نحو مقاربة عقلانية...قداسة الماضي وروح العصر
ننطلق لو تسمح من اختصاصك الأكاديمي في كتابة التاريخ العربي-الإسلامي وتخصّصك في التاريخ الاقتصادي والاجتماعي بصفة خاصّة مستحضرين دراستك بعنوان "المجتمع العربي-الإسلامي : الأسس الاقتصاديّة والاجتماعيّة" إضافة إلى كتابك "القيروان: التأسيس والازدهار" الصادر مؤخّرا. فما هي أهمّ الاستنتاجات التي توصّلت إليها؟
الحبيب الجنحاني: عند دراستي لمرحلة صدر الإسلام وتأسيس الدولة في المدينة ثمّ الفترة الّتي تلتها إلى أن أصبح الحكم وراثيّا ابتداء من عصر معاوية بن أبي سفيان اكتشفت أنّ الصراع العنيف، الذي بدأ بالخطاب السياسي الديني في سقيفة بني ساعدة والرسول لم يدفن بعد، ثمّ الانتفاضة الشعبيّة ضدّ الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفّان واغتياله في بيته وهو يقرأ القرآن، ثمّ موقعة الجمل في الصراع بين علي من جهة وعائشة والزبير وطلحة بن عبيد الله من جهة أخرى وبعد ذلك مأساة صفين؛ اتّضح لي أنّ هذا الصراع لا يمكن أن يكون سببه دينيّا وإنّما وراءه خلفيّة أخرى هي الصراع على السلطة وتوظيف الدين في ذلك، ولا ننسى هنا أنّ الدّين كان صبغة ذلك العصر كما هو معروف. فقمت بدراسة المرحلة الأولى، أي من تأسيس الدولة في المدينة إلى سنة أربعين، وهي السنة التي وقع فيها اغتيال الإمام علي في كتاب نشر ببيروت عنوانه "التحوّل الاقتصادي والاجتماعي في مجتمع صدر الإسلام" وكانت خلاصة هذا البحث أنّ العوامل الاقتصاديّة والاجتماعيّة هي الأسباب الحقيقيّة الكامنة وراء المآسي التي عاشها المجتمع العربي-الإسلامي في تلك الفترة القصيرة.
هل تفضّلتم بذكر بعض الأمثلة خاصّة وأنّ ما يسود هو تلك النظرة المثاليّة التقديسيّة لهذه الفترة بما يعنيه ذلك من نفي لكلّ الدوافع التي غالبا ما تكون وراء حركة المجتمع؟
الجنحاني: بعد انتقال الرسول إلى الرفيق الأعلى أصبح المسلمون هم المسؤولون عن تنظيم شؤونهم وتسيير مجتمعهم حسب قوانين المجتمعات البشريّة كلّها، فجيل السلف الصالح إذن قد واجه مشاكل عصره ووجد لها الحلول المنسجمة مع الفترة التاريخيّة يومئذ ومن هنا لا يمكن أن نتّخذ بعد مرور أكثر من أربعة عشر قرنا هذه المرحلة نموذجا يقتدى به في تسيير مجتمعات اليوم، وهذا لا يتنافى طبعا مع إمكانيّة الاستفادة من تلك التجارب ومن بعض القيم، وخاصّة في تسيير الشأن العام وإنّني حريص في هذا الصدد على ذكر بعض الأمثلة انطلاقا من مصادر إسلاميّة أساسيّة تعود إلى فترة التأسيس هذه. ونبدأ بالانتفاضة التي عرفتها المدينة بعد حوالي ربع قرن من وفاة الرسول. إنّ الخطاب السياسي الذي واجه به الثوّار الخليفة عثمان كان منطقيّا ودقيقا فقد خاطبوه وهو محاصر بأنّه تصرّف في السنوات الست الأولى من خلافته على سنّة الرسول والخليفتين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، ثمّ غيّر وبدّل وعدّدوا له هذه المآخذ ومن أبرزها التصرّف غير الشرعي في أموال المسلمين، وإغداقه الأموال والهدايا على أقاربه وأنصاره وتولية بني أميّة المناصب ممّن ليست لهم الكفاءة والأقدميّة في الإسلام وهو أوّل من ضرب بالسياط ظهور الناس وكان عمر يضرب بالدّرة وهي عصا خفيفة من الخيزران والفرق كبير بالتالي بين الدرة والسوط، ولمّا خالفه الصحابي الكبير عمّار بن ياسر في الرّأي تعاون عثمان مع أنصاره على ضرب الصحابي حتّى فتّقوا بطنه فغشي عليه ثمّ ألقوه في الشارع، مع العلم أنّ عمّار بن ياسر من السبعة الأوائل الذين أظهروا الإسلام، أوّلهم الرّسول نفسه وقد حماه عمّه أبو طالب، والثاني أبو بكر وقد حماه قومه وأمّا الآخرون فألبسوا دروع الحديد ثمّ صهروا في الشمس ومن بينهم سميّة أمّ عمّار التي طعنها أبو جهل فقتلها فهي أوّل شهيد في الإسلام.
وأمّا المثال الثاني فهو مشاركة الزبير بن العوام وطلحة بن عبيد الله في معركة الجمل بقيادة عائشة أمّ المؤمنين ضدّ الإمام علي، وفيها قتل الزبير وقتل طلحة بن عبيد الله وهو واقف بجانب موكب عائشة وهما من العشرة المبشّرين بالجنّة وأعضاء في مجلس الشورى الذي ألفه عمر لاختيار خليفته، والزبير بن العوام هو من الحواريين فقد روي عن النبيّ أنّه قال "الزبير ابن عمّتي وحواري من أمّتي" فالزبير إذن هو ابن عمّة الإمام علي وصهر عائشة لأنّه تزوّج أختها أسماء وأمّا طلحة بن عبيد الله القرشي فهو أحد الثمانية السابقين إلى الإسلام ومعروف بدفاعه المستميت عن الدعوة الجديدة، فقد بايع الرسول على الموت يوم غزوة أحد فأصيب بأربعة وعشرين جرحا. أمّا المثال الثالث فيتمثّل في أحداث الفتنة الكبرى وأعني حرب صفّين فإنّنا نجد عددا كبيرا من وجوه الصحابة تقاتلوا في صفّين متقابلين وأذكر أنّ المصادر تتحدّث عن مقتل الصحابي الكبير عمّار بن ياسر وكان يقاتل في صفّ الإمام علي وهو في التسعين من سنّه فحزّ رأسه وحمل إلى معاوية، وكان عمرو بن العاص حاضرا في المجلس فقال "سمعت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يقول : تقتل عمّارا الفئة الباغية. فقال معاوية : قبّحك الله من شيخ أو نحن قتلناه؟ إنّما قتله الذين جاؤوا به" فأنت ترى كيف بدأ توظيف الدّين في الصراع على السلطة. وإضافة إلى ما ذكر ألمّح بإيجاز إلى واقعة يوم الحرّة وهي المعركة التي غزا فيها يزيد بن معاوية سنة 63هـ المدينة بعد رفض سكّانها بيعته واستباح الجيش المدينة ثلاثة أيّام ودخل العسكر البيوت وانتهك الحرمات وقتل في المعركة من الصحابة ثمانون رجلا ومن قريش والأنصار ثمانمائة ومن سائر النّاس عشرة آلاف. وهنا أعود إلى ما أشرت إليه قبل قليل إلى أنّ رجال السلف الصالح واجهوا مشاكل يومهم واجتهدوا في حلولها حسب ظروفهم فأصابوا وأخطأوا، إذن فهم ليسوا ملائكة وإنّما بشر عاديون، ومن هنا فإنّني كتبت في أحد نصوصي أنّه لا علاقة للسماء بتسيير الناس لمجتمعاتهم وتحديد نمط السلطة الّتي تحكمهم فالإنسان مخيّر وليس مسيّرا فهو الذي يصنع مصيره ومصير مجتمعه. وفي خضمّ هذا الصراع السياسي-الدّيني برزت مدرسة جديدة أسّسها العالم المجتهد الكبير الإمام حسن البصري تقول: أنّ النّاس مخيّرون وهم بالتالي مسؤولون عن أفعالهم، إنّ الله لا يرضى الظلم فكيف يجبر النّاس على فعله، وكيف يأمر الله النّاس بعبادته ثمّ يجبرهم على فعل المعاصي واعتمد الحسن البصري في تأسيس خطاب تنويري جديد على النصّ القرآني كما ورد ذلك في جوابه على رسالة عبد الملك بن مروان وبرز هذا الموقف بالخصوص في المجال السياسي في ما أشارت إليه المصادر قائلة: "أنّ معبد بن خالد الجهمي وعطاء بن ياسر وهما من كبار علماء البصرة يومئذ دخلا على الحسن البصري وهو يحدّث النّاس في مسجد البصرة فسألاه : يا أبا سعيد إنّ هؤلاء الملوك يسفكون دماء المسلمين ويأخذون الأموال ويقولون : إنّما تجري أعمالنا على قدر الله. فأجاب الحسن قائلا: كذب أعداء الله".
كان الصراع من أجل السلطة وما يرتبط بها من ثروات طائلة أغدقت على المقرّبين منها، فقد روى الرواة أنّ طلحة بن عبيد الله قد ترك من العين ألفي ألف درهم، ومائتي ألف دينار إلى جانب الدور والضيعات، وترك الزبير بن العوام خمسين ألف دينار، وألف جارية، وألف فرس عدا الدور، وقد تزعما في موقعه الجمل مقاومة أنصار التيار الآخر الذي يمثله الإمام علي، ويقول الرواة : لما مات زيد بن ثابت (ولاه عثمان الديوان وبيت المال) خلف من الذهب والفضة ما كان يكسر بالفؤوس.
زعيم التيار الثاني المعارض هو الإمام علي، ومعه جماعة كبيرة من الصحابة مثل عمّار بن ياسر، وأبي ذر الغفاري، فلمّا مات الإمام علي خرج ابنه الحسن يخطب في الناس قائلا : والله ما ترك فيها صفراء ولا بيضاء ما عدا سبعمائة درهم فضلت من عطائه، فقد تربّى في حجر النبوة، وهو من أدرى الناس أنّ الرّسول عليه السّلام كان "يعصب الحجر على بطنه من الجوع" وكان يقول "اللهم أحشرني في زمرة الفقراء".
ننتقل لو تسمح، بعد هذه الجولة الشيّقة في تراث الفكر العربي-الإسلامي والتي لا تخلو من إشارات تتّصل بالحاضر، إلى قضايا معاصرة لها صلة بظاهرة الإسلام السياسي فهل أنّ ما ذكرته يؤكّد ما يذهب إليه بعض الباحثين من استحالة وصول التيّارات السلفيّة للسلطة؟
الجنحاني: أقول بداية أنّ ظاهرة الإسلام السياسي هي ظاهرة جديدة ولكن جذورها تمتدّ في تاريخ الفكر السياسي العربي الإسلامي إلى الفترة التي كنّا نتحدّث عنها وأذهب إلى القول إلى أنّ هذا التيّار يمكن في حالات معيّنة أن يصل إلى السلطة ولكنّه عاجز عن الاستمرار فيها لأسباب متعدّدة، إذ أنّني أذهب إلى أنّ إشكاليّة السلطة مطروحة في المجتمع العربي-الإسلامي منذ مؤتمر سقيفة بني ساعدة حتّى اليوم، وأنت تذكر أنّني دافعت في كتابي المعنون "الحداثة والحرّيّة" عن فكرة فصل الدّين عن السياسة وأمّا فصل الدّين عن الدّولة الذي ينادي به البعض فإنّني اعتبره كلاما طوباويّا في المرحلة التاريخيّة الّتي يمرّ بها اليوم المجتمع العربي-الإسلامي.
إلى جانب مؤلّفات الاختصاص الأكاديمي البحث في التاريخ، فقد نشرت كتبا عن "الحداثة والحرية" ، و"العولمة والفكر العربي المعاصر" و"المجتمع المدني والتحوّل الديمقراطي في الوطن العربي" وهذا يدفعني للتطرّق إلى تصوّرك للحداثة في هذه المرحلة في ظلّ ما عرفه هذا المفهوم من تحوّلات في الفكر المعاصر إذ يتمحور الحديث حاليا حول ما بعد الحداثة إن لم نقل أنّه قد وقع تخطّي هذا الخطاب، فماهو رأيك؟
أنا أؤمن أنّ مشروع الحداثة الّتي أطلّت علينا من عباءة عصر الأنوار في القرن الثامن عشر هو مشروع كوني. فالحداثة إذن هي واحدة ومرّت بتجارب مختلفة ومتنوّعة في هذا الفضاء الجغرافي أو ذاك ولكن قيمها كونيّة وأبرز مكتسباتها أنّها قضت يومئذ على النظم السلطويّة المرتبطة بدعم الكنيسة فتخلّصت من عبئين كبيرين أثّرا سلبيّا على تطوّر الحضارة الحديثة وهما الاستبداد السياسي وتوظيف الدّين في السياسة، ومن صلبها ولدت طبقة اجتماعيّة جديدة هي البرجوازيّة الحاملة للمشروع الليبرالي بإيجابياته ونقائصه. ولا ننسى هنا أن أبرز مكاسب الليبراليّة بالأمس واليوم الوجهان لعملة واحدة: وجه الحرّيّة الاقتصاديّة ووجه ضمان الحرّيّات العامّة وبخاصّة حرّيّة التعبير والنشر فلمّا ظهرت في بداية عصر العولمة، الليبراليّة المتوحّشة ومازال العالم يعاني من ويلاتها حتّى اليوم، فإنّ الوجه الآخر للعملة هو الذي كشف عن حقائقها وأماط اللثام عن وجهها القبيح، هذا الوجه الذي انكشف تماما بعد اندلاع الأزمة الاقتصاديّة العالميّة.
الحديث عن الليبراليّة المتوحّشة يحيل في رأيي إلى ظاهرة العولمة التي تعدّد جوانب النظر إليها لكن أستسمحك في التوقّف عند ما تقوم عليه من مفارقة تتمثّل في أنّ ما تتيحه من انفتاح على المستوى التقني أصبح متساوقا مع انغلاق إيديولوجي، فماهو رأيكم؟
الجنحاني: أبدأ بالقول إنّ ظاهرة العولمة ظاهرة معقّدة ورغم ما صدر عنها من دراسات متنوّعة في المجتمع الغربي بالخصوص فإنّ كثيرا من جوانبها مازالت حريّة بالدراسة والتمحيص خصوصا بعد أن فضحت الأزمة الماليّة الأخيرة جوانب خفيّة فاجأت الجميع في السلطة وخارجها وأنا أعتزّ بأنّني من الأوائل في العالم العربي الذين عالجوا هذه الظاهرة في كتاب بعنوان "العولمة والفكر العربي المعاصر" نشرته دار الشروق بالقاهرة سنة 2002 وأكّدت فيه أنّ العولمة ظاهرة إيجابيّة رغم سلبياتها لأنّها جاءت نتيجة الثورة الإلكترونيّة وقد أسقطت الحدود والمسافات بين الشعوب فيمكن اليوم لشاب يعيش في قمم جبال اليمن أن يتحاور مع صديقته في لوس أنجلس أو في كوبنهاغن إلى جانب التقدّم العلمي والتقني وبخاصّة في الميدان الطبّي بالخصوص وقلت حذار من الخلط بين الظاهرة في محتواها الإيجابي وبين توظيف الليبراليّة الجديدة لها فالبعض يخلط ويدين الظاهرة اعتمادا على سلبيات الليبراليّة الجديدة المتزعّمة للظاهرة وأنا في الحقيقة أعتبرها ظاهرة كونيّة وليست غربيّة فقط مثل ظاهرة حداثة عصر الأنوار وفي هذا المجال فإنّني أقلق عندما أقرأ في بعض أدبيات الفكر العربي المعاصر نصوصا تؤكّد على الوطنيّة الضيّقة وعلى الخصوصيّة الثقافيّة التي هي موجودة وأؤمن بها ولكن هذه النصوص تريد أن تقول في نهاية المطاف أنّ هذه العولمة لا تهمّنا ولنا أيضا حداثتنا وبالتالي فهم يتنكّرون لقيم قد أصبحت كونيّة وأعني بذلك الحرّيّة والمواطنة وحقوق الإنسان والديمقراطيّة.
كرّست جهدا لدراسة علاقة الدّولة بالمجتمع المدني وهو ما يدفعني لطلب رأيك في ما يذهب إليه البعض من أنّ قوّة الدّولة تفرض مجتمعا مدنيّا ضعيفا.
الجنحاني: علاقة المجتمع المدني بالدّولة ذات بعدين: يمكن في ظروف معيّنة أن تدخل قوى المجتمع المدني في صراع مع الدّولة ولكن في حالات أخرى هما يتكاملان ولا يتصارعان ومن هنا فإنّني قلت يمكن أن تكون الدّولة قويّة والمجتمع المدني يكون قويّا داعما لها وليس من الصحيح القول أنّه عندما تكون الدّولة قويّة يكون المجتمع المدني ضعيفا أو عندما يقوى المجتمع المدني فإنّه قد يمسّ بقوّة الدولة وهيبتها والمهمّ في هذا الصّدد هو ماهي مواصفات الدّولة في هذه العلاقة؟ إذا كانت الدّولة حديثة وتقوم على مؤسّسات دستوريّة حقيقيّة فإنّ قوّة المجتمع المدني تكون دعما لها ومتضامنة مع الدولة في تحقيق تقدّم المجتمع ومناعته لأنّها تهتمّ بجوانب اجتماعيّة وثقافيّة تعفي الدّولة من الانغماس في قضاياها.
والسؤال عن علاقة المجتمع المدني بالدّولة يفضي إلى علاقته بالسياسة. ففي المجتمعات المتطوّرة تركّز مؤسّسات المجتمع المدني جهودها على مجالات اختصاصها ولكن عندما يكون المجتمع متأزّما ويعاني من مشاكل سياسيّة معقّدة بالذات فلابدّ أن تتجاوز رسالة المجتمع المدني مجال اختصاصها إلى الاهتمام بقضايا الوطن أي في النهاية بقضايا السياسة. ذلك أنّ جمعيّة تعتني بهواية لعبة الشطرنج أو تربية العصافير في بلد مثل فلسطين المحتلّة أو العراق اليوم لا تستطيع أن تقول أنّي أهتمّ بمجال اختصاصي الضيّق وكفى، فمن الضروري أن يدخل ضمن رسالتها الاهتمام بالسياسة في مثل هذه الحالات وأنا أذكر هنا أنّ أحد كبار المنظّرين للمجتمع المدني وأعني غرامشي وقد كتب كتابه في هذا الموضوع وهو داخل السجون الفاشية الإيطاليّة ذاهبا إلى القول أنّ في الظروف التي كانت تعيشها إيطاليا يومئذ لابدّ أن ندخل مؤسّسة الفاتيكان ضمن قوى المجتمع المدني بالرغم من أنّه كان ماركسيا بعيدا كلّ البعد عن الدّين وعن الكنيسة. إذن فعلاقة المجتمع المدني بالدّولة تختلف من وضع إلى آخر.
عندما يناقش المرء علاقة المجتمع المدني بالدولة يطرح نفسه السؤال التالي : ما هي علاقة المثقف بالسلطة، ذلك أن المثقف الملتزم بقضايا وطنه وشعبه يمثل دعامة صلبة من دعائم قوى المجتمع المدني؟
* الجنحاني: نشرت لي قبل أعوام دراسة مطولة بعنوان "المثقف والسلطة في التراث العربي الإسلامي" بدأتهابموقف القراء في الفتنة الكبرى، وقد كانوا يمثلون النخبة المثقفة للدين الجديد يومئذ، حتى المرحلة المعاصرة، مرحلة نظام الأحزاب الشمولية، وكانت خلاصة البحث أن هذه العلاقة كانت في جل الحالات متوترة، وانشطرت النخبة العربية بالأمس واليوم إلى شطرين: فقهاء البلاط، وفقهاء المسجد حسب التعبير القديم، فقهاء البلاط هم الذين نظروا للإمامة والحكم الوراثي كما نقرأ ذلك على سبيل المثال في "الأحكام السلطانية » للماوردي وفقهاء المسجد هم الذين عارضوا السلطة الاستبدادية ورفضوا الحكم الوراثي مطالبين بأن يختار المسلمون الأفضل بينهم ليسيّر شؤونهم.
وعرف أنصار هذه التيار نتيجة مواقفهم النفي والتعذيب والصلب واكتفى هنا بذكر قصة سعيد بن المسيب وهو تابعي من كبار علماء الإسلام فقد طلب منه والي المدينة وهو ابن عمه أن يبايع للوليد ولسيلمان ابني عبد الملك بن مروان فرفض فجرد من ثيابه وألبس ثياب من شعر وجلد مائة سوط وحلق رأسه ولحيته وأوقف في السوق يتفرج عليه الناس.
هل كان سعيد بن المسيب يمثل خطرا على الحكم الأموي وهو في أوج قوته؟ أبدا ولكن كما قال عبد الملك بن مروان لواليه على المدينة:انتقم منه حتى لايتجرأ الناس علينا فقد قدم مثالا للترهيب إنه من المعروف في تاريخ النظم السلطوية شرقا وغربا أنها لاتقنع بشبه الاجماع بل لا بد من الإجماع الكامل و إن كان صوريا مزيفا.
حقوق النشر: موقع الأوان الالكتروني 2011