الهولوكوست وأزمة الشرق الأوسط
هناك علاقات "ذات نوعية خاصة" بين ألمانيا ودولة إسرائيل تعود أسبابها كما هو معروف إلى النظام النازي وما ارتبط به من اضطهاد لليهود. ويكاد يبدو كما لو كانت هناك أيضا علاقات "ذات نوعية خاصة" بين ألمانيا وبين فلسطين التي لم تكتمل بعد مقوماتها كدولة.
تتسم العلاقات الثنائية في العادة بكونها تتحدد وتترتب جوهريا بناء على اختيار حر من قبل الدولتين المعنيتين على الرغم من وجود معطيات عامة للاعتماد المتبادل على المستويين الإقليمي والدولي. أما في حالة العلاقات الألمانية الفلسطينية فإن الحال يختلف عن ذلك، حيث أن العنصر الخارجي لا يتواجد هناك بصورة استمرارية فحسب، بل إنه يحدد أيضا وعلى نحو رئيسي طبيعة هذه العلاقات.
وهنا ينبغي أن ندرك بأن فلسطين قد أعيد احتلالها مجددا وعلى وجه شبه كامل من قبل إسرائيل، كما أنها تخضع تماما لسيطرة إسرائيل العسكرية والاقتصادية والإقليمية. هذا الأمر يعقد البنية السياسية لعلاقة ألمانيا بفلسطين ويجعلها أكثر صعوبة من علاقة ألمانيا الثنائية مع أية دولة أخرى.
فقد ذكر وزير الخارجية الألماني يوشكا فيشر على سبيل المثال في كلمة ألقاها أمام مؤتمر عقدته مؤسسة هينريش بول التابعة لحزب الخضر في برلين في 25 مايو 2004 بأن خريطة الطريق (مبادرة السلام الصادرة عن الأطراف الأربعة أي الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا) ما زالت قائمة، هذا على الرغم من تصدع الأوضاع في رفح وقرب انتهاء بناء الجدار المسمى في إسرائيل "السور الأمني"، كما اتهم فيشر الفلسطينيين بالنزوع إلى "التشاؤم".
من ناحية أخرى فإن ألمانيا تكاد أن تصبح في حال من رقص على الحبال، حيث أنها تسعى إلى التوفيق بين علاقاتها الخاصة مع إسرائيل وحرصها على تبوء موقع أخلاقي وسياسي واقتصادي تجاه الفلسطينيين يتمشى مع وزنها وأهميتها. كانت السياسة الألمانية تجاه الشرق الأوسط في عهدي المستشارين أد يناور وايرهارد يحكمها في المقام الأول مبدأ "الالتزام الأخلاقي" تجاه الدولة العبرية.
أما بعد عهديهما فقد ازدادت توازنا وتعددية في الرؤية، هذا وإن لم تتخل حتى الآن عن إعطائها الأفضلية للمواقف والمصالح الإسرائيلية. في نفس الوقت تحتل ألمانيا لا داخل الاتحاد الأوروبي فقط بل على المستوى العالمي أيضا مرتبة المانح الأول للمناطق الفلسطينية.
ففي الفترة الواقعة بين 1994 و1998 وحدها نالت المناطق الفلسطينية من الاتحاد الأوروبي مساعدة مالية مقدارها 1،5 مليار يورو، وقد بلغت مساهمة ألمانيا فيها 25%. تأتي بالإضافة إلى ذلك مساهمات ألمانية أخرى في الإطارين الثنائي والإنساني.
تحولات إيجابية
كان "الفلسطينيون"،إذا جاز هنا استخدام هذا التعبير تعميما، ينظرون نظرة شك وريبة في الماضي إلى المواقف الخارجية لألمانيا فيما يتعلق بإسرائيل كما اعتبروا العاصمة السابقة بون "معقلا من معاقل الصهيونية والإمبريالية الجديدة".
وعندما ظهرت معالم تحول في السياسة الألمانية تجاه الشرق الأوسط ابتداء من عهد المستشار شميت ووزير خارجيته غنشر رأى الفلسطينيون في ذلك مؤشرا إيجابيا لتقييم ألمانيا للنزاع القائم في الشرق الأوسط على نحو متوازن. لكنهم ظلوا يتمسكون في نقدهم القائل إن ألمانيا تتخذ حيال هذا النزاع موقفا متحيزا مع إسرائيل.
الكثيرون منهم لاحظوا بخيبة أمل بأن وزير الخارجية الحالي يوشكا فيشر، على الرغم من جهوده الصادقة لتسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي على نحو دائم،إلا أنه يعمد كثيرا في معرض تقييمه لدائرة العنف لدى الطرفين إلى إدانة "الإرهاب" الفلسطيني، بينما يستخدم في حالة العنف الصادر عن إسرائيل عبارة "الهجمات المضادة" التي توحي بأن هذه العمليات أقل وقعا وأن لها ما يبررها.
هذا يدل على وجود قدر كبير من التحيز لديه. وكان الكثيرون من الفلسطينيين سيقدرون للوزير فيشر رؤيته النابعة من روح التوازن والعدل لو لم يعمد إلى التخفيف من وقع أعمال العنف الإسرائيلية ضد الفلسطينيين ولو لجأ بالإضافة إلى إدانته المشروعة للهجمات الفلسطينية ضد مدنيين إسرائيليين إلى تسمية إجراءات العنف الإسرائيلية بما يتمشى مع محتواها ومفعولها.
فقتل الأبرياء المدنيين والاغتيال المتعمد للفلسطينيين حتى الضالعين منهم في أعمال العنف من قبل إسرائيل يشكلان في نظر العديد من المراقبين الدوليين المستقلين بل وفي نظر أغلبية أمم العالم انتهاكا للقانون الدولي ونمطا من أنماط إرهاب الدولة ينبغي إدانتهما.
سوء فهم التاريخ
سوء الفهم والتقييم أمر لا يقتصر بالتأكيد على طرف واحد فقط، فبعض السياسيين والصحفيين في ألمانيا يوجهون على حق اللوم للكثيرين من الفلسطينيين وغيرهم ممن يعمدون في بعض الحالات إلى تهميش وقائع هولوكوست الدرامية (المحرقة الكبرى).
هذا التهميش لا يضاهي التيار اليميني في ألمانيا وأوروبا الذي ينفي تماما حدوث تلك الوقائع، ولكن المقصود من وراء ذلك أن الجانب الفلسطيني كثيرا ما انتقد وأنكر مشروعية تأثير تلك الوقائع التي حدثت قبل عقود عديدة على علاقة ألمانيا حتى يومنا هذا بكل من اليهود وإسرائيل.
يمكن بسهولة تفنيد هذا الاعتراض نظرا لكون هذا الموضوع يتعلق بفصل من التاريخ يمس على نحو مباشر علاقة ألمانيا باليهود وليس بالفلسطينيين أنفسهم. من ناحية أخرى فإن من حق الفلسطينيين أن يتحسسوا الغضب والاستياء لكونهم يتعرضون لسوء المعاملة من الناحية السياسية بل والناحية القانونية في الكثير من الحالات بسبب أحداث لا يتحملون مسؤوليتها على الإطلاق. فالتحيز في حد ذاته شكل من أشكال سوء المعاملة والتمييز.
هناك فلسطينيون كثيرون آخرون يطرحون ملف التاريخ الألماني الحديث بصورة أكثر فطنة وأوسع أفقا. فهم لا يقللون من وزن المحرقة الكبرى ومفعولها بالنسبة للعلاقة بين ألمانيا واليهود ولا يعتبرون ذلك على الإطلاق محض حدث تاريخي عابر.
لكنهم يطالبون ألمانيا كما هو الحال لدى بعض الفلاسفة الأخلاقيين الألمان بالعمل بمبدأ الالتزام الأخلاقي تجاه الفلسطينيين أيضا بحجة أن الشعب الفلسطيني هو الضحية الكبرى لإنشاء دولة إسرائيل وبحجة أن ألمانيا هي أحد الأطراف التي تسببت في إنشاء دولة إسرائيل، فلولا وقوع المحرقة الكبرى لما تم إنشاء إسرائيل على هذا النمط وبتلك الدرجة من السرعة. من الضروري أن ندرك هنا بأن هذه الحجة تحتوي على مطالب بالمفاهيم الأخلاقية لا المادية.
يطالب الفلسطينيون قبل كل شيء بإزالة التشنج المهيمن على العلاقة الألمانية الفلسطينية. هذا يعني في الإطار السياسي الرغبة في تعامل الجهات الألمانية الرسمية خاصة معهم بروح الانفتاح وبعيدا عن لغة البيانات الفارغة المحتوى.
كما أنه يعني ابتعاد الدولة وأجهزة الإعلام والرأي العام عن لغة "الصواب السياسي" political correctness كلما تطّلب الأمر إعطاء تقييمات نقدية للسياسة الإسرائيلية فيما يتعلق على سبيل المثال بالمستوطنات وإغلاق المناطق الفلسطينية وتدمير مئات المنازل.
بالإضافة إلى ذلك يطال الفلسطينيون بإنشاء علاقات "ذات نوعية خاصة" بين ألمانيا ودولة فلسطين مستقبلا، ولكن بالمفهوم الإيجابي لا المتشنج كما هو الحال في الوقت الراهن. فهم يتوقعون من ألمانيا التي تدعمهم ماليا أكثر من أي جهة مانحة أخرى أن تحث شركاءها في أوروبا والعالم كله إلى تقديم مساعدات جوهرية فعالة لدولة فلسطين في المستقبل.
رؤية مستقبلية
لا شك أنه من الصعب إقناع الجهات السياسية والرأي العام في ألمانيا بمشروعية وجدوى إنشاء علاقات "ذات نوعية خاصة" بين ألمانيا ودولة فلسطين في المستقبل. ولكن من المؤكد أيضا أن وجود علاقات خاصة لألمانيا مع طرفي النزاع الفلسطيني الإسرائيلي من شأنه تكريس سياسة متوازنة وبالتالي فعالة لألمانيا تجاه منطقة الشرق الأوسط.
قد يبدو ظاهريا بأن وجود علاقات خاصة مع طرفي النزاع هو من قبيل تربيع الدائرة من الناحيتين الفكرية والعملية. أما في واقع الأمر فإن التفكير بذلك يشكل خطوة نحو الطريق السليم، فاتباع هذا النهج يخلق العوامل المناسبة لمساهمة ألمانيا والاتحاد الأوروبي بناء على رغبة المجموعة الدولية في تحقيق السلام والاستقرار والرخاء الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط بكاملها.
بقلم عارف حجاج، قنطرة 2004
عارف حجاج مؤسس منتدى فلسطين في ألمانيا