ضدّ التيار: تقرير من رام الله

أميرة هاس، الصحافية الإسرائيلية الوحيدة المقيمة في الأراضي الفلسطينية، تضع في كتابها الجديد الواقع في الضفة الغربية تحت المجهر، تعطي الكلمة للمواطنين وتجعل نزاع الشرق الأوسط المعقد قابلا للفهم. إيغال أفيدان قرأ الكتاب ويقدمه لنا

​​أميرة هاس، الصحافية الإسرائيلية الوحيدة التي تقيم في الأراضي الفلسطينية، تضع في كتابها الجديد الواقع في الضفة الغربية تحت المجهر وتعطي الكلمة للمواطنين وتجعل نزاع الشرق الأوسط المعقد قابلا للفهم. إيغال أفيدان قرأ الكتاب ويقدمه لنا

إنّ الصراع الفلسطيني الإسرائيلي يثقل بوطأته على أغلبية الألمان. التقارير الإعلامية عن العنف والعنف المضاد غدت تصيبهم بالإعياء، والدعاية الرسمية من الطرفين تشعرهم بالملل. الإسرائيليون يستعرضون حطام الباصات والفلسطينيون بيوتا مدمّرة، وكلّ طرف موتاه من المدنيين. وأغلب الألمان يحوّلون نظرهم عن هذه المشاهد.

أميرة هاس تحطم هذا الطقس الإعلامي. الصحافية الإسرائيلية الوحيدة التي تقيم في الأراضي الفلسطينية تضع الواقع في الضفة الغربية تحت المجهر، تقدم معطيات واقعية، و تعطي الكلمة للمواطنين وتجعل نزاع الشرق الأوسط المعقد قابلا للفهم: فشل قمة كامب دافيد، العمليات الانتحارية، آراء قنّاص إسرائيلي، منطق المناضلين الفلسطينيين، الامتناع الهائل لدى الشعبين عن كلّ نقد ذاتي وقناعتهما الراسخة بأن مزيدا من تصعيد العنف الدموي هو وحده الكفيل بأن يجعل الطرف المقابل يثوب إلى رشده.

إرث الأم

بدأت أميرة هاس سنة 1991 عملها كمراسلة لصحيفة "هآريتز"اليسارية الليبرالية من غزة التي انتقلت للإقامة فيها طوع إرادتها سنة 1993. هناك حررت أيضا كتابها :"غزّة ؛ أيام وليال في بلد محتل". بعدها انتقلت إلى رام الله. وهي مدفوعة في نشاطها بتجربة عاشتها أمها خلال محنة الهولوكوست وظلت تحدد رؤيتها الخاصة للعالم:
ذات يوم من صيف سنة 1944 كانت حنّا هاس سائرة من محطة القطار باتجاه معتقل بيرغن-بلْزن بعد رحلة عشرة أيام في عربة للدواب خرج منها أغلب المعتقلين مرضى على شفا الموت، بينما على حافة الطريق بعض نساء ألمانيات يرقبن بملل موكب اليهود المساقين إلى المعتقل. ذلك الخوف من أن تتحول بدورها إلى مشاهدة خاملة لآلام الآخرين هو الذي يعتمل يوميا داخل أميرة هاس.

لا تخفي الصحافية البالغة 47 سنة من العمر انحيازها إلى الفلسطينيين البسطاء، لا إلى نظام عرفات. وهي ترى أنّ الموضوعية والموقف العادل أمران مختلفان؛ الصحافة هي بالمقام الأول مراقبة ذوي القوة والسلطة، وهم في نظرها مؤسسات الإدارة الإسرائيلية وليس الفلسطينيون.

ومنطلق عملها هو معارضتها العميقة للاحتلال الإسرائيلي الذي قد تواصلت مسيرته حسب رأيها عن طريق اتفاقيات أوسلو، لكن بشكل أكثر لباقة. بهذه الرؤيا تجد هاس نفسها تقف معزولة داخل إسرائيل، لكنها تحظى مع ذلك بتعاون تام من قبل الجيش الذي لم يرفض أبدا مدها بالمعلومات، بل ودعاها حتى لإلقاء محاضرة حول تصرفات الجنود في نقاط الحواجز.

إنّ فشل كامب دايفد لا يعود إلى كون عرفات قد رفض العرض السخي الذي تقدم إليه به باراك كما يدعي الإسرائيليون، بل لأنّ ذلك العرض يجعل تأسيس دولة فلسطينية قادرة على الحياة أمرا مستحيلا؛ ولأنّ إسرائيل تريد الإبقاء على كتل كبيرة من المستوطنات، تقول هاس، فإنه على الضفة الغربية أن تكون مقسمة إلى ثلاث مقاطعات مفصولة عن بعضها البعض: الشمال، الجنوب، والقدس الشرقية.

أما الطرق الرابطة بين هذه المقاطعات فستكون تبعا لهذا خاضعة بالضرورة لسيطرة السلطة الإسرائيلية. وفي الوقت نفسه فإنّ مستوطنة معال أدوميم الواقعة بالقرب من القدس والتي لا يريد شارون إخلاءها (كما صرح بذلك مؤخرا) ما فتئت تتمطط لتغطي في الأثناء مساحة 5300 هكتارا؛ أي مساحة أكبر من تل أبيب، في حين يقيم 25 ألف ساكنا في معال أدوميم بينما تعد تل أبيب 360 ألفا.

سبب اندلاع الانتفاضة

لقد انطلقت الانتفاضة المسلحة خريف سنة 2000 لثلاثة أسباب. أولها هو الغضب المتولد عن سياسة توسيع المستوطنات بصفة موازية للمفاوضات حول السلام. اضافة إلى ذلك شعور بالنقمة على البيروقراطيين الفاسدين وغير الأكفاء سياسيا من موظفي الإدارة الفلسطينية الذين أصبحو من الأثرياء. ثم إن إدارة عرفات تتحمل مسؤولية بدورها ذلك أنها كانت تغض الطرف عن العنف بغية تدعيم موقعها في المفاوضات مع إسرائيل.

كما أنّ ردة الفعل المكثفة لقوات الجيش الإسرائيلي وعمليات القتل التي اقترفتها خلال الأيام الأولى للانتفاضة قد أعطت شرعية لستعمال السلاح من قبل الفلسطينيين وأعادت لإدارة عرفات الثقة التي كانت قد افتقدتها. وقد ساهمت المنافسة بين كتائب الأقصى ذات الطابع الدنيوي وحماس الإسلامية التوجه من أجل استقطاب المناضلين بدورها في تصعيد هذا المسار تماما مثل عدم تدخل الإدارة الفلسطينية التي لم تحاول أبدا تطويق العنف، بل فسحت المجال للفلسطينيين المغتاظين ليمارسوا عمليات الانتقام لقتلاهم من الأطفال والمدنيين.

وبالرغم من أنّ هذا الكتاب لا يفسح للإسرائيليين مجالا كبيرا عدا وجهات النظر المقتضبة للناطق العسكري، فإنّ محادثة مع قناص إسرائيلي نكرة تعطي فكرة هامة على عقلية الجيش دون تشويه يتناوله بصفة تعميمية. يعترف القناص أولا بأنه بعد كلّ عملية ضد الإسرائيليين " يسمحون لك بأن تطلق الرصاص أكثر" وأن بعض الجنود، لا هو، "يتحرّقون لإطلاق النار". لكن الجيش يمنع إطلاق الرصاص على الأطفال، منع "غالبا" ما يعاد التصريح به. بأية كلمات؟ تسأل هاس. "لا يطلق الرصاص على الأطفال الذين دون سن الثانية عشرة"، يجيب الجندي. "ابتداء من سن الثانية عشرة فذلك مسموح. إذ هو ليس بطفل بعد." لكنّ الناطق العسكري لا يريد أن يحدّد في أيّ سنّ بالضبط يكفّ الفلسطيني عن كونه طفلا.

الفلسطينيون أيضا يتحدثون بصفة مفتوحة مع هاس. أحدهم يتهجم على المناضلين بأنهم "أطفال شبه أميين وهواة طائشين مدفوعين إلى لعب دور الأبطال". والسبب في ذلك هو أن هناك فوضى ضاربة تسود حركة فتح لياسر عرفات. أما المقاتلون الأربعة من حركة كتائب الأقصى فيحاولون الإشعاع بشيء من الثقة، لكنهم يعترفون بأنّ اعتقال رفاقهم قد مثل ضربة قاسية بالنسبة إليهم، الأمر الذي جعلهم يفكرون في إمكانية للانسحاب. هؤلاء أيضًا يبررون قتل المدنيين الإسرائيليين بحجة أنّ إسرائيل أيضا لا تحترم المدنيين الفلسطينيين.

السياسة الإسرائيلية

منذ شهر سبتمبر/أيلول من سنة 2000 كانت هاس قد طرحت سؤالا قد غدا أكثر أهمية الآن وهو: كيف ستتعامل إسرائيل بعد أن يتم انهيار إدارة الاستقلال الذاتي مع جماهير الفلسطينيين التي ستنضم إلى "الله وممثليه على الأرض ؛ حماس؟"، وها هو تحذيرها آنذاك من أنّ قوى الأمن الفلسطينية لن يكون بإمكانها أن تظل قادرة على التحكم في حماس إلى ما لانهاية قد غدا متحققا للأسف.

من يعتقد أنّ الحقد الذي يسود بين الإسرائيليين والفلسطينيين لا حدود له وأن ليس هناك من مستقبل موحد ممكن للشعبين فإنه سيجد نفسه يفاجأ شيئا ما هنا، وبصفة إيجابيّة. ليس فقط لأن بعض الإسرائيليين يواصلون إرسال أموال لعمالهم الفلسطينيين السابقين كي يتمكنوا من الانفاق على أنفسهم ريثما يصبح بإمكانهم أن يعودوا إلى العمل. فهناك أيضا الفلسطينيون من مخيم لللاجئين الذين يتعلمون العبرية طوع إرادتهم. معلمهم، وهو صحافي قد تعلم اللغة قبل سنوات في السجن يوضح بأنّ: "العربية والعبرية لغتان متقاربتان" ويذكّر بأن الإنجيل كتب باللغة العبريّة. أحد التلامذة، وهو رجل أمن، يشارك هو أيضا في هذه الدروس لأنه يعتقد بأنّ التعاون مع الإسرائيليين سيعود مجدّدا لا محالة.

بقلم إيغال أفيدان، قنطرة 2004
ترجمة علي مصباح

إيغال أفيدان، صحفي إسرائيلي الأصل مقيم في برلين