جائرة أوربية لثلاث شخصيات مهمّة من العالم الإسلامي
"كانت الجائزة مفاجأة بالنسبة لي" يقول صادق جلال العظم في مكتبه بأنتفاربن والفرحة بادية على محياه. " أنا مهتم كثيرا بفكر النهضة وأعرف بطبيعة الحال بعض الأشياء عن إراسموس. لكن أن أرى نفسي أقترن به بهذه الطريقة فذلك أمر ممتع جدا بالنسبة لي". تعتبر جائزة إراسموس أهم تتويج ثقافي في بلدان المجموعة الأوروبية بعد جائزة نوبل. ويتم إسنادها في كلّ سنة لشخصية أو مؤسسة تكون قد قدمت إسهاما ذا شأن بالنسبة للثقافة أو للمجتمع أو للعلوم الإجتماعية في أوروبا.
وفي هذه السنة وقع اختيار البيت الملكي الهولندي والهيئة المديرة لمؤسسة Praemium-Erasmanium-Stiftung على موضوعة "الدين والحداثة" كمجال للتتويج بهذه الجائزة. "يتساءل الكثيرون في الوقت الحاضر عن الكيفية التي يمكن بها إجراء مصالحة بين الإسلام والحداثة. وقد قدم كل من عالمة الاجتماع المغربية فاطمة المرنيسي وناقد الأديان صادق جلال العظم من سوريا والمفكر الإسلامي الإصلاحي عبد الكريم سروش من إيران، كل بطريقته الخاصة مساهمة في ربط صلات تلاؤم بين الثقافات الموسومة بالطابع الديني وصيرورات التحديث".
بهذا الرأي بررت مؤسسة أمستردام الاختيار الذي وقعت عليه في يوم السابع من شهر أبريل 2004. فالجدالات حول الإسلام والحداثة تعتبر على غاية الأهمية بالنسبة لأوروبا أيضا: "فقد وجدت أوروبا نفسها مدفوعة بهذه الجدالات لإعادة التفكير في نفسها ولإعادة النظر بصفة نقدية في مفهوم التنوير الغربي الذي يُعتمد كمقياس للحداثة. وقد أضحى الغرب يدرك أنّ صيرورات التحديث لا يجب أن تتمّ بالضرورة بحسب رسم بياني وحيد متطابق."
التعريف بالفائزين
بفضل الترجمات العديدة فإنّ أعمال كل من فاطمة المرنيسي وصادق جلال العطم وعبد الكريم سروش قد أصبحت في متناول القارئ الأوروبي. ويمكن أن تكون فاطمة المرنيسي المولودة في سنة 1940 هي الأكثر شهرة من بينهم. فقد ساهمت منذ السبعينات والثمانينات بكتابيها "الجنس والإيديولوجيا والإسلام" و "الحريم السياسي" إسهاما واضحا في نسف الكليشيه الغربية القائمة حول المرأة المسلمة المحجبة والمضطهدة. وكانت فاطمة المرنيسي في ذلك الوقت تمثل نموذجا بالنسبة للعديد من النساء في العالم الإسلامي: لقد استنهضت آنذاك المسلمات للتحرر من الخضوع إلى سلطة الرجال، وليأخذن بأيديهنّ مهمّة تأويلهنّ الخاصّ للقرآن.
وفي بداية التسعينات تخلت المرنيسي عن النسويّة لتكرس نفسها منذئذ إلى نشاطين أساسيين: كتابة الرواية وتدعيم المجتمع المدني بالمغرب. وهي تعتبر أن الكتابة هي المحرك الأساسي للوعي المدني. وقد مارست بصفة تطوعية إدارة العديد من ورشات الكتابة ateliers d’écriture للملتزمين من النساء والرجال. وكان هذا النشاط يغطي محاور مختلفة لها مساس بواقع المواطنات والمواطنين كالتنمية الريفية والتعددية الثقافية وحقوق الإنسان والعلاقات بين الجنسين والاعتداءات الجنسية على الأطفال.
وبالرغم من المسافة التي اتخذتها تجاه الأفكار النسوية ظلت فاطمة المرنيسي قدوة هامة بالنسبة للحركة النسائية المغربية. وفي غمرة هذا النشاط ظلت تعبّر عن هويتها كمغربية ومسلمة.
تحولات متحمس للثورة الإيرانية
ينطلق الإيراني عبد الكريم سروش هو أيضا من موقع المسلم في مقارباته. ولد سروش سنة 1945 في طهران تحت إسم حسين الدباغ. ولدى عودته إلى إيران سنة 1979 على إثر إنهاء دراسته للصيدلة والفلسفة بإنكلترا كان من المنتمين المتحمّسين للثورة الإسلامية. وبعد سنة من ذلك انتدبه آية الله الخميني لمجلس الشورى الأعلى للثورة.
لكن هذا اللقاء في القمة مع الخميني لم يعمّر طويلا: في سنة 1982 تخلى سوروش عن كلّ وظائفه ليغدو أستاذا للتصوف الإسلامي بجامعة طهران. ثمّ ما فتئت انتقاداته للإكليروس الإسلامي تزداد حدّة وبصفة أخصّ داخل مجلة "كيان" الشهرية التي أسسها بنفسه. وعندما راح يطالب صراحة بالتعددية الثقافية وبفصل الدين عن الدولة تقريبا كان عليه أن يغادر إيران سنة 1996. ومنذ سنة 2000 أصبح يدرس مادة الفلسفة الإسلامية بجامعة هارفارد الأميركية.
وفي السنة الدراسية 2001-2002 أقام كضيف بمنحة في "المعهد العلمي" Wissenschaftskollegium ببرلين. وفي الأثناء غدت أفكاره متداولة في إيران لا بين طيات الكتب فحسب، بل أيضا على أشرطة الكاسيت. وهناك ما يقدّر بألف محاضرة له تتنقل حاليا بصفة سرية عبر إيران والبلدان المجاورة لها.
الفصل بين الدين والدولة
وعلى عكس فاطمة المرنيسي وعبد الكريم سروش يدعو صادق جلال العظم بصفة واضحة إلى الفصل بين الدين والدولة، وهو لا يعرّف نفسه كمفكر إسلامي. لكن: "ثلاثتنا نجد أنفسنا في نفس المعركة: ضدّ الظلامية وضدّ اقتران السلطة السياسية بالدين" يوضح جلال العظم. "هناك طرق عديدة للنضال من أجل مزيد من الحقوق المدنية وتحرر المرأة ومن أجل الديموقراطية بصفة عامّة. لفاطمة لمرنيسي طريقتها، ولسوروش طريقته، ولي طريقتي الخاصة."
وهو يقول إنّ إصلاح الإسلام من الداخل لم يكن ليمثّل بالنسبة إليه شيئا مهمّا. لكن تحديث الفقه الإسلامي والتشريعات الإسلامية أمر على غاية الأهمية بطبيعة الحال. "مازال هناك من بين الفقهاء الإسلاميين من يعتقد إلى الآن بأنّ الأرض منبسطة؛ مثل هذه القناعات لا يمكن أن تتلاءم مع الحداثة"، يضيف العظم وهو يهزّ برأسه. "والأمر نفسه ينطبق على مبادئ محدّدة من التشريع الإسلامي: لا بدّ من ضمان حرية المعتقد في مظهريها النشط والسالب، تماما مثل احترام حرمة الجسد والمساواة بين المرأة والرجل في الحقوق. يعني أن لا يكون هناك تكفير ولا عقوبات جسديّة ولا فرض للحجاب.
وطالما لم يتمّ التخلي نهائيا وإلى الأبد عن تطبيق المقاطع القرآنية التي تقول بهذه الأمور، وطالما لم يتمّ إلغاء هذه التشريعات الإسلامية فإنه لن يمكن للإسلام أن يكون قاعدة لبناء دولة حديثة، كما هو الشأن الآن بالنسبة للعراق."
ينحدر صادق جلال العظم من عائلة لها وزنها السياسي بدمشق. كان جده موظفا ساميا في دولة الإمبراطورية العثمانية. وأبوه كان من المعجبين بكمال أتاتورك الذي أحدث الفصل بين الدولة والدين في تركيا. لكن وخلافا لما حصل قي تركيا ظل الدين في البلاد العربية يستعمل في ممارسة السلطة السياسية حتى بعد التحرر من الاستعمار في الخمسينات من القرن المنصرم.
وقد كتب صادق جلال العظم ضدّ هذا الأمر وتحمل تبعات ذلك من محاكمات ومنع لكتبه. ولما عبر عن تضامنه مع سلمان رشدي ضدّ فتوى الخميني تلقى تهديدات بالقتل. ومع ذلك يظلّ جلال العظم مقتنعا بأن للتنوير مكانه داخل المجتمعات الإسلامية أيضًا: "إنّ اللائكية كواقع معاش منتشرة جدا داخل العالم الإسلامي، وبصفة أخصّ داخل البلدان العربية. لكن لم تتم صياغة وتطوير إيديولوجيا لائكية، أو تأسيس أحزاب لائكية ببرامج دنيوية واضحة تعتمد على مبدإ فصل الدين عن الدولة."
التفكير بشكل نقدي دليل على الوجود
إنّ مبدأ جلال العظم هو القائل، اعتمادا على مقولة الفيلسوف الفرنسي ديكارت وعلى مثاله الأكبر إيمانويل كانط: أنا أفكّر بصفة نقدية، إذًا فأنا موجود. فالفكر النقدي وحرية التعبير شرطان للتقدم والسلام. غير أنّ العلائم لا تدلّ في الوقت الحاضر على تحرك ما باتجاه الليبرالية والديموقراطية وحقوق الإنسان في العديد من البلدان العربية.
لذلك يجتهد مثقفون عرب من اليسار الليبرالي من أمثال صادق جلال العظم في البحث عن البديل. يعتقد جلال العظم أنه يمكن لتركيا أن تتطور باتجاه المثال النموذجي في هذا المضمار. أما إلى أيّ مدى سيكون الإسلاميون الأتراك ديموقراطيين فذلك ما يظل بحاجة إلى أن يقام عليه الدليل. لكن العظم على قناعة بأنّ تركيا لائكيةً بحزب إسلامي-ديموقراطي يمكنها أن تتحوّل إلى نمط يحتذى في الشرق الأوسط كله. "وإذا ما كان للغرب اهتمام حقيقة بتدعيم نمط ديموقراطي إسلامي في الشرق الأوسط، فإنه على مجموعة الوحدة الأوروبية أن تدعم ركيا وأن تأخذ بيدها "، يقول صادق جلال العظم.
التسليم الرسمي لجائزة إراسموس سيتمّ كما هو محدد في شهر نوفمبر من سنة 2004 في أمستردام. والجائزة يتمّ تقديمها منذ سنة 1958 وبصفة دورية منتظمة تحت الإشراف المباشر للبيت الملكي الهولندي. وهي تتويج لأعمال في الحقلين الثقافي والاجتماعي، وقد كان من بين الحائزين عليها في ما مضى كارل ياسبرس و أوسكار كوكوشكا ومارتن بوبر وشارلي شابلن ومنظمة العفو الدولية وفاتسلف هافل وبيتر شتاين.
بقلم مارتينا صبرا
ترجمة علي مصباح
مزيد من المعلومات عن الجائزة هنا
إيراسموس فيلسوف هولندي ولد 1466 في روتردام وتوفي 1536 في بازل/سويسرا