إعادة إنتاج خطاب معادٍ للنساء؟

رجل وامرأة يظهران وسط أضواء خافتة.
أعمال أدبية لا تنضب: لا تزال قصة "كارمن" تٌعرض على المسارح حول العالم. (Photo: Copyright for Eltaliaa Theater/facebook)

خطفت مسرحية "كارمن" المقتبسة من رواية الأديب الفرنسي بروسبير ميريميه، أنظار الجمهور والنقاد أثناء عرضها في القاهرة. ورغم أن الرواية الفرنسية أبرزت كارمن كامرأة متمردة حرة، إلا أن المسرحية المصرية جاءت على العكس من ذلك.

الكاتبة ، الكاتب: رحاب عليوة

لأكثر من 3 أشهر، يتواصل عرض مسرحية "كارمن"، على مسرح "الطليعة"- أحد مسارح الدولة الرسمية في القاهرة-، وسط إقبال جماهيري ملحوظ، وإعجاب سواء بالديكور أو الرقصات أو ربما الحكاية بأكملها، إذ تدور أحداث مسرحية "كارمن" المقتبسة عن رواية الأديب الفرنسي بروسبير ميريميه (صدرت عام 1845)، في نفس زمان ومكان الرواية الأصلية، إسبانيا إبان عام 1820.

لكن المسرحية التي أخرجها ناصر عبد المنعم، وكتبها محمد علي إبراهيم، بدت امتدادًا لرؤية ذكورية تؤطر النساء في مصر، وتلصق بهنّ إخفاقات وعنف الرجل بتحميلهنّ "كل الخطايا"، واعتبارهنّ "الشيطان الأكبر".

تحكي رواية ميريميه، عن "خوسيه" قاطع طريق، وهو ضابط سابق في الشرطة الإسبانية، يقع في حب الفتاة الغجرية "كارمن" التي تبادله الحب بشدة، قبل أن تضجر من محاصرتها بحبه، وتعشق آخر. وحين يعلم "خوسيه" يضعها أمام خيارين؛ إما أن تنتقل للعيش معه في مكان آخر أو أن يقتلها، فتفضل "كارمن" أن تُقتل على أن تفقد حريتها. والغجر مجموعة عرقية تعود أصولها إلى جنوب آسيا، خاصة شبه القارة الهندية، ويشتهرون بحياة الترحال وعاداتهم الفريدة ولغاتهم المتنوعة حسب المنطقة. 

وعلى عكس الشخصية المتمردة الحرة بالرواية، تظهر كارمن في القاهرة؛ مفتقدة لأي مشاعر حب حقيقية، ودون مبادئ ترتكن إليها أفعال الشخصية التي تؤديها الفنانة الشابة ريم أحمد، التي تعتمد على الخداع وإغواء الرجال لتنفيذ أهدافها. يتجسد ذلك بوضوح حتى في تصميم الرقصات، التي على جودتها وتنوعها، تحمل قدرًا ملحوظًا من "الشراسة" و"العصبية" لدرجة تصل أحيانًا إلى "التشنج". 

تمضي أحداث المسرحية الحديثة بالقاهرة، وكارمن تتلاعب بـ"خوسيه"، في البداية أوقعت به حتى يساعدها على الهرب، وترد له الدين بعلاقة حميمية، تكررها مقابل أن يساعدها على تهريب البضائع.

فتيات في أزياء راقصة يلوحن بأيديهن.
عرض راقص من مسرحية "كارمن" التي تقوم بدورها الفنانة ريم أحمد خلال عرض المسرحية، مايو/أيار 2025. (Photo: Copyright for Eltaliaa Theater/facebook)

تجاهل الحرية

رغم أن كارمن في الرواية الأصلية تمجد الحرية، التي صنعتها بنفسها لا هبةً من أحد، فإن النص المسرحي لا يذكرها (الحرية) سوى على نحو مبتذل، ومرتبطة بالرجال.

يقول "خوسيه" عن كارمن والغجر في الرواية الأصلية: "الحرية لدى أبناء جنسها هي كل الحياة، فلا يتردد الفرد منهم في أن يحرق مدينة بأسرها ليتفادى السجن، ولو كان سجنه ليوم واحد". وفي مقطع آخر تقول كارمن: "إنني لا أقبل الخضوع لأحد، كل ما أريده في دنياي أن أعيش حرة، وأن أفعل كل ما يروق لي فعله، فلا تبالغ في بسط سيطرتك عليّ".

في العرض المسرحي بالقاهرة، لم تُذكر الحرية إلا مرتين فقط، ولم تكن أي منهما على لسان كارمن. يروي غارسيا، زوج كارمن الغجري، قصة نجاته من القتل خلال أول عملية سطو قام بها، حين ترك ندبة في وجه صاحب القافلة، لكن الأخير عفا عنه وقال له: "لكل حرية ثمن". كانت هذه العبارة تحمل رسالة تحذيرية تُنفر من فكرة الحرية بدلاً من تمجيدها.

وفي موضع آخر يقول خوسيه: أنا من حررتها (كارمن) ودفعت الثمن"، في تجسيد للصورة النمطية الذكورية من أن الأنثى لا بد أن يحررها رجل، وأنه سيدفع الثمن في النهاية. 

لم يقتصر تغيير قصة المسرحية على نص الحوار بالرواية فقط، بل امتد للأحداث أيضًا. ففي مشهد يتبارز زوج كارمن مع "خوسيه"، وتسقط السكين من يد الضابط السابق، ويطلب من كارمن أن تعطيها له، فتقذفها لزوجها، في مؤشر آخر على أن كارمن لم تحب "خوسيه" وإنما "استغلته". بدا ذلك وفاءً وتقديسًا من كارمن لزوجها، في انعكاس لمحورية فكرة الزواج في المجتمع المصري.  

بينما في الرواية الأصلية، فضلت كارمن "خوسيه" على زوجها، حتى أنها نهرته لقتله زوجها في غيابها، إذ خشيت أن ينتصر عليه الزوج وتخسر حبيبها.  

وفي علاقة كارمن بمصارع الثيران، صورت المسرحية الشابة الغجرية كمستغلة أوهمت المصارع بالإعجاب به، ثم صحبته إلى حانة ليخسر أمواله في لعبة قمار. وذلك على عكس الرواية الأصلية، حيث جمعتهما قصة حب، وتبعته كارمن إلى حلبة الثيران لتشجيعه، ولم تطق رؤيته مصابًا.

يعتبر الناقد الفني خالد عاشور أن تحويل سردية "كارمن" من "رمز للحرية" إلى "ساقطة" ليس سوى تعبير عن التراجع الفني في المجتمع، مضيفًا لـ"قنطرة"، أن بعض النقاد يعتبرون مجرد الترجمة خيانة للنص، إذ أن بعض الكلمات لا تُترجم على النحو الذي قُصدت به، "فما بالنا بإجراء تغييرات في فلسفة النص كله".  

نسخة تقدمية أقدم

هذه ليست أول نسخة مصرية من "كارمن"، إذ سبق وقدمها المخرج والفنان محمد صبحي، عام 1999، واللافت أنه بعد نحو 25 عامًا من تقديم المسرحية الأولى، تكون الجديدة هي "الرجعية" فيما الأولى "تقدمية"، إذ قُدمت "كارمن" كرمز للحرية السياسية ضد الديكتاتور.   

ودارت أحداث المسرحية آنذاك حول مخرج ديكتاتور يرغب في إخراج مسرحية عن "كارمن" فيصطدم بالبطلة الحرة المتمردة التي اختارها لأداء الدور، التي تدفع زملاءها للتمرد عليه.  

لكن مخرج المسرحية ناصر عبد المنعم، دافع عن معالجته للرواية، قائلًا إن "كارمن شخصية إشكالية تدور حول فكرة الحرية المطلقة، بألا تكون مع شخص واحد، بغض النظر أحبت هذا الشخص أم لا. والحرية لها أثمان لا بد أن تُدفع، وكانت في هذه الحالة حياتها".

مجموعة من الشباب يجلسون في قاعة ويصفقون بأيديهم.
إقبال على مشاهدة عرض "كارمن" بمسرح الطليعة في القاهرة، مايو/أيار 2025. (Photo: Copyright for Eltaliaa Theater/facebook)

يضيف لـ"قنطرة"، أنه "نقل وقائع الرواية الأصلية ولم يقصد الحكم على شخصية كارمن، بل ترك الأمر للجمهور"، مشيرًا إلى أن ما أسماه "إشكالية مفهوم حرية الجسد الذي يختلف من ثقافة إلى أخرى، حيث يرى البعض في كارمن نموذجًا للحرية والبعض الآخر يراها عاهرة".  

فيما يقول الناقد الفني عصام زكريا، إنه من "المحبط" تحويل عمل تقدمي بالأساس إلى آخر "رجعي"، لكن ذلك يمثل انعكاسًا لطبيعة فكر المجتمع الذي ينقل عملاً أصليًا ويعيد إنتاجه، كما يصف.

واستشهد في حديثه مع "قنطرة"، بمسرحية شكسبير الشهير "الملك لير"، التي اقتبست أعمال عربية كثيرة فكرتها، ويوضح أنه في بعض الأحيان جرى تناولها في إطار "عقوق الآباء"، المحرم في الإسلام والمجتمعات العربية، وأخرى يجرى تهميش دور ابنته الصغرى – بطلة الرواية- "كورديليا"، وهي في العمل الأصلي الشخصية الأنقى والأكثر حكمة، في إطار أكبر لتهميش المجتمعات العربية للمرأة.

تقول الناشطة النسوية شيماء سامي لـ"قنطرة"، إن تقديم الأعمال الفنية بصورة تحاكم النساء وتعتبرهن المخطئات مقارنة بالرجل، ليس سوى "إعادة إنتاج لخطاب كاره للنساء، ضمن أداة سلطوية، تلصق بالمرأة تهمة العاهرة الشريرة اللي تستحق مصيرها، في تبييض لوجه العنف الممنهج ضدها". 

قنطرة ©