هندسة معمارية جديدة تصلح للأغنياء والفقراء
كان حسن فتحي يؤمن بالمسؤولية الاجتماعية للمهندس المعماري وكرس حياته لها. وقد أنفق كل ما اكتسبه، من بناء العديد من الفيلات الفاخرة لعملائه الأغنياء، في بناء بيوت وقرى للفلاحين الفقراء. وكان هؤلاء هم الزبائن الذين خدمهم بالفعل، حيث يقول عنهم:
"إن الزبون الذي كان يهمني يظهر كنموذجا بين الـ 800 مليون الذين تقول عنهم الاحصائيات أن البشر في العالم الثالث مكتوب عليهم الموت مبكرا لأنهم يعيشون تحت ظروف سيئة. وهذا هو الزبون الذي يجب على المهندس المعماري خدمته، ولكن المهندسين المعماريين لا يعيرون هؤلاء الفقراء اهتماما. فهم مثل الأطباء الحفاة في الصين، والفقراء يحتاجون أيضا إلى مهندسين معماريين حفاة".
عمارة من الطوب
ولد حسن فتحي في الاسكندرية عام 1900، وتُوفي عام 1989، ويعد أشهر المهندسين المعماريين المصريين في القرن العشرين. ولا يكاد يكون معروفا في ألمانيا، ولم يكن مرغوبا فيه مدة حياته في بلده، ولكن بعد خمسة وعشرين عاما من وفاته نجد الذين عرفوه ما زالوا شغوفين به وبقدراته الخارقة وحسه المعماري.
إن عمارة حسن فتحي كانت غالبيتها فقط من الطوب اللبن، وكانت على قدر عال من الجمال والتصميم المعماري الذي يشبه النحت، والأسقف المتينة، والفناءات الأنيقة، والنوافذ ذات القضبان التي تسمح بدخول أشعة الشمس. وقد أعطى الأبنية نوعا من الحيوية من خلال النوافذ الزجاجية أو الخشبية التي تتحكم في الضوء الداخل إلى الباحات والفناءات، كما في المدارس والجوامع والمسارح والأسواق والمصانع.
وأشد ما يعجب المشاهد الأوروبي من تصميمات المهندس فتحي المعمارية أشكالها الكبيرة المجردة، التي تبدوا في ظاهرها غريبة ومثيرة. فالطين يساعده على تشكيل المعالم الانسيابية وتموّج خطوط ذات جاذبية حساسة. ويكمن وراء ذلك يقينه بأن "طريق القواعد مستقيم وطريق الجَمال متعرج".
وقد اتبع هذا المبدأ في أحد مشروعات القرى الرائعة المسمى "القرنة الجديدة"، حيث خرج عن القواعد الهندسية المحكمة ورسم شوارع منسابة وحارات منحنية برقّة. وبهذا خلق جوا مليء بالزوايا الجديدة للرؤية أثناء التجول فيها.
التراث الفرعوني وقدسية المكان
وكانت أهم انجازات المهندس حسن فتحي هي إعادة استخدام طريقة البناء التقليدية بالطوب اللبن – التي أصبحت مبادئها في طي النسيان - في فن العمارة المصرية الحديثة. واستطاع عن طريق الاستعانة ببنائين من النوبة أن يحيي عصر النهضة في تقنية بناء البيوت بالطوب اللبن وتسقيفها بالقبب والأقبية، وطبقها في مشروعات في مصر والسعودية والهند واليونان.
ومن القرى رفيعة المستوى التي بنيت بالطوب اللبن "قرية دار السلام" في نيومكسيكو بالولايات المتحدة الأمريكية. وهذه القرية المنخفضة في مقابل ساتر الجبال الشاهقة تعتبر أفضل برهان على قوة تحمل التقنية المعمارية للمهندس فتحي إذا ما طبقها الانسان وأحبها واعتني بها.
وأخفقت مباني المهندس فتحي في مصر لأن السلطات امتنعت عن التعاون معه، واعتبر زملاؤه - الذين تربوا في أوروبا وكانوا على علم بما يسري في العالم – فنه المعماري رومانسي وغير ملائم للعصر. أما زبائنه فكانوا في سبات وغير مؤهلين لاستيعاب أفكاره الحديثة.
إهانة في الوطن
لقد اعتبر المهندس فتحي - الذي ينتسب إلى عائلة عريقة - نفسه عضوا في سلسلة طويلة من المعماريين الذين تأصلوا في الاسلام وملزمون بالحفاظ على تقاليد البناء العربي. وهو من محبي جميع البلدان والشعوب، حيث يرى أن العالم كله وطنه، وأصبح معلما روحيا يوقره الناس. ولكن أستاذ المعمار المصري هذا - الذي أثرى فن البناء العربي - لم يحظ في بلده إلا بالإهانة والرفض.
وعلى الرغم من أنه درس الهندسة المعمارية في القاهرة بأسلوب غربي، إلا أنه لم يستطع – مثل الحضارة الأوروبية الحديثة – أن يقطع علاقته بالماضي كلية، ولم يكن على اقتناع بوجود طراز معماري عالمي. وقد كان المعمار بالنسبة له مرتبطا بالمكان والتقاليد وليس منتجا موحدا ولا بالكمية.
وكان كمهندس معماري يعتبر نفسه مرصدا للزلازل، وليس هو الذي يجد التصميم المعماري، بل الأماكن والمعايير والنسب هي التي تجده. ويقول: "توجد عند الفراعنة هندسة مقدسة، والأماكن لها أثر شافٍ، وهذه أسرار لا بد من استعادتها".
ولم تكن أبنية المهندس فتحي هي أهم إنجازاته فحسب، بل وأيضا قدرته على صياغة الصور والخيالات وعلى احتضان مبادئ البناء المصرية التي تبلغ من العمر قرونا وأن يظهر التقاليد التي كانت موجودة ولم تحظ بالاعجاب بعد.
وتظهر في نقوشه الرائعة – التي استخدمها بدلا من الرسومات الهندسية – اقتباسات من علم الآلهة عند قدماء المصريين إلى جانب البيوت المكعبة الشكل عديمة الجمال. فنجد قرية "القرنة الجديدة" يحرسها حتحور على شكل بقرة وأوزيريس على شكل شجرة جميز.
عمارة الفقراء
وكان حسن فتحي في حياته محام صبور ودؤوب مع الفقراء، ولا يرجع هذا لأنه كان يعتبر أبنيته المعمارية كفنّ بنائي اجتماعي فقط، بل لأنه كان مقتنعا أن المعمار يساعد على تحسن ظروف المعيشية للبشر، ويقول: "في البيت الجميل تجد الأرواح الفرصة للنمو والتحلق في السماء."
وقد صاغ في كتابه "عمارة الفقراء" الذي صدر عام 1969 قواعد يوجهها لكل مهندس معماري، حيث يقول: "لا ينبغي النظر إلى التصميم المعماري للفقراء على أنه علاج من مرض خطير. إن الموضوع يدور حول هندسة معمارية جديدة تصلح للأغنياء والفقراء على السواء، ومن المؤسف أن يحرم الفقراء من مزايا الجمال، لأن الفقر يرتبط في أذهان الناس بالقبح، وهذا من الخطأ. فكلما كان المشروع رخيصا، كلما تطلب عناية فائقة بما يوحي بالجمال".
بقلم إنغبورغ فلاغة
ترجمة عبد اللطيف شعيب
صدر المقال في صحيفة فرانكفورتر روندشاو
حقوق طبع النسخة العربية قنطرة 2005