قصة نجاح وتملص من الرقابة
أربعة رجال يرتدون ملابس السجن الزرقاء، شعرهم أشعث وشائب وكذلك لحاهم؛ يجلسون في زنزانتهم ويحتسون الشاي. هذه الزنزانة ضوءها معتم، وجدرانها منسلخة. ومنذ عشرين عامًا يقبع هؤلاء الرجال خلف القضبان، وذلك لأنَّهم انتقدوا النظام. وأكبرهم هو كريم الذي يبقى مستلقيًا على سريره المعدني، حيث يحضر له الآخرون الشاي؛ لقد استسلم هنا إلى مصيره. وثم يتم فتح الباب الحديدي الثقيل، ويطلب الحراس من كريم بالذات أن يجمع أغراضه ويأتي معهم، إذ سيتم إطلاق سراحه.
يبدأ فيلم "الليل الطويل" صامتًا وتقريبا من دون أي موسيقى تكسر الصمت. ونشاهد كيف يغسل كريم نفسه وكيف يحلق ذقنه وشعره. وفجأة يجد نفسه واقفًا في الشارع، يرتدي قميصًا وبدلة ويحمل في يده حقيبة جلدية، يستنشق الهواء وينظر من حوله باستغراب. وهذا الفيلم من تأليف الكاتب والمخرج السوري هيثم حقي، الذي يعتبر من أشهر المخرجين السينمائيين في سوريا، وفيلمه هذا لا يركز مثلاً على ظروف الاعتقال في السجون أو الاعتقالات التعسفية وحسب؛ بل يسلط الضوء أيضًا على أفراد أسرة السجين المفرج عنه، الذين توصلوا الآن إلى تسوية مع النظام وأصبحوا متصالحين معه. والإفراج غير المتوقع عن كريم يجعل حياتهم في حالة مشوشة، ويوقظ فيهم تأنيب الضمير ومشاعر الندم.
ليل طويل
"ما يشغلني هو الدراما الإنسانية، والفيلم لا يعمل بالشعارات السياسية"، حسب قول هيثم حقي الذي كتب بنفسه سيناريو الفيلم. وبعدما وافقت الرقابة على هذا السيناريو، تمكَّن المخرج السوري البارز، حاتم علي من تصوير الفيلم مع ممثلين سوريين في سوريا.
ولكن عرض فيلم "الليل الطويل" في دور السينما السورية يحتاج في الواقع إلى موافقة أخرى. ويقول المؤلف: "أشاد المعنيون في الرقابة بالفيلم، ولكن بسبب موضوعه السياسي الحرج، أرسلوه إلى سلطة أعلى من أجل مراجعته والنظر فيه. لقد كان ذلك قبل نحو ستة أشهر. ومنذ ذلك الحين لم أسمع أي شيء".
ولكن في الحقيقة يعتبر تأثير الرقابة في عصر الفضائيات المعولمة محدودًا. ويقول هيثم حقي الذي أنتج هذا الفيلم لصالح شبكة أوربت Orbit السعودية للإنتاج: "المسألة مجرَّد مسألة وقت إلى أن يتمكَّن الجمهور السوري من مشاهدة هذا الفيلم". ويضيف حقي: "أوربت سوف تبث الفيلم قريبًا على قناة خاصة. وبعد ذلك سنقوم ببيعه لقنوات تلفزيونية أخرى، وهكذا سيتاح عرضه قريبًا في كلِّ مكان، وأيضًا في سوريا. ولا يمكن للرقباء إغلاق الكون". وحتى الآن تم عرض فيلم "الليل الطويل" ومنحه بعض الجوائز في العديد من المهرجانات السينمائية، مثلاً في القاهرة ودلهي وتاورمينا.
الاقتراب من المحظورات
وهيثم حقي مخرج صارم من الناحية السياسية. وبعد سؤاله عمّا إذا كان قد دخل السجن بسبب ذلك؟ يلوح بيده نافيًا ويقول: "لا، غير أنَّني أعرف الكثير من العائلات التي عانت من مآسٍ مماثلة". وهو لا يستحسن الأفلام التي تنشر رسالة سياسية مباشرة. ويقول إنَّ هذه الأفلام غير ممكنة في سوريا.
ويضيف أنَّ بعض النقَّاد العرب اتِّهموه بأنَّ فيلمه "الليل الطويل" لا يتخذ موقفًا واضحًا من الحكومة. وحقي الذي يعتبر نفسه اشتراكيًا ديمقراطيًا، يقول: "هذا لا يهمني. وأعمالي الدرامية الاجتماعية هي دائمًا سياسية، حتى وإن كانت لا تدو حول السياسة بشكل صريح. وإذا كنت تريد التشجيع على تغيير شيء ما، فبإمكانك عرض الأحوال السيئة في المجتمع. وهذا في حد ذاته عمل سياسي".
وقبل عشرة أعوام كانت الرقابة في سوريا أشد بكثير مما هي عليه الحال في يومنا هذا. ومع رئاسة بشار الأسد بعد وفاة والده حافظ الأسد في عام 2000، كانت توجد في البدء بوادر انتقال إلى عصر التحرّر. ولكن ما أصبح يعرف باسم "ربيع دمشق" لم يدم فترة طويلة. وتعلم الفنانون والكتاب والمخرجون كيفية التحايل على الرقابة وممارسة النقد، من دون تسمية الأشياء بأسمائها المباشرة.
ويقول حقي إنَّ هناك خطوطًا حمراء لا يمكن تجاوزها، ولكنها لا تكون دائمًا واضحة. وأحيانًا يمكن أن يتوقَّف إصدار قرار ما على مزاج أو طبيعة الموظف المسؤول في تلك اللحظة. وعلى العموم يتم في العالم العربي حظر هذه التابوهات الثلاثة: الجنس والدين والسياسة. "ولكن لا يمكن إنجاز أي فيلم من دون التطرّق على الأقل إلى هذه الموضوعات. وأنا أقترب دائمًا من هذه المحظورات وأحاول باستمرار توسيع مجال قبولها"، حسب قول هيثم حقي.
تنافس في صناعة الدراما
ومثلما هي الحال في مصر، يتم أيضًا في سوريا إنتاج الكثير من "المسلسلات التلفزيونية الشعبية" الرخيصة، ولكن بالإضافة إلى ذلك يوجد لدى سوريا تقليد يفتخر به من المسلسلات التلفزيونية التي تعرض في قصصها قضايا اجتماعية وتاريخ سوريا الحديث أو بعض القضايا العربية مثل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي أو الوضع في العراق، وتحظى من خلال ذلك بشعبية بين الجماهير.
ومنذ عام 1980 قام المخرج وكاتب السيناريو والمنتج هيثم حقي الذي يبلغ عمره واحدًا وستين عامًا، بإخراج العديد من الأفلام السينمائية والمسلسلات التلفزيونية التي تثير الكثير من الجدل على المستوى السياسي والاجتماعي، وكثيرًا ما انتظر طيلة أعوام الحصول على تصريح بعرضها. مثلما حصل على سبيل المثال في مسلسل "خان الحرير" الذي يتكّون من ثلاث وعشرين حلقة، وهو من تأليف الكاتب السوري نهاد سيريس وإخراج هيثم حقي. ولعامين كاملين احتفظت دائرة الرقابة بسيناريو هذا المسلسل، إلى أن صدر في آخر المطاف في عام 1996 إذن بتصوير المسلسل.
وتدور قصة هذا المسلسل حول الحب والتجارة في سوق حلب وتصوِّر النتائج السلبية التي نجمت عن اتِّحاد سوريا ومصر في الفترة من عام 1958 وحتى عام 1961. ويعتقد هيثم حقي أنَّ "هذا لم يعجب الحكومة. ولكن مع ذلك سُمح في النهاية ببث المسلسل وحتى في أفضل وقت للبث - في شهر رمضان، وحقَّق نجاحًا كبيرًا كما تم عرضه فيما بعد عدة مرات".
وبعد مسلسل "خان الحرير" تم إخراج أعداد متزايدة من المسلسلات التلفزيونية والأفلام السورية، التي حقَّقت نجاحًا كبيرًا خارج حدود سوريا في جميع أنحاء العالم العربي. وقد شكَّل هذا النجاح منافسة لصناعة السينما المصرية التي كانت حتى ذلك الحين مسيطرة على الأسواق العربية. "أدخلنا المنظور السينمائي إلى المسلسلات، وكنا نصوِّر بكاميرا واحدة فقط في مواقع خارج الأستوديو، وكنا نختار موضوعات جريئة"، مثلما شرح هيثم حقي الاستراتيجية الجديدة. وحتى ذلك الحين لم يكن يتم إنتاج المسلسلات التلفزيونية إلاَّ في داخل الأستوديو. "وهذا كان يبدو مثل المسرحيات المصوَّرة، ويجعل الناس يشعرون بالملل".
دعم مالي من قنوات فضائية عربية ليبرالية
وبالإضافة إلى إلهام وشجاعة المخرجين السوريين لعب أيضًا ظهور القنوات الفضائية في دول الخليج العربي منذ منتصف عقد التسعينيات دورًا كبيرًا في ازدهار المسلسلات السورية. وهذا يعني الآن الحصول على الكثير من المال. ويعتبر كلّ من إم بي سي وروتانا وأوربت من أشهر شركات الإعلام العربية التي تستثمر بقوة في إنتاج الأفلام والمسلسلات. ويقول حقي: "في السابق، عندما كان لا يوجد سوى القنوات المحلية في كلِّ قطر، كان يتحتَّم علينا بيع مسلسل ما إلى نحو عشرين قناة أجنبية، من أجل استعادة الأموال التي استثمرناها. واليوم يأتي القسم الأكبر من تمويل المسلسلات من شركات إعلامية في منطقة الخليج العربي، يملكها أمراء سعوديون أو رجال أعمال".
ويقول حقي إنَّ التدخّلات أو حتى ممارسة الرقابة من قبل المستثمرين تعتبر في المقابل قليلة جدًا. وفي البداية كانت هناك بعض المشكلات مع قوانين الآداب الصارمة في المملكة العربية السعودية، ولكن الآن ومنذ أن قامت معظم القنوات بنقل مقراتها إلى الخارج، أصبحت القنوات التي يديرها السعوديون هي القنوات الأكثر تحرّرًا في العالم العربي. ويضيف حقي قائلاً: "من يستثمر الكثير من المال يريد رؤية الأرباح، وهنا تأتي المسائل الإيديولوجية في المرتبة الثانية".
وهكذا لا شكّ في أنَّ مقصات الرقابة لم تعد تصل بنوايا سياسية إلى الموضوعات المرغوبة والمثيرة للجدل، بل على الأرجح نتيجة التنافس في فضاء الأقمار الصناعية غير المحدود. وخير مثال على ذلك فيلم "الليل الطويل"، مثلما يؤكِّد هيثم حقي.
سوزانه شاندا
ترجمة: رائد الباش
مراجعة: هشام العدم
حقوق النشر: قنطرة 2010
قنطرة
فرض الرقابة على الصحافة الالكترونية في سوريا:
"جهاز المخابرات شريك أسرة التحرير"
لا تؤثِّر الدولة في سوريا على وسائل الإعلام وحسب، بل تحاول أيضًا وبشكل متزايد مراقبة شبكة الانترنت وفرض سيطرتها عليها؛ حيث يتحتَّم على مَنْ يستخدم في سوريا مقاهي الإنترنت أن يبرز أولاً بطاقة هويته وأن يسجِّل بياناته عند مدخل المقهى. كريستين هيلبرغ تلقي الضوء على هذا النوع من الرقابة في سوريا.
الكتّاب والروائيون في سوريا:
إبداعات أدبية رغم عيون الرقابة الأمنية الأمنية
ينتشر أفراد المخابرات في سوريا في كل مكان مثلما ينتشر أفراد شرطة المرور في الغرب. ويتم تسجيل كل حركة وكلمة، لكن بعض الكتّاب يعتبرون ذلك تحديا خلاّقا ومبدعا ليعطون بالنكتة والفكاهة والخواطر لمحة من النظرة الأولى عن المجتمع والنظام السياسي. سوزانه شاندا تلقي الضوء على هذه المسألة
الروائية السورية عبير إسبر:
عبير إسبر....عبير الكلمة وسبر عالم المرأة
عن روايتها "لولو" حصلت الكاتبة السورية والناقدة السينمائية وكاتبة السيناريو عبير إسبر على جائزة حنا مينه الأدبية عام 2004. إسبر ترفض وصف "كاتبة نسائية" وتهدف في رواياتها إلى معالجة موضوعات جديدة ورائدة. ياسنا زاتشيك ترسم صورة للكاتبة السورية.