دارفور أو الإبادة الجماعية "بمفهوم قابل للتأويل"
جيرار برونيير من المطلعين بدراية على أوضاع القرن الإفريقي. وقد وجه جل اهتمامه طيلة أعوام عديدة على وقائع الأحداث في السودان ورواندا وأثيوبيا.
على وجه خاص من خلال عمله باحثا علميا لدى المركز القومي للأبحاث العلمية CNR في باريس ومديرا للمركز الفرنسي للدراسات المتعلقة بأثيوبيا فإنه لا يقوم فقط بالبحث في أحوال تلك المنطقة بل يعيش فيها مباشرة. بالتالي فإنه مطلع على أحوال بلاد المنطقة وعلى صانعي القرار السياسي فيها.
يتضمن كتاب برونيير حول الحرب في دارفور خلفية بعيدة شاملة كما أنه يوضح معالم تعرض هذا الإقليم للإهمال من خلال تقديم طرح تاريخي عميق يتناسب مع حجم هذا النزاع.
كتاب "دارفور أو الإبادة الجماعية بمفهوم قابل للتأويل " يقدم للقارىء ملخصا في غاية الضرورة بشأن السياسة السودانية عامة وحول دورها في سياق النزاع القائم في دارفور.
تسليط الأضواء على بنية الدولة
لا يكتفي برونيير في هذا المجال فقط بتقديم الأبعاد التاريخية على نحو نظري مجرد أي مقتصر على شرح العلاقة بين مركز السلطة وأطرافها الهامشية. بل يقوم الكاتب كذلك بشرح تحول هذه العلاقة على مر عدة عقود كانت بدايتها في مرحلة ما قبل الاستقلال إلى صفة الإشكالية السياسية.
يوضح برونيير في كتابه هيكلية تركيبة السودان كدولة وما رافقها من تهميش لا سيما لإقليم دارفور الواقع بعيدا عن مركز الدولة والذي وجدت النخب المركزية الحاكمة صعوبة مستديمة في فهم طبيعة تكوينه بالإضافة إلى أنها رأت فيه بقعة غير محببة على نفسها مما جعلها تطلق عليه تسمية "الغرب الضاري".
من الأسباب التي أدت إلى جعل هذا النزاع يصبح بعد فترة زمنية طويلة للغاية موضع إدراك ومحل معالجة وجود انتماء ديني مشترك بين سكان دارفور. أما خلاف هذا القاسم المشترك فهناك اختلافات وفروق شديدة داخل صفوف سكان هذا الإقليم.
تحول هذا النزاع ابتداء من عام 2003 إلى حرب مكشوفة تعرضت النساء فيها إلى الاغتصاب وعانى فيها السكان من ويلات التشريد والقتل. هناك عدة أسباب لاشتعال الحرب، وقد تطرق برونيير لبعض منها على نحو مفصل شامل.
بحكم الجفاف الذي هيمن على الإقليم ونظرا لتزايد أعداد قطيع المواشي فيه رفضت قبائل الفور والزغاوة ومساليت المستقرة سكنيا هناك السماح للبدو الرحل باستخدام مزارعها مراع لمواشيهم.
مصالح شخصية
أتى بالإضافة إلى ذلك أن تولي إدريس ديبي ( المنتمي لقبيلة الزغاوة) السلطة في تشاد انعكس على تركيبة هياكل النفوذ داخل إقليم دارفور. من العوامل الأخرى لجوء العقيد الليبي معمر القذافي إلى دعم المجموعات العرقية العربية وقبائل الزغاوة نكاية بالنظام الذي كان حسين هبري يترأسه في تشاد.
يتحسس القارىء مشاعر الغضب لدى برونيير وهو يقدم لمحة عن طرق تعامل حكام الخرطوم والدول المجاورة لا سيما ليبيا مع وقائع دارفور. فقد عانى سكان إقليم دارفور في المقام الأول من التداعيات السياسية والعسكرية التي أفرزتها الحرب الباردة المشتعلة بين دول المنطقة.
يتهم برونيير حتى الجيش الشعبي لتحرير جنوب السودان بقيادة قرنق بتوظيف قضية دارفور لمحض مصالح ذاتية له. فقد حاول قائد الجيش الشعبي لتحرير جنوب السودان التوغل عام 1991 في المنطقة الجنوبية من إقليم دارفور تحت الإمرة العسكرية لشخص يدعى داوود بولاد كان في السابق صديقا حميما وحليفا للنظام الإسلاموي العسكري الحاكم في الخرطوم. لكن تلك العملية العسكرية باءت بفشل ذريع نظرا لسوء التحضيرات المعدة لها في حينه.
نجم عن هذا الإخفاق العسكري تهميش في مراكز قوى المجموعات الناشطة في الإقليم فحاربت قبائل الفور الحليفة لقوات بولاد ضد مليشيات المراهلين التي جندتها حكومة الخرطوم.
بالإضافة إلى تلك التطورات السلبية سقط على نحو خاص الجيش الشعبي لتحرير جنوب السودان من عيون الناس. وما زال هذا الجيش بعد أن أصبح اليوم يشكل جزءا من الحكومة المركزية يمتنع عن تبني مصالح الأطراف التي استهدفها التهميش في دارفور.
لعل برونيير ينطلق في هذا السياق من رؤية تاريخية معينة تدفعه إلى التعقيب على الأحداث الراهنة بتباعد يكاد أن يتسم بأسلوب السخرية المتنافي مع الروح الإنسانية. فهو يقيم المفاوضات التي جرت في عامي 2004 و 2005 بين الحكومة السودانية والمتمردين تحت رئاسة الاتحاد الأفريقي في العاصمة النيجيرية أبوجا بنظرة تنم عن القذف والامتهان. لكنه لا يقدم في نفس الوقت أية مقترحات بديلة لما تم الاتفاق عليه في تلك المفاوضات.
الآفاق الإقليمية
يتعقب برونيير الآفاق الإقليمية التي بدأت تلعب الآن دورا متزايدا من حيث الأهمية والبروز في نطاق الصراع الدائر في دارفور من خلال دراسته لخلفيات تلك المبادرات الإقليمية. هنا يوضح برونيير بأن اندلاع النزاع المسلح في تشاد لم يأت فحسب بمثابة انفجار أفرزته الحرب الدائرة في دارفور بل يرى بأن جذور هذا النزاع تعود كذلك إلى تواصل ممارسة سياسة مبنية على تبني مصالح متعارضة داخل الإقليم على مر العقود الأخيرة الماضية.
يستخدم برونيير في هذا السياق صيغة الانتماء الثقافي العرقي كمفهوم رئيسي في الجدل القائم ويعمد من بعد إلى وصف الحرب في دارفور بأنها كانت كفيلة بتغيير الأوضاع في السودان بكامله (تحول معادلة الأغلبية المسلمة البالغة 76 % من السكان إلى صيغة الأغلبية بمفهوم الانحدار من أصول أفريقية البالغة نسبتها 65 %) وإنهاء عهد الحكم الإسلاموي العسكري في الخرطوم. كما أنه يوضح أسباب لجوء هذا النظام إلى العمل على الحيلولة دون وقوع مثل هذه الاحتمالات.
موقف المجموعة الدولية
لا تعود أسباب الغضب المهيمن على برونيير في الدرجة الأولى للتاريخ الذي شهده إقليم دارفور بل جاء هذا الغضب كردة فعل على اللامبالاة التي يتسم بها موقف العالم تجاه هذا النزاع وحيال الكارثة البشرية المتنامية الواقعة هناك.
بناء على رؤية برونيير فإن إصدار قرار عن مجلس الأمن الدولي بشأن دارفور يكون معدوم الجدوى كحال غيره من القرارات الصادرة عن هذا المجلس. كما أنه يرى بأن لمفاوضات السلام الجارية وقع الحبر على الورق الأمر الذي يسري في نظره أيضا على القوة العسكرية الضعيفة كما وكيفا التي جندها الاتحاد الأفريقي لهذا الغرض.
يواصل برونيير هجومه على المجموعة الدولية فيقول إن اندلاع هذه الحرب على وجه خاص وما رافق ذلك من أعمال التشريد والتدمير المستديمة في دارفور كان يحتم إحداث تغييرات على المنطقة بكاملها ويجعل المجموعة الدولية تعاود النظر في تعاملها حتى الآن مع جرائم الحرب ومع حالة عدم مقاضاة المتهمين بارتكاب جنايات.
يخلص برونيير من ذلك بالاستنتاج بمرارة بكون المجموعة الدولية قد أخفقت تماما من خلال مواقفها المبنية على عدم الاكتراث والمتسمة بقابلية التأويل.
إدانة لكل المبادرات
من الصعب على المرء أن يتقبل في هذا السياق كون أحد أجزاء السودان قد أصبح بمثابة دويلة غير قادرة على البقاء ولكنها متواجدة داخل دولة استبدادية تزداد نخبها الحاكمة ثراء يوما بعد يوم بفضل إنتاج النفط، دولة تتعاطف أجزاء من العالم العربي مع سياساتها وتتعامل معها دولتان في طريقهما نحو تبوء مركز القوى العظمي أي الصين والهند اللتان لا تعبأن من الناحية السياسية بما يفعله النظام في الخرطوم.
هذا يعني بأنه لا يلوح في الأفق القريب حل للمشكلة المشتعلة في دارفور. لكن هذا ليس بالأمر غير الاعتيادي فيما يتعلق بتعامل المجموعة الدولية مع الحروب التي اشتعلت أو ما زالت تشتعل في أفريقيا.
رغم كل هذا النقد الحاد الذي وجهه برونيير فإن تقييمه الشخصي للأحداث الواقعة يبقى عالقا. فهو يظل دون موقف محدد ثابت إزاء خيارات الحلول الممكنة وفيما يتعلق بتقييمه لوقائع أحداث دارفور أي عما إذا كانت تدل على أن إبادة جماعية قد وقعت هناك أم لا.
فيما يعمد الكاتب إلى عرض نزاع دارفور من الناحية التاريخية على نحو دقيق متكامل فإنه يلجأ من الناحية الأخرى إلى إدانة كل المساعي التي بذلت حتى الآن بهدف التوصل إلى الحل وذلك على نحو يتسم بالخلط والتبسيط.
فهو يعتبر كافة المساعي المبذولة سواء السياسية منها أو العسكرية بأنها جاءت على نمط التهرب التكتيكي سواء من قبل المجموعة الدولية أو الاتحاد الأفريقي أو غيرهما من الأطراف المعنية.
كان من الأفضل لو قدم برونيير للقراء خيارات لتكريس حل للنزاع الدائرة في دارفور تبتعد عن أسلوب السخرية المتنافي مع الروح الإنسانية وتقترب من المواقع المناسبة لإيجاد الحل.
انيتي فيبر
ترجمة عارف حجاج
حقوق الطبع قنطرة 2007
جيرار برونيير يعمل منذ عام 1984 باحثا لدى المركز القومي للأبحاث العلمية CNRS في باريس كما أنه أصبح منذ 2001 مديرا للمركز الفرنسي للدراسات المتعلقة بأثيوبيا في أديس أبابا.
قنطرة
قوات تابعة للأمم المتحدة تتوجه إلى دارفور
تنازل السودان وسمح بدخول 3000 جندي تابعين للأمم المتحدة إلى دارفور. لكن منظمات العون الإنسانية ما زال الشك يحدوها نظرا لتجارب الماضي المخيبة للآمال. مقال مارك انغيلهارت
إنها معاييرنا المزدوجة!
لماذا تظل قضية دارفور خارج نطاق اهتمام السياسة والإعلام العربيين بالمقارنة مع قضايا نزاعات المشرق العربي؟ بقلم معتز الفجيري ورضوان زيادة