الربيع العربي وأعداؤه... رؤية ألمانية
فاجأ انطلاق ثورات الربيع العربي في بداية 2011 الخبراء والرأي العام الأوروبي والنخب السياسية على حد سواء، والتي قبلت على ما يبدو بأساطير "الاستثناء العربي". هذه الفرضيات الخاطئة القائمة على فهم ثقافوي لسيرورة تطور الشعوب استبعدت كلياً إمكانية نشأة جيل عربي جديد يؤسس لوعي جماهيرى ديمقراطي، لأنها اعتبرت في جوهرها أن العرب نظراً لعقليتهم الأبوية وميولهم إلى السلطويات الدينية والدنيوية لا يتوافقون مع قيم الحرية والديمقراطية الحداثية، خاصة قبول التعددية السياسية والفكرية والتنوع العرقي في مجتمع المواطنة، نافية عنهم بذلك القدرة على تعلم ثقافة الديمقراطية وتكوين وعي جماعي يدافع عن مكتسباتها.
لكن المفاجأة الكبرى تمثلت أيضاً في ردود الأفعال الألمانية على ثورات الكرامة، والتي دشنت لخروج العرب من "كبسولة التاريخ" ولحاقهم بموجة الديمقراطية والانفتاح السياسي، والتي فرضت نفسها خلال موجات متتالية في دول وقارات كثيرة، لكنها ابتعدت عن المنطقة العربية خلال الخمسين عاماً الماضية.
ففي بداية 2011 تميزت ردور غالبية المراقبين والإعلاميين الألمان بكثير من الإعجاب والتعاطف مع الحركات الشبابية الديمقراطية العربية، والتي تحلت بالشجاعة ونجحت في إسقاط أنظمة فاسدة ومستبدة في تونس ومصر. وكان مما لفت الأنظار في هذه الحشود الجماهيرية الأكبر في التاريخ المعاصر للشعوب العربية ما تميزت به من سلمية وابتعاد عن التسييس المفرط آنذاك.
لكن لم تكد تمر عدة سنوات على بدأ النضال العربي من أجل الحرية والكرامة، أي بدء عملية تحول تاريخي معقدة تنتهي، إذا نجحت، بتجاوز إرث الديكتاتوريات العربية المعادي للحريات، حتى بدأت وسائل الإعلام في الغرب تتحدث عن "تحول الربيع العربي إلى شتاء أسود"، خاصة بعد عسكرة الثورتين الليبية والسورية. كما سيطر التشاؤم على الخطاب السياسي والإعلامي بشكل عام، فبدلاً من التركيز على تطوير آليات تدعم عملية التحول الديمقراطي وتقوي فرص نجاحها، أصبحت النظرة إلى الهبات الجماهيرية العربية تتميز بالالتباس ويسودها التخوف من انهيار الدول و"تسونامي اللاجئين" وتصدير الإرهاب.
في خضم هذه التحولات جاء كتاب الصحافية المختصة في شؤون الشرق الأوسط، جوليا غيرلاخ، والذي صدر بعنوان "الربيع المفقود. ما هي أسباب فشل الحراك الثوري العربي؟"، لتسلط فيه الضوء على حالة الانقسام الحاد في مجتمعات ما بعد الثورات العربية، والتي هزت كل الهياكل المجتمعية ودشنت لانتهاء حقبة السرديات الأيديولوجية الكبرى. كما تشرح العواقب الوخيمة لحالة الاحتقان والاستقطاب الأيديولوجي والسياسي في المجتمعات الثورية، والتي تصفها بـ"المرض العربي الجديد" معتبرة ظاهرة "الإخوانوفوبيا" أهم أعراضها البارزة.
غياب ثقافة الحوار البناء
المحللة السياسية، غيرلاخ، تحمل كل القوى السياسية مسؤولية تعطيل المسار الانتخابي وتحوله إلى اقتتال حقيقي بين قوى التغيير الثورية وقوى الثورات المضادة وهياكل الدول العميقة المستبدة في ظل غياب ثقافة الحوار البناء، وهو بلا شك ما ساهم في "إجهاض الجولة الأولى في الطريق الطويل لتحقيق أحلام الديمقراطية والحرية".
غير أن المُراقبة المعروفة بغزارة إنتاجها ترفض أطروحة فشل الربيع العربي التبسيطية جملة وتفصيلاً، لأن "ما حدث في العالم العربي في السنوات الخمس الأخيرة كان بداية لتغيير تاريخي يحتاج إلى عقود وليس إلى سنوات، فالغرب احتاج 500 عام من أجل النجاح في التوفيق بين المسيحية والقيم الديمقراطية، كما احتاجت دول شرق أوروبا أكثر من عقدين من أجل التأسيس لأنظمة سياسية ديمقراطية لا تزال في الواقع هشة وبعيدة عن المنظومة القيمية لمفهوم الديمقراطيات الليبرالية، خاصة في ما يتعلق بالفصل بين السلطات وضمان نزاهة واستقلال القضاء".
وفي ضوء ذلك تعتبر جوليا غيرلاخ أن التجربة الديمقراطية الناجحة في تونس، مهد الربيع العربي، تؤكد الدور القيادي لهذا البلد الصغير في منطقة تسودها حالة فوضى تدميرية، وهو ما يعود وفق تحليلها إلى "تعلم حركة النهضة الإسلامية من أخطاء جماعة الإخوان المسلمين في مصر وتحليها بالبراغماتية والواقعية السياسية، التي تجلت في مشاركتها في حوار وطني حقيقي مع كل الشركاء والخصوم، وهو ما لعب دوراً حاسماً في صوغ دستور تونسي يعتبر الأكثر حداثة في العالم العربي".
هنا يكمن مربط الفرس؛ إذ ترفض الكاتبة الانعطافة التشاؤمية في الخطاب السياسي الغربي وتقييمه لتداعيات انهيار حاجز الخوف في العالم العربي، وإعادتها إلى أسباب ثقافوية الطابع وإعادة إنتاج مقولة إنه لا يمكن أن تنجح ثورات الكرامة العربية في الانتقال من مجتمعات سلطوية إلى مجتمعات ديمقراطية شفافة تحترم التنوع الإثني والديني طالما الفكر الديني الغيبي لا يزال يهمين عليها.
لكنها ترصد في الوقت نفسه الأسباب الحقيقية لفشل الحراك الثوري العربي في السنوات الست الأخيرة وأهمها اصطدام الثورات العربية بهياكل استبداد قوية مصرة على الدفاع عن سلطتها وامتيازاتها، مهما كان الثمن، ورفضها المشاركة الحقيقية في إدارة عملية تحول ديمقراطي حقيقي، علاوة على غياب مؤسسات دولية أو إقليمية معنية برعاية هذا التحول التاريخي على غرار الاتحاد الأوروبي، والذي دعم التحول إلى الديمقراطية في شرق أوروبا بشكل قوي للغاية.
لؤي المدهون