصيرة وموسيقى الـ "روك أند رول"، كان ذلك في فترة شبابها. أمَّا اليوم ففي طنجة أيضًا الكثير من النساء المحجبات. ولكنها مقتنعة بأنَّ طنجة ستبقى مدينة ليبرالية. وفي هذا الصدد تقول: "لن يستولي بتاتًا على قلب طنجة أسلوبُ الحياة الإسلامي الضيِّق".
وتتَّفق معها ابنتها سمية أكعبون البالغة من العمر ستة وأربعين عامًا. وسمية أكعبون ممثلة مشهورة في المغرب، عادت إلى الوطن بعد أعوام في الخارج. كانت في شهر آذار/مارس 2020 عضوةً في لجنة تحكيم مهرجان طنجة السينمائي الدولي، الذي أقيم قبل فترة قصيرة من بدء أزمة كورونا.
وهي تؤمن بطبيعة طنجة غير القابلة للتدمير، بطبيعة هذه المدينة الخاصة بين الثقافات والقارات. وتقول: "كلُّ شيء دائمًا واضح أمامنا. طنجة تبقى معبرًا يتحرَّك فيه الناس دائمًا".
كلاوديا مينده
ترجمة: رائد الباش
حقوق النشر: موقع قنطرة 2020
[embed:render:embedded:node:34129]