القذافي… عالم من التناقضات ورجل الأضواء والمفاجئات

لقد فاقَ معمر القذافي الجميع تقريباً فيما يتعلق بطول فترة حكمه، إذ يحكم الآن فترة أطول مما حكم كل الحكام الطغاة في القرن العشرين، وفترة أطول من كافة الحكام العرب الآخرين، ومن كل سياسي منتخب ديمقراطياً في أي مكان من عالمنا. رودولف شيميلّي يسلط الضوء على "ظاهرة القذافي".

عندما يحتفل قائد الثورة الليبية في الفاتح من سبتمبر/ أيلول بالذكرى الأربعين للثورة التي أزاحت الملك إدريس من عرشه بقيادة العقيد المجهول آنذاك البالغ من العمر سبعة وعشرين عاماً، فلن يستطيع أن ينافسه أحد في طول مدة الحكم سوى فيدل كاسترو الذي سبقه بعامين إلى دفة الحكم في بلده. غير أن القذافي لم يكن يوماً رئيساً بالمفهوم التقليدي أو زعيم حزب حاكم. ولكنه استطاع منذ أربعة عقود أن يجمع بين يديه كل الخيوط في ليبيا.

لن تكون الدائرة التي سيحتفل القذافي في وسطها دائرة صغيرة، غير أنها لن تضم أولئك الضيوف المشهورين كما كان يأمل. الرئيس الفرنسي، نيكولا ساركوزي، الذي أُعلنت مشاركته في الاحتفال على عجل، نفي حضوره الحفل. كما أعلنت ليبيا مشاركة الروسيين، ديمتري ميدفيديف وفلاديمير بوتين، غير أن الزعمين لم يؤكدا المشاركة في الاحتفال والشيء نفسه ينطبق على الملك الإسباني وقرينته.

كل هؤلاء يخشون أن تقع عينهم على مقعد خلفي من مقاعد الضيوف يجلس عليه عبد الباسط المقراحي، منفذ اعتداءات لوكربي العائد إلى وطنه. ولكن في مقابل غياب أولئك، سيحضر عشرات من الرؤساء الأفارقة والرئيس الفنزويلي هوغو شافيز وعديد من عتاة مناهضة الإمبريالية.

الخروج من عنق الزجاجة...

​​ومناهضة الإمبريالية هي الشيء الثابت في حياة العقيد الليبي، حتى وإن كان الزعيم الليبي قد هذّب تلك المناهضة حتى يعود إلى السيرك السياسي نجماً محتفى به من قبل "كلب رونالد ريغان المسعور". لقد حقق القذافي تقدماً كبيراً على هذا الدرب. وها هي ليبيا تستعيد علاقاتها الجيدة مع الولايات المتحدة بعد أن رُفعت كافة العقوبات عليها منذ وقت طويل، كما أن رؤساء الحكومات الأوروبية لا ينفكون التوافد إلى خيمة القذافي. إنه الآن رئيس الاتحاد الأفريقي، ويشعر بالسعادة عندما يُطلق عليه "ملك ملوك أفريقيا". بل إن ليبيا ترأس لجنة الأمم المتحدة لحقوق الإنسان، كما أنها في الوقت الحالي عضو في مجلس الأمن. وفي الشهر المقبل سيسافر القذافي لأول مرة إلى نيويورك لحضور اجتماع اللجنة العمومية وإلقاء خطاب هناك.

بطل الاستفزازات والمفاجئات….

لقد بيّن عناق القذافي للمقراحي في أثناء استقباله له أن مشاعر الرجل الثوري المسن لم تتغير. ولم يفقد العقيد رغبته في الاستفزاز وما زال يحب المزايدة، حتى وإن كان يدفع تعويضات مقابل الاعتداءات. فهو منذ الحادي عشر من سبتمبر 2001 يضع في خدمة الأمريكان معارفه الجيدة الخاصة بالنشطاء العرب السريين، لأن الإسلامويين يريدون رقبته هو أيضاً. ولكن أمام مواطنيه لا يريد القذافي بأي حال من الأحوال أن يظهر في مظهر الدمية التي تحرك خيوطها بلاد الغرب.

ولهذا يصور القذافي الأمور على نحو زائف: ألم يصدر في ليبيا حكم بالإعدام بحق الممرضات البلغاريات؟ ألم يتم الاتفاق بعد صفقة إطلاق سراحهم على أن يقضوا فترة العقوبة في وطنهم؟ ألم يتم استقبالهم استقبالاً بهيجاً من قبل رئيسهم وكبار الأوربيين بصفتهم ضحايا الظلم الليبي؟ "هل نحن حمير وهم بشر؟"، هكذا علق القذافي علناً على الاستياء الذي أبداه الغرب عندما استقبلت ليبيا المقرحي باعتباره رمزا وطنياً.

كل إنسان يعيش شمال البحر المتوسط أو غرب المحيط الأطلسي يعرف أن التشبيهات التي يستخدمها القذافي خاطئة. غير أنها تترك أثراً إيجابياً في ليبيا. ومثل القذافي انتهز ابنه سيف الإسلام فرصة استقبال المقرحي في سكوتلاندا والعودة به إلى الوطن لكي يرسخ صورته أمام الجمهور باعتباره خليفة والده وليضعف موقف أخيه ومنافسه المعتصم بالله.

قصة فشل….

لم تكن "الجماهيرية" التي أسسها القذافي وقضى نصف حياته على رأس السلطة فيها قصة نجاح. هذا البلد الذي لا يقطنه سوى ستة ملايين ونصف يصدر من البترول ما لا يقل عن السعودية، غير أن الفوارق هائلة بين البلدين في مستوى المعيشة والبنية التحتية والتنمية. لا أحد يموت من الجوع في ليبيا، هذا صحيح، ولكن الأجور في مستوى متدنٍ للغاية، أما البطالة بين الشبان فهي تقريباً القاعدة لا الاستثناء. لا أحد يكاد يجد عملاً سوى في القطاع الحكومي غير المنتج. أما دخل البترول فقد تم تبذير جزء كبير منه على مشاريع استعراضية ضخمة ومشتريات السلاح وشراء أصدقاء وهميين.

لقد تبخر طموح قائد الثورة في أن يكون محرك الوحدة العربية. إذ وقّع القذافي نحو عشر اتفاقيات وحدة، مع دول مجاورة مثل مصر وتونس، أو مع دول لا تربطه معها حدود مشتركة مثل المغرب أو سوريا. ولكن سرعان ما انفكت عرى تلك الوحدة، إذ لم يرغب رئيس دولة عربي في القبول بأن يتولى القذافي قيادة البلد المتحد. ومن ناحيته فهو لم يكن في يوم من الأيام مستعداً لأن يلعب دوراً ثانوياً. أكثر من مرة كان القذافي على وشك الخروج من جامعة الدول العربية، فهو لم يقبل قط أن يرى أخوانه العرب يقدرون الإمكانات الحضارية والثقافية في ليبيا تقديراً متدنياً. كما أنه منذ توجهه إلى أفريقيا لا يريد أن يدرك أن الحلفاء الجدد لا يكنون الإعجاب سوى بنقوده.

وبفضل القذافي يسكن اليوم البدو السابقون في بيوت خرسانية قبيحة، بها ثلاجات ويأكلون طعاماً مستورداً من الدرجة الثانية. وعما قريب قد يصبح الرومانسي الأخير الحالم بالصحراء الذي ما زال ينام في خيمة ويشرب حليب الناقة.

رودولف شيميلّي
ترجمة: صفية مسعود
حقوق الطبع: زود دويتشه تسايتونغ/ قنطرة 2009

رودولف شيميلّي خبير بشؤون الشرق الأوسط ومراسل صحيفة "زود دويتشه تسايتونغ" منذ سنوات طويلة.

قنطرة

إصلاحات سياسية في ليبيا:
خطابة ثورية أم تحوّل كلي؟
أعلن العقيد معمر القذافي العام الماضي عن عزمه تجديد الجماهيرية الاشتراكية وخصخصة القطاع العام. ولكن في آخر مؤتمر شعبي تم إلغاء بعض القرارات الخاصة بهذه التحولات، الأمر الذي يحيِّر الخبراء وأبناء الشعب. بيآت شتاوفَر تستعرض بعض مظاهر الحراك السياسي في ليبيا.

القذافي الجديد":
التقارب بين ليبيا واوروبا، فرص ومخاطر
تتناول الباحثة في المعهد الألماني للدراسات الدولية والأمن الدولي إيزابيل فيرنفيلس خلفيات تطور العلاقة بين ليبيا وأوروبا وإشكاليات نظام الحكم في طرابلس.

العلاقات الإيطالية الليبية:
انتصار الصفقات التجارية على المطالب بالديمقراطية
في ضوء زيارة العقيد الليبي معمر القذافي الأخيرة لإيطاليا يحلل برنارد شميد في مقالته الآتية دوافع الانفتاح في العلاقات الليبية الإيطالية، لاسيما في ضوء توقيع اتفاقية الصداقة والشراكة بين البلدين.