طريق مصر الطويل لتحديث الزواج
أستاذ كونو، تشير إلى أننا بدأنا نشهد تغيرات في مفهوم الزواج في مصر، مع نهاية القرن التاسع عشر. كيف حدث ذلك؟ وهل كان نتيجة التأثر ومحاكاة الأفكار الأوروبية. أم أنّ هناك أسباباً أخرى؟
كينيث كونو: لم يكن التغيير مدفوعاً بالكامل بالأفكار الأوروبية، لكنها كانت مهمة. الأمر الأساسي هو فهم ما فعله المثقفون المصريون بهذه الأفكار. إذ أنَّ ربط نظام عائلي معين بالتقدم "الحضارة" كان فكرة أوروبية في الأصل. أكَّد الأوروبيون أن الاختلافات بين نظام أسرهم ونظام أسر الآخرين هي سبب التفوُّق الأوروبي.
وقد اتبع المفكرون المصريون والعثمانيون هذا المنطق، وتبنَّوا الأفكار الأوروبية بشكل انتقائي من أجل تحقيق التقدم الاجتماعي. وبرَّروا هذه الأفكار -تعليم النساء وعدم تشجيع تعدُّد الزوجات والحد من الطلاق- عبر الرجوع إلى التاريخ والمصادر الإسلامية. على سبيل المثال عائشة بنت أبي بكر كانت متعلمة.
وفي الوقت ذاته مزجوا تلك الأفكار مع "علاقة النفقة والطاعة" في الزواج، المشتقة من الفقه الإسلامي. ولذلك أصف أيديولوجية العائلة المصرية الحديثة بأنها هجينة، وليست حالة من التغريب بالمعنى القديم للمصطلح.
انتشرت الأيديولوجية في وسائل الإعلام المطبوعة والأفلام وفي المناهج الدراسية، كقوة للتغيير بعد الحرب العالمية الأولى. قبل الحرب كانت العوامل الديموغرافية والسياسية أكثر أهمية. وقد قدَّمت عائلة الخديوي مثالاً عاماً عن الزواج الأحادي، والذي حاكته بقية مجتمع الطبقة العليا مع مرور الوقت. كما أدَّت نهاية العبودية إلى القضاء على أحد أشكال تعدُّد الزوجات ورفعت من مكانة المرأة بالمجمل. إضافة إلى ذلك كان التعليم الثانوي وما بعد الثانوي لرجال الطبقة المتوسطة والعليا، يعني تأخير الزواج، مما زاد من احتمالية تكوين أسر نووية. كما ارتفع سن الزواج في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين لأسباب نجهلها إلى الآن.
العلاقة بين الثروة وتعدُّد الزوجات
يشكِّك البعض بانتشار ظاهرة تعدُّد الزوجات في مدن المنطقة. فتعدد الزواج لم يكن شائعاً ولم يكن يُمارَس على نطاق واسع في مدن مثل دمشق مثلاً في القرن الثامن عشر. كما أشارت -مثلاً- مارغريت ميريويدز في كتابها عن حلب إلى أن تعدُّد الزوجات لم يكن مُحبّباً هناك خلال الفترة ذاتها.
هل كانت ظاهرة تعدّد الزوجات منتشرة في مصر في القرن الثامن عشر والنصف الأول من القرن التاسع عشر، أم أنها مورِسَتْ ضمن فئات محدَّدة فحسب؟ وما أسباب ذلك؟
كونو: لا نملك بيانات إحصائية مجمعة حول تعدُّد الزوجات في مصر قبل الفترة البريطانية. فتعدادات عامَيْ 1848 و1868 -والتي شملت في مصر النساء- أشارت إلى إِنْ كانت المرأة متزوجة وبمَنْ ولكنها لم توضح إِنْ كانت النساء من العبيد محظيات، وأنا أُدرِجُ المحظيات ضمن نظام تعدّد الزوجات. وقد أظهرت سجلات التعداد السكاني للقرية التي فحصتها، وجود علاقة بين الثروة وتعدُّد الزوجات. فأرباب الأسر المتعددة الكبيرة -والتي كانت تمتلك دائماً أكبر مساحات من أراضي القرية- غالباً ما كان لديهم زوجات متعدِّدات (بعقود زواج). بلغت تجارة العبيد ذروتها في ستينيات القرن التاسع عشر وامتلك القرويون الأغنياء عبيداً. ومن المحتمل أن يكون اتِّخاذ المحظيات قد زاد في ذلك العقد نتيجة لذلك.
أما تعدُّد الزوجات في الطبقة الحاكمة، فقد كان جزءاً من نظام التكاثر في الأسر الخديوية والإمبراطورية. كما كان وسيلة لإظهار الفخامة والعظمة، الأمر الذي أعطى الحكام شرعية. قلَّدَتْ الطبقات العليا الحكام ولذلك نرى أيضاً ظاهرة تعدُّد الزوجات في تلك الطبقة الاجتماعية. وهذا ما نراه -على سبيل المثال- في دراسة نللي حنا الشاهبندر القاهرة في القرن السابع عشر. كما ذكر محمد عفيفي في دراسته حول الأقباط في القرن الثامن عشر أنَّ الأقباط الأثرياء مارسوا الزواج التعدُّدي، كما فعل الرجال اليهود الأثرياء.
وادَّعى مفكر القرن التاسع عشر علي مبارك أنَّ ظاهرة تعدُّد الزوجات دخلت مصر عن طريق الأتراك. وقد كان مُخطِئاً في ذلك، بيد أنها كانت وسيلة للادعاء بأنَّ هذه الظاهرة ليست متأصِّلة في الثقافة المصرية.
توافقت النتائج التي توصَّلت إليها مارغريت ميريويذر مع نتائج نللي حنا، والتي تتمثَّل في أنّه على الرغم من ممارسات الطبقة الحاكمة والطبقة العليا، فقد كرهت النساء بشكل خاص تعدُّد الزوجات وأصرَّت العديد من العائلات على وجود شروط في عقد الزواج من شأنِها ردع الرجل من اتخاذ زوجة ثانية أو محظية. وأعرف أنَّ "تفويض الطلاق" أمر شائع في الأوساط المتعلمة في مصر اليوم.
في أوائل القرن العشرين، كان حوالي 6% من الرجال المتزوجين متعدِّدي الزوجات، وتناقصت النسبة بعد ذلك. وفي أيامنا هذه، تُعتَبر ظاهرة تعدُّد الزوجات ممارسة متخلِّفة وتُصوَّرُ على هذا النحو في الروايات والأفلام.
هل الحب في أوروبا كالحب في مصر؟
فنلندي وألماني وسويسري – ثلاثة باحثين في علم أعراق الشعوب (الإثنولوجيا) قاموا بدراسة قواعد الحب في مصر. والنتيجة البارزة التي توصلوا إليها هي أن الحب في بلاد النيل نوعٌ من الهوس. كما أنه معقد بالفعل. إيريس موستيغيل تسلط الضوء لموقع قنطرة على الحب والعشق والغرام في مصر.
دور المرأة كمقدمة للرعاية ومعلِّمة
أشرتَ إلى بروز أيديولوجية العائلة الجديدة. كيف ظهرت هذه الفكرة في مصر وأثَّرت لاحقاً في نمط الزواج؟
كونو: ظهرت بدايات أيديولوجية العائلة الجديدة في كتابات المثقفين التحديثيين مثل رفاعة الطهطاوي وعلي مبارك ونظرائهم العثمانيين. وقد طُوِّرت من قِبَل مفكرين لاحقين مثل محمد عبده وقاسم أمين. بالنسبة لهم تمثَّلت وظيفة الأسرة النواة في تكوين شخصية الشباب الذين سيتقدَّمون بالمجتمع وبالأمة. وهكذا أُكِّد دور المرأة بوصفها مقدمة رعاية ومعلمة مبكِّرة، إضافة إلى أهمية تعليم المرأة لتحضيرها لهذا الدور. وباستثناء جزئي لقاسم أمين لم يتصور أي من هؤلاء الرجال استخدام النساء لتعليمهن من أجل كسب لقمة العيش. بالنسبة لهم كان الهدف الوحيد لتعليم المرأة إعدادها لدورها المنزلي. وقد اشتهر الطهطاوي بدعوته إلى تعميم التعليم للفتيات وللفتيان، بيد أنه كان واضحاً للغاية في أنَّ تعليم الفتيات ينبغي أن يكون مقتصراً على المرحلة الابتدائية.
في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين، نشرت الدوريات الشعبية مقالات لنساء حول إدارة الأسرة والتي توسِّع من نطاق الواجبات المنزلية للمرأة المتزوجة. وكان هذا الخطاب ظاهرة عالمية؛ إذ تضمنت دوريات هندية في العصر ذاته مقالات إرشادية مماثلة. كما كانت هناك في مطلع القرن، حملة دولية ضد زواج الأطفال وانعكس ذلك في تحديد الحد الأدنى لسن الزواج في مصر في عام 1923. ولكن -كما ذكرتُ سابقاً- لا أرى أنّ أيديولوجية العائلة الجديدة أصبحت مهيمنة إلا بعد الحرب العالمية الأولى. وقد انتشرت بعد ذلك مع تطوُّر وسائل الإعلام المطبوعة، وفي السينما ولاحقاً في التلفاز، وعبر المناهج الدراسية كذلك. ويمكن القول إنَّ نهاية هذا التحول قد تمثَّلت في زفاف الملك فاروق وفريدة في عام 1938، والذي كان حدثاً عاماً قدمهما بوصفهما زوجين رومانسيين حديثين. وخصَّصت مجلة المصور عدداً خاصاً للزفاف.
مفاهيم زواج جديدة
تلفت النظر في كتابك إلى دور محمد عبدة وزميله قاسم أمين في صياغة أفكار جديدة تتعلق بالزواج. ما الذي دفع إلى ذلك؟
كونو: نشأ محمد عبده في عائلة متعدِّدة الزوجات وعلى ما يبدو فقد وصل من تلك التجربة إلى قناعة بأنَّ تعدُّد الزوجات مدمِّرٌ لحياة عائلية مستقرة. الطهطاوي وآخرون لم يشجعوا تعدُّد الزوجات، على الرغم من الآية القرآنية (الآية الثالثة من سورة النساء) التي تسمح بتعدُّد الزوجات، مبررين ذلك بأنّ الرجال في العصر الحديث ليسوا فاضلين كما كان الرجال في عهد النبي محمد، ولذلك لن يتمكنوا من أن يعدِلُوا بين الزوجات المتعدِّدات، كما أمرت الآية ذاتها. وذهب محمد عبده إلى أبعد من ذلك، فأعاد تفسير الآية 129 من سورة النساء "وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ" لتصل إلى شبه التحريم لتعدِّد الزوجات. اقترح أن يقتصر تعدُّد الزوجات على الحالات التي يستطيع الرجل فيها إقناع القاضي بأنَّ زوجته لا تستطيع الإنجاب وبأنَّ لديه الإمكانيات لإعالة زوجة إضافية. وقد حاول النشطاء في مجال حقوق المرأة مراراً وتكراراً إدراج ذلك في قانون الأحوال الشخصية المصري، ولكن من دون جدوى.
من جانب آخر، فاتت أجيال من المعلقين حقيقة أن كتاب قاسم أمين "تحرير المرأة"، يدور بشكل رئيسي حول المرأة في العائلة. وهو يكرِّر الحجة التي تقول إنَّ تعليم النساء هو منفعة اجتماعية لأنَّ ذلك يجعلهن أفضل في تربية الأطفال، وأفضل في إدارة الأسرة ورفيقات أفضل لأزواجهن. كما قال أيضاً بأنَّ تعليم المرأة سيمكِّنها من كسب لقمة عيشها إن كانت مطلقة أو أرملة أو هجرها زوجها، وتفتقر إلى الموارد اللازمة لإعالة نفسها وأطفالها. وهو أول مثقف ذَكَر يوافق على عمل المرأة، وإن كان ذلك في حالة غياب معيل ذكر فحسب. تَرَكِّز الجدل حول وجهة نظره التي تقول إنَّ تعليم المرأة لن يكون كافياً ما لم تتمكن من التواجد في الأماكن العامة من أجل أغراض قانونية وأعمال تجارية وتعليم. وقد استشهد بالفقه الإسلامي الذي يسمح بتواجد المرأة في الأماكن العامة والاختلاط مع رجال أجانب مع كشف أيديهن ووجوههن لغرض عفيف. وكان الجدل بسبب حساسية الحجاب، الذي كان محور انتقادات غربية. إذ اتُّهِم قاسم أمين بأنه كان يكرِّر هذه الانتقادات فحسب، بيد أنه كان يوسِّع الحجج التي قدَّمها المثقفون الإصلاحيون السابقون.
كما كتبت النساء عن الزواج والعائلة. ملك حفني ناصف -المعروفة بالاسم المستعار "باحثة البادية"- كانت معلمة مدرسة قبل زواجها، بينما كانت زينب فواز صحفية. ولقد أيدن الأيديولوجية المنزلية مع التأكيد على أنه بإمكان المرأة إدارة الأسرة بينما تعمل. وقد أظهرت وجهات نظرهن، السذاجةَ أحياناً في وجهات نظر المثقفين الذكور حول المرأة.
تهاوي النظام الذكوري العربي؟
حال نساء بلدان عربية عديدة بالنسبة للمساواة يبدو غير جيد، نظرا لقوانين تميز ضد المرأة ولا تتوافق مع معاهدات دولية وقعت عليها هذه الدول نفسها. لكن التقاليد الأسرية صارت تتغير. استكشاف منى نجار.
ظهور الحب الرومانسي كعامل من العوامل
تشير إلى أنه بحلول الحرب العالمية الأولى ظهر الحب كعامل من عوامل اختيار شريك الزواج. هل تمكن هذا العامل من فرض نفسه؟ وأَما زالت هناك عوامل أخرى في اختيار الزوجة في مدينة كالقاهرة؟
كونو: يمكن العثور على موضوع الحب في القصص الشعبية التي نُشِرَت في مطلع القرن العشرين تقريباً. وبالطبع يُعَدُّ الحبُّ موضوعاً كبيراً في الأفلام ومن ثم في المسلسلات. بيد أنها لا تعكس الواقع، مثل دور الحب في روايات جين أوستن. على نقيض ذلك تأتي الدراما من واقع الأعراف الاجتماعية والتوقعات العائلية التي تجعل الزواج عن حب أمراً صعباً. تشير الدراسات وملاحظاتي الشخصية غير العلمية -في أواخر القرن العشرين- إلى أنَّ المصريين ما زالوا يعتمدون على العائلة والأصدقاء لجمعهم مع شركاء زواج مناسبين. والعائلات تتدخل. فمن مصلحة العائلة أن يتمتع أبناؤها بزواج ناجح، ليس فقط من أجل سعادة الأبناء ولكن أيضاً بسبب العواقب المالية الوخيمة للطلاق. كما تشارك العائلات في مفاوضات الزواج، لأنَّ الزواج هو مناسبة تنتقل فيها ثروة معتبرة. ولهذا كان الناس -وما زالوا- منزعجين من ظاهرة الزواج العُرفي. ولا تزال الفكرة القائلة بوجوب إشراك العائلة في اختيار شريك الزواج لأبنائها منتشرة على نطاق واسع. أما الحب والالتزام فمن المتوقع أن يتطورا بمرور الوقت في العلاقة.
حاوره: محمد تركي الربيعو
ترجمة: يسرى مرعي
حقوق النشر: موقع قنطرة 2024