"النسيج المقدس" يروي قصة تعايش بين مسلمي مصر وأقباطها
برع أقباط مصر منذ زمن بعيد في صناعة المنسوجات، والتي كانت من أهم الصناعات التي قاموا بها، حتى أنها عُرفت بهم، فقد أطلق العرب على المنسوجات المصرية اسم "قباطي"، أي نسبة إلى الأقباط. ويذكر المؤرخ المصري ابن إياس، الذي عاش بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر وصاحب موسوعة ضخمة في تاريخ مصر الإسلامية، أنه كان من ضمن هدية المقوقس للرسول كسوة من بياضات مصر كهدية، ويذكر أن بعض الثياب بقيت عنده حتى أنه كفن في بعضها.
في المقابل، تأثرت الفنون القبطية بالثقافة الإسلامية التي لم تحبذ تصوير الإنسان كاملاً، فمالت الفنون القبطية إلى استخدام العناصر الهندسية والنباتية والابتعاد عن تصوير الإنسان والحيوان، وذلك احتراماً للمسلمين، بحسب سحر إبراهيم، وكيلة متحف النسيج في القاهرة، في حديثها معنا.
ويقدم متحف النسيج عرضاً خاصاً للمنسوجات القبطية والإسلامية، لعل أهمها جزء من كسوة الكعبة مصنوعة من النسيج "القباطي" وخُطّت عليها بخيوط الفضة آيات قرآنية، وهي الكسوة التي كان يصنعها المصريون بمشاركة من المسلمين والمسيحيين بدءاً من العصر الفاطمي وحتى عام 1962. وفي واجهة معرض النسيج، عُرضت قطعة من نسيج الحرير الأخضر من كسوة القبر النبوي الشريف صنعها الأقباط في العصر المملوكي وبجانبها لوحة من نسيج الكتان والصوف تمثل القديس بطرس تعود للقرن السادس الميلادي مرسوم عليها القديس بطرس. وتشير سحر إبراهيم إلى أن هذا يدل على أن المسلمين عندما فتحوا مصر لم يلغوا الحضارات الأخرى التي كانت موجودة.
متحف فريد من نوعه
يعد "متحف النسيج المصري" أول متحف للنسيج بالشرق الأوسط والرابع من نوعه عالمياً، بناه محمد علي الكبير كوقف خيري على روح ابنه "إسماعيل باشا"، الذي توفي في السودان عام 1822، ويقع وسط شارع المعز، الذي يعد أكبر متحف مفتوح للآثار الإسلامية في العالم، ويقع في منطقة الأزهر بالقاهرة الفاطمية.
يحتوي المتحف أيضاً على نماذج من قطع نسيج من مختلف العصور، وخاصة عصر الدولة القديمة، ويوضح المتحف كيف برع المصريون في غزل ونسج وصباغة ألياف الكتان وتطريز منسوجاتهم، ويحكي المتحف بلوحاته البصمة التي تركها النساج القبطي في الفن الإسلامي. فأول عمل تقع عين الزائر عليه عبارة قطعة تعود للقرن الرابع الميلادي من نسيج الصوف والكتان مزخرفة بدائرة داخلها نجمة ثمانية يتوسطها الصليب المعقوف، وهي نفس النجمة التي استمد منها الفن الإسلامي زخرفة الطبق النجمي في العمارة والأبواب والمنابر.
ويحمل المعرض – الذي بدأ في الثالث والعشرين من أبريل/ نيسان ويستمر حتى التاسع والعشرين من الشهر نفسه - عنوان "وحدتها في مسلميها وأقباطها"، وذلك في ظل احتفال المسيحيين بأعيادهم واحتفال المصريين بتحرير سيناء في الخامس والعشرين من الشهر الحالي، حيث جمع القائمون على المتحف قطعاً من النسيج التي تؤكد على التأثر المتبادل بين الفن الإسلامي والقبطي نتيجة لاختلاط العرب بالمصريين عند دخول مصر.
افتتح المعرض ممثلان عن الأزهر الشريف والكنيسة الأرثوذكسية، وبات الآن يحمل رمزية خاصة لاسيما عقب الأحداث الإرهابية التي استهدفت كنيستين في طنطا والإسكندرية في التاسع من أبريل/ نيسان الجاري، والتي أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 46 شخصاً وإصابة العشرات، وهي الأحداث التي تصفها إلهام صلاح الدين، رئيسة قطاع المتاحف بوزارة الآثار المصرية، بـ"المتخلفة التي لا يجب النظر إليها في الكم الهائل من التعايش الذي يجمع المصريين، هم يريدون هتك وحدة نسيج المجتمع المصري. نريد أن نقول للمجتمع أن متاحفنا هي صورة مصغرة لثقافة الاختلاف.. فالإسلام عندما دخل مصر لم يهدم أي كنيسة أو معبد يهودي، وكذلك النبي أوصانا بأقباط مصر خيراً".
وحسب صلاح الدين، فإن "باب متحف الفن الإسلامي صنعه يهودي وموقع عليه اسمه، ومهندس جامع بن طولون كان مسيحياً"، لافتة إلى أن المسلمين والمسيحيين كانوا يتشاركون في كل شيء، فالمهارة هي الأصل بغض النظر عن الدين "وهذا موجود إلى الآن. فعندما أمرض أذهب للطبيب الماهر وقد يكون مسيحياً. لكن هذا لا يعنيني لأنه ماهر".
يشار إلى أن الاقباط في مصر يشكلون حوالي عشرة في المائة من سكان البلاد البالغ عددهم 92 مليون نسمة، وهم بذلك أكبر جالية مسيحية في الشرق الأوسط.
المسلمون والمسيحيون نسيج واحد
خارج المتحف اصطف بعض العاملين في المتحف من مسلمين ومسيحيين بجانب بعضهم يلتقطون صوراً تذكارية. تقول ناني سمعان، إحدى العاملات في المتحف: "عندما بدأت العمل هنا، اكتشفت أن زملائي المسلمين لا يعرفون عنا الكثير وأنا لم أكن أعرف الكثير عن المسلمين.. تحاورنا ومن هنا بدأ الترابط بيننا. فمثلا عرفوا أعيادنا وطريقة احتفالنا ومناسباتنا مثل الصوم وما معنى الصوم عندنا وبدأوا يشاركوننا ويهادوننا ويراعو صيامنا، وفي رمضان بدأنا نراعيهم ومستحيل أن نشرب أو نأكل أمامهم.. ولذلك هناك احترام وود متبادل".
أما ناهد حليم، وهي مسئولة في المتحف، فتربّت على يد جارتها المسلمة، التي قامت بتربية أبنائها، فتقول: "أعتبرهم أبنائي، فكثيراً ما كانوا يبيتون عندي وأحياناً كنت أوصلهم لمدارسهم، تربينا على ذلك، هذه جارتي يعني عشرة السنين ومفيش مسيحي مسلم".
لكن ناهد ترى أن التوعية تحتاج لأن تخرج إلى المدارس والجامعات وليس فقط في المتاحف، وتتفق معها في ذلك نردين جرجس، البالغة من العمر 34 عاماً وتعمل مهندسة ديكور، والتي كانت تزور المعرض مع بعض صديقاتها. ترى نردين أن مثل هذه المعارض ستؤثر في شريحة معينة هي بالأساس منفتحة على الآخر. "لكن من المفترض أن يقوم الإعلام بتوعية أكثر من ذلك".
من جانبها، تعتبر إلهام صلاح الدين أن المصريين لم يكونوا من هواة المتاحف، ولكن هناك تشجيعاً على ذلك لأن للمتاحف دور تعليمي وتثقيفي وتنويري، وبالفعل زادت أعداد المصريين بنسبة 50 في المائة عما كانت عليه قبل سنتين.
كما تفتح المتاحف أبوابها مجاناً للمصريين بين الحين والآخر في إطار حملات التشجيع، إذ قرر الدكتور خالد العناني، وزير الآثار، فتح جميع المتاحف والمناطق الأثرية مجاناً للزوار من المصريين والعرب الأجانب المقيمين في مصر يوم الخامس والعشرين من أبريل/ نيسان بمناسبة الذكرى الخامسة والثلاثين لتحرير سيناء.
"متحدون بالطبيعة"
من أحدث المنسوجات التي تعبر عن التعايش بين المسلمين والمسيحيين قطعة تعود للقرن التاسع عشر عبارة عن صدرية يرتديها الآباء في المناسبات الدينية، رُسم عليها الاثنا عشر رسولاً أو الحواريين (تلاميذ السيد المسيح)، وفوق كل صورة اسمه باللغة العربية على غير العادة، حيث تُكتب عادة باللغة القبطية، وذلك على الرغم من أنها مصنوعة في كنيسة العذراء مريم بحارة الروم بالقرب من شارع المعز.
وفي كلمته على هامش المعرض، قال الأنبا مارتيروس، أسقف شرق السكة الحديد بالقاهرة، إن ما ذكره المؤرخان المسلمان المقريزي والجبرتي بأن من صنع كسوة الكعبة هم الأقباط يؤكد أننا من عجينة واحدة ومتحدون بالطبيعة، وأنا كمصري غيور على ثقافتي وحضارتي التي منها الثقافة الإسلامي".
ويضيف ماتيروس: "نعم نحارب فكراً يحاول أن يفرقنا. لكن لا نحارب بعضنا كأشخاص، وقوتنا في وحدتنا. أنا مطمئن لأن الشعب المصري واع ويستطيع أن يحمي نفسه بنفسه. لكن مزيداً من التوعية شيء رائع".
مصطفى هاشم - القاهرة
حقوق النشر: دويتشه فيله 2017