تصوير عوالم عربية على الأرض الأمريكية؟
يبدو أنَّ دوائر الرقابة المصرية لا تتَّخذ على الأقل دائمًا إجراءات متشددة تمامًا، مثلما تخيفنا بعض الأخبار. فلو كانت الحال على غير ذلك لما كان من الممكن أن يتم نشر رواية تستعرض التمييز والظلم المنظَّمين اللذين يتعرَّض لهما الأقباط في مصر وتتحدَّث بشكل مستفيض عن ميِّزات "فيبراتور" (ذكر اصطناعي هزاز)، وحتى أنَّها تلقي نظرة شاملة على الجانب المخيف من شخصية الرئيس المصري وتنتقده.
كيف كان من الممكن أن يتم نشر مثل هذا العمل، الذي يخرج على الآداب العامة ويتجاوز على الوطنية بمثل هذا الشكل، ليس فقط على حلقات في واحدة من كبرى الصحف الأسبوعية المصرية، بل حتى أن تتم إعادة نشرها بطبعتها العربية الأصلية للمرَّة الخامسة؟
ليس من المستبعد أن يكون علاء الأسواني، مؤلِّف هذه الرواية يتمتَّع وبفضل روايته الأولى، التي لم تكن أقلّ نجاحًا، بما يشبه الحصانة. وفي الواقع إنَّ روايته "عمارة يعقوبيان"، التي صدرت في العام الماضي مترجمة إلى الألمانية، هاجم وبنفس الرغبة والإصرار الموضوعات المحرَّمة الخاصة بالمجتمع المصري، الذي يتأرجح بين الجمود السياسي والنهضة الدينية.
ففي تلك الرواية الأولى قلب علاء الأسواني وبمعنى الكلمة الحياة في عمارة سكنية رأساً على عقب، وذلك من خلال تسليطه الضوء وبشكل فعّال على حياة الفقر والبؤس، التي يعيشها مهاجرون، يسكنون في حاويات تلتهب من شدَّة الحرّ وتم تجميعها فوق سقف البناية وكذلك على حياة المولعين بالرفاهية والمترفين ممن يسكنون في شقق العمارة؛ لقد لقيت هذه الرواية صدىً واسعاً ومباشراً لدى الصحافة والجماهير، بحيث أنَّ دائرة الرقابة أعادت مراجعتها.
في ظلّ السلطة
وفي رواية علاء الأسواني الجديدة، "شيكاغو" ينتقل مسرح أحداث الرواية إلى الولايات المتحدة الأمريكية، إلى بلاد الله الواسعة، التي لا تسلم من اللّوم لسبب أو آخر. وعلى العموم يبدو هذا السياق الأمريكي في الواقع باهتاً على نحو مدهش، إذ لا يحدث أي تداخل مفيد فكرياً بين البيئتين الثقافيتين.
ويبقى الهدف الرئيسي لهذا السخط الناقد هو الوطن، الذي يتم تمثيله هنا من جانب من قبل مجموعة من الطلبة المصريين الحاصلين على منح دراسية وأكاديميين مصريين مهاجرين يعملون في جامعة إلينوي Illinois، ومن جانب آخر من قبل ممثِّلي أجهزة الدولة مثل ضابط المخابرات صفوت شاكر أو عميله أحمد دنانة.
يشكِّل جسد العميل أحمد دنانة الضخم هدفًا رائعًا للحملات، التي يشنّها عليه علاء الأسواني؛ إذ يختلط الغباء مع الذلّ والبخل مع الشهوة وطبيعة شخص تقي يدَّعي العدالة والعصمة مع انتهازية مطاطة.
من المدهش أنَّ هذه الخصلة على الرغم من المبالغة الزائدة في معظم الخواص لا تبقى مهملة على الورق، بل تمتد من دون ريب لتطال أعصاب القارئ؛ لكن مع الأسف لا ينجح علاء الأسواني في كلِّ حال وبجودة متساوية في نقل أشخاص روايته من مستوى الكتب الرخيصة المتدنية إلى أرض الأدب الثابتة.
لقد اختار المؤلِّف لرواية "شيكاغو" مبدأ السرد نفسه، الذي اعتمده في رواية "عمارة يعقوبيان"؛ حيث يتم عرض الأشخاص في قصَّتين متوازيتين تجريان بالتناوب وبشكل متزامن، في حين تتكفَّل النتيجة المجهولة في نهاية كلِّ واحد من فصول الرواية بتشويق القارئ.
يبدو في هذه الرواية أنَّ الشيء، الذي حظي بأقل النجاح يكمن في مسار السرد "الأمريكي" الذي يجمع بين الأستاذ الجامعي المُسنّ جون غراهام John Graham - أحد معاصري حقبة الثمانية والستين معروف بكثرة تبرّمه - والشابة الأمريكية كارول مك نيللي Carol McNeilly ذات الأصول الأفريقية.
يرغب علاء الأسواني هنا ليس أخيرًا من خلال نظرة على القرّاء المصريين قليلي الإلمام بمسألة الأعراق الأمريكية عرض التأثيرات المدمِّرة للتمييز، الذي ما يزال كامناً، ولكنه يزداد خلال ذلك ابتعادًا عن أرض المصداقية.
ولكن على كلِّ حال تعتبر القصة، التي يقدِّم فيها المؤلِّف تصوّره الماقت للرئيس المصري، جريئة إلى حد ما لكنَّها عُرضت ببالغ الاقتضاب. وفي الرواية تتم قراءة بيان احتجاجي باسم الطلبة المصريين الحاصلين على منح دراسية والأكاديميين المقيمين في شيكاغو أمام الكاميرات، أثناء زيارة رسمية لحسني مبارك إلى الولايات المتحدة الأمريكية، تتضمَّن أيضًا لقاءً معهم.
وإذا ألقينا نظرة موضوعية على هذه القصة فهي تمثِّل حلماً سياسياً ساذجاً للغاية، وركيزتها تكمن على الأقل في نسيج الرواية؛ وهي تختصر الدافع القوي لنقد النظام والمجتمع، الذي تقوم عليه الرواية، كما توجِّهه إلى الهدف الحقيقي - وذلك فقط لكي تجعل هذا الدافع يسقط في اللحظة الأخيرة منهارًا بضعف وعجز.
انهيارات وتحليق في الأعالي
كما هو الحال في النهاية المشوقة للمسلسلات تشكل تلك الانهيارات الختامية في الرواية قانوناً للسرد. يتم اتِّهام الطالب الثوري، ناجي عبد الصمد الذي دبَّر عمل إلقاء البيان الاحتجاجي، من قبل جهاز المخابرات بممارسة نشاطات إرهابية وتسليمه لموظفي وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، الذين أصبحوا بعد الـ11 من أيلول/سبتمبر أكثر خشونة وفظاظة. أما الأستاذ الجامعي المصري، رفعت ثابت الذي كان يعتقد أنَّه أمريكيًا أكثر من الأمريكيين، يتعثر فجأة بجذوره الثقافية الخاصة ويفقد بذلك ابنته.
تكشف شخصية أحمد دنانة عن ظواهر انحلال واضحة، بحيث أنَّ زوجته التي تم اختبارها بشدة تهجره في آخر المطاف. أما الابتسامة المسالمة، التي تعلن عن نفسها في الجملة الأخيرة من الرواية، فيمكننا في أحسن الأحوال أن نثق بنصفها.
ترتسم هذه الابتسامة على شفاه كانت تريد في البداية أن تستمتع على أكثر تقدير بقطع حلوى مصرية الصنع ومقطَّعة بصورة دقيقة. وهذه الشفاه هي شفاه الطالب المجتهد طارق حسيب الذي توجد في قصة حبه مع الفتاة المحافظة شيماء محمدي -آه أيها القرَّاء الكرام، لا تتنهّدوا حسرة على هذين الحبيبين، لا سيما وأنَّ تودّدهما لبعضهما كان فاتراً، وهما اللذان لم يعيرا زيارة الرئيس حسني مبارك أهمية ولا لشلل أجهزة الدولة، التي يمثِّلها بالشلل- جوانب ساحرة من دون شكّ.
ضمن الأجواء المفعمة بالجنس والتي يحبها علاء الأسواني، تتمتَّع حشمة شيماء التي يلازمها الخوف، بتأثير خاص؛ وكذلك تضفي مشاعر عشيقها التي تتذبذب بين مجرّد إشباع للرغبات ومحبة غير مؤكَّدة على هذه العلاقة التي تبدو ساذجة ومؤسسة على أساس وجبات طعام جيدة وآمال تقليدية تناقضاً وجدانياً محيِّراً وحتى أنَّه يبقى غير محسوم في تلك الابتسامة النهائية.
رواية لم تكتب لنا فقط
يستخدم علاء الأسواني مرارًا وتكرارًا نبرات ممتعة وماهرة عاشت عليها روايته الأولى - على سبيل المثال حين يتحتَّم على شيماء أن تتساءل في ساعات متأخرة من الليل، كم أفادتها في آخر المطاف هذه الحياة العذرية التي نُصحت بها باعتبارها تشكِّل الطريق الذهبي للزواج.
أو حين نجد رفعت ثابت يبجِّل وبشكل أعمى "كلَّ ما هو أمريكي"، إلى درجة أنَّه يعتبر البدانة الزائدة ليست سوى عيب خاص بالمصريين. ولا تبدو مثل هذه اللحظات في آخر الأمر كقوى مضادة في هذه الرواية، التي كثيرًا ما تتوه أحياناً في البنية من دون أن تبلغ بذلك دائماً وضوح العمق الفكري المطلوب:
وهكذا تبقى أحاديث ناجي عبد الصمد المتفائلة حول تسامح الإسلام من دون تمحيص وكشف عن أسباب نشأتها، وكذلك يميل المرء إلى الإبقاء على فكرة أنَّ إعادة أسلمة العالم العربي في الوقت الحاضر أمر يتعلَّق بـ"حالة كآبة جماعية ذات أعراض دينية جانبية".
ولكن لا ينبغي في المقام الأول تقييم روايات علاء الأسواني حسب مقاييسنا، بل بالنظر إلى الجماهير العربية المعتادة قليلاً على القراءة والتي من المفترض أن يتم جذبها في هذه الرواية إلى التفكير بشكل نقدي في واقعها المعيشي الخاص. لقد أثبتت الرواية كفاءتها، الأمر الذي يجعلها مهمة أيضًا بالنسبة للقرَّاء العرب.
أنجيلا شادر
ترجمة: رائد الباش
حقوق الطبع: نويه تسورشر تسايتونغ/قنطرة 2008
ملاحظة: ترجم هارتموت فيهندريش رواية "شيكاغو" لعلاء الأسواني إلى الألمانية. وصدرت عن دار نشر لينوس، بازل 2008، في 465 صفحة وبسعر 38,50 فرانك سويسري.
قنطرة
علاء الأسواني يقرأ من "شيكاغو" في ألمانيا:
محفوظ الثاني أم محطم التابوهات؟
بعد صدور الترجمة الألمانية من رواية "شيكاغو" قام علاء الأسواني صاحب رواية "عمارة يعقوبيان" بجولة في ألمانيا للتعريف بروايته هذه، وقد استهل جولته بقراءة في مهرجان كولوينا للأدب، أكبر مهرجان أدبي في أوروبا. سمير جريس التقاه هناك.
حركة الترجمة من العربية إلى الإنجليزية:
تغيرات في المفاهيم- الخروج من دائرة "الفضائحيات"
منذ فترة طويلة تتعالى الشكاوى حول ندرة الكتب العربية المترجمة إلى الإنكليزية وإذا ما حدث ذلك فيتم من خلال اختيار روايات فضائحية أو كتب ترسخ الصور النمطية الشائعة. غير أن هناك الآن بوادر إيجابية تنبئ برياح التغيير وفق قراءة سوزانا طربوش لحركة الترجمة من العربية إلى الإنجليزية.
خلافة حسني مبارك وراثيا في مصر
ديمقراطية صورية لا أكثر
في الأردن تتوارث الأسرة الهاشمية حكم المملكة وفي سوريا انتقل الحكم الاستبدادي من الأب إلى الابن. وفي مصر التي تحاول أن تسبغ على نظامها طابع الديمقراطية ولو شكليا تتركز التوقعات على احتمال بقاء السلطة داخل سلالة الأسرة ذاتها أيضا. مقال كتبه يورغين ستراياك.