معماري فلسطيني يبعث الحياة في معالم أثرية ألمانية
يمتد شارع "كورفورستندام" على طول 3.5 كيلومتر في واحد من أرقى أحياء برلين، وهو شارلوتنبورغ-فيلمرسدورف. يعود تاريخ شق الشارع إلى حوالي خمسة قرون مضت، وتقول المصادر التاريخية إن "رئيس وزراء مملكة بروسيا" و"أول مستشار للإمبراطورية الألمانية"، أوتو فون بسمارك، هو من قرر أن يجعل من ذلك الطريق البسيط جادّةً راقيةً لتكون واجهة لبرلين مثل الشانزليزيه بالنسبة لباريس. على جانبي الجادة تصطف الفنادق الفخمة والمطاعم والمقاهي والمراكز الثقافية والمسارح ودور السينما وأماكن السهر واللهو ومتاجر أرقى الماركات العالمية.
هذا الطراز المعماري مزيج رائع متناغم بين الأصالة والحداثة دون تكلف. بصمات من فن العمارة البروسية تضع التاريخ وعبقه في متناول العين واليد. في هذا الجو استقبلنا حاتم الصفدي، وهو مهندس معماري فلسطيني-ألماني، في مقر شركته، التي برعت في ترميم آثار تعود لعصر المملكة البروسية، بين القرنين الثامن عشر والعشرين.
يتيم الأب و"الأم" وطفولة "رجولية"
بحسب أوراقه الرسمية، ولد حاتم الصفدي عام 1968 في قطاع غزة، ولكن "حصل خطأ ما في تسجيل شهادة الميلاد. ففي الحقيقة أنا من مواليد الرياض في السعودية، حيث كان يعمل أبي. والدي من غزة وأمي فلسطينية-لبنانية يعود أصلها لمدينة يافا". جاءت وفاة والده المبكرة لتفجع حاتم باليتم وهو في الرابعة من العمر تقريباً. حول ذلك يقول: "لا أحمل في ذاكرتي أي صورة لوالديّ"؛ فإلى جانب فقدان الأب، حُرم حاتم من حنان الأم بسبب عدم السماح لها بدخول غزة لأسباب سياسية. "بعد ذلك التاريخ لم ألتقِ بوالدتي إلا هنا في ألمانيا. لكن لا يمضي يوم دون أن أتحدث معها تلفونياً".
بعد عودته إلى غزة، انخرط حاتم في العمل التجاري لعائلته وهو لا يزال تلميذاً في المدرسة، إذ كانت العائلة تشتغل في تجارة المواد الغذائية. يتحدث حاتم عن طفولته وانخراطه في غمار الحياة مبكراً: "كانت مرحلة مرهقة ومتعبة على طفل مثلي، غير أنها منحتني الإقدام والثقة بالنفس وجعلت مني رجلاً قبل أواني". واليوم يشعر حاتم بـ"بعض الحسرة والغصة في القلب" على عدم عيشه طفولته كباقي الأطفال في اللهو واللعب. غير أنه يعود ويستدرك: "من كثرة مشاغلي وأعمالي لا وقت لي كثيراً للوقوف والتفكير بالماضي. أتطلع دوماً للمستقبل".
إلى جانب العمل، ثابر حاتم الصفدي على دراسته بتشجيع من أهله وجدته، على وجه الخصوص، التي كانت تردد عليه صباح مساء: "لن ينفعك أحد إلا كتابك". يتذكر حاتم وفي عينيه علامات الامتنان: "تميزت في المواد العلمية وكنت من الأوائل في المدرسة على الدوام، وحزت على معدل 94 في المائة في الثانوية العامة".
عندما عزم حاتم أمره على استكمال دراسته في الخارج، لم يخطر على باله إلا "ألمانيا"، إذ يقول: "سحرتني منذ صغري عبارة 'صنع في ألمانيا' Made In Germany". حطت قدماه على أرض برلين الغربية عام 1988، ويتذكر أنه "قبل قدومي وبعده بقليل كنت عازماً على دراسة الطب، بيد أنني ورطت نفسي وورطتني الصدفة في دراسة الهندسة المعمارية. واليوم أحمدُ الله على هذه الورطة". تكفل أهله بتمويل دراسته حتى نهاية "عامه الدراسي الثاني" في الجامعة، بعدها "بدأت بالعمل إلى جانب الدراسة وسددت كل تكاليف معيشتي بشكل كامل". لهذا، تمحورت حياة الشاب الفلسطيني آنذاك خلال الدراسة حول ثلاث قضايا: "الدراسة والعمل لتمويل معيشتي وكرة القدم".
كانت فترة دراسة حاتم فترة ازدهار عمراني في برلين، ويعود ذلك لكثرة مشاريع الإعمار والترميم بعد الوحدة الألمانية بداية تسعينيات القرن المنصرم، وهو ما كان فألاً حسناً عليه: "تعبت كثيراً في دراستي، فقد كان لأساتذتنا عمل خاص خارج الجامعة ولم يمنحونا الكثير من وقتهم. غير أن ذلك عاد وصقل شخصيتي وعلمني الاعتماد على نفسي". فبعد جهد وتعب على مدار سنوات، حصل حاتم على شهادة الهندسة المعمارية من جامعة برلين التقنية عام 1997 بمعدل جيد.
ابن حفيد آخر قياصرة ألمانيا يقول كلمته في حاتم
كانت عين المهندس المعماري منذ البداية على تأسيس عمل خاص به، وهذا ما كان له. فقد افتتح مكتباً هندسياً في برلين بعد تخرجه مباشرة. حول بدايات عمله يقول حاتم الصفدي: "افتتحت المكتب من مال كنت ادخرته من عمل في آخر سنتين في الدراسة". وبعد عدة سنوات وسع المكتب إلى شركة بناء وترميم مبان أثرية، ويعود سبب تركيزه على هذا النوع من الأعمال الإنشائية إلى أن "إعادة ترميم الأبنية الأثرية يتطلب الصبر وتحمل مسؤولية، إذ أن كل قطعة أو زاوية من المبنى لها تراث وتاريخ وحكاية. ويمثل الحفاظ على ذلك تحدياً كبيراً. وأنا أحب مواجهة مثل هذه التحديات. أشعر بالفخر لأنني أساهم في الحفاظ على عبق تاريخ عمره مئات السنين"، على حد تعبيره.
أنجز حاتم العديد من أعمال الترميم لمبان تعود إلى العهد البروسي، منها "قصر بروكيشه" (Brockessches Palais) الذي أنشئ عام 1776، ومعمل تخمير شعيرة الجعة في حي بانكو (Maelzerei Pankow)، الذي يعود تاريخ بنائه إلى عام 1874. وقد وصف رئيس مجلس إدارة شركة أملاك أمير بروسيا، فرانس فريدرش أمير بروسيا، حاتم بـ"الصديق والإنسان الجذاب واللطيف المستعد للمساعدة". وأثنى فرانس فريدرش، وهو ابن حفيد فيلهلم الثاني، آخر قياصرة الإمبراطورية الألمانية، على أداء المهندس حاتم بالقول: "بشكل عام لا سلبيات تذكر. منح شركتنا عطاءات للسيد الصفدي يعود إلى القناعة بمقدراته، فقد بعث الحياة من جديد في العديد من المباني الأثرية الجميلة في برلين وبوتسدام".
لكن من المؤكد أن المسيرة الصاعدة لأي ناجح تتخللها بعض الانتكاسات والكبوات، إذ يقول حاتم الصفدي: "تعرضت لعملية نصب خسرت فيها 2.3 مليون يورو"، ولكنه يرى أن السهم الذي لا يقتل يجعل المرء أقوى. وبدءاً من عام 2001 أخذ المهندس الفلسطيني يخوض في غمار الاستثمار والأعمال والتجارة في قطاعات متنوعة، كثير منها خارج ألمانيا، مثل النقل البحري والسفريات والبترول والتطوير الزراعي والمنتجات الطبية، على سبيل المثال لا الحصر. وعندما سألناه عن القيمة التقريبية لثروته وأعماله، ابتسم ورفض بأدب الإفصاح عن أي رقم.
تشكل مسيرة حاتم الصفدي قصة نجاح لشاب عربي كافح وحقق ذاته هنا واندمج في المجتمع: إتقان اللغة واستكمال الدراسة في ألمانيا، بالإضافة إلى قصة نجاح مهنية مثيرة وعلاقات قوية في المجتمع والمنظومة الألمانية. المهندس الفلسطيني الأصل مقترن بمدرّسة ألمانية منذ 21 سنة وأثمر زواجهما عن ابن وبنت. قصة حاتم تشكل بالتأكيد بارقة أمل للاجئين الجدد في ألمانيا، وعند سؤاله عن نصيحته للوافدين الجدد، يقول المهندس المعماري: "بالتأكيد تنتظر اللاجئين الكثير من التحديات، ولكن أيضاً هناك الكثير من الفرص. وكما يقول المثل الألماني: لا مستحيل أمام الإرادة القوية. أضيف من خبرتي بأنه لا نجاح بدون جرأة وإقدام".
ويحرص حاتم الصفدي أخيراً على تعليم ابنه وابنته اللغة العربية، ويركز على دعم "تعليم اللغة العربية، فالحكومة والجهات الألمانية تقوم بواجبها وأكثر بقليل في تقديم التعليم الألماني بالمدارس والجامعات ومراكز التدريب المهني وبالمجان". يشار إلى أنه، وتقديراً لجهوده وإسهاماته في دعم الجالية الفلسطينية والعربية، تم تكريم الصفدي في حفل نظمته الجالية الفلسطينية.
خالد سلامة - برلين
حقوق النشر: دويتشه فيله 2017