هل ضاعت فرصة الإصلاح؟
لقد كرر المستشرق الفرنسي العظيم جاك بيرك المتوفى عام 1994 قوله أن أوروبا سوف تكون نقطة الإنطلاق لتجديد الإسلام ، ولكنه لم يذكر الأسباب التي دعته لهذ القول. ومن المحتمل أنه قد ظن أن العلوم المخزونة في الجامعات والمكتبات الأوروبية ومناخ الحرية الفكرية قد تكون أفضل الأسس لنقد بناء وقوي لتلك التقاليد التي أعاقت دخول الإسلام - واثقا بنفسه - إلى القرن القرن العشرين.
ولو قدر للسيد بيرك العيش حتى الآن لصدم من عدم تطور الإتجاهات الفكرية الواعدة والمبشرة بمستقبل للإسلام في هذه البيئة المناسبة.
والآن يوجد المسلمون الذي نشأوا في أوروبا ولديهم نزعات طموحية ويشكلون حاليا لبنة في بناء الإسلام الأوروبي. وهم أولئك الذين سيجيبون على أسئلة إخوانهم المسلمين التي تواجهم عند البحث عن بيئة خاصة بهم في محيط ذا طابع مسيحي. ولكن هذه القضية ينقصها المصلحون ذوي الفكر السامي - الذين كان يتمناهم السيد/ بيرك - والذين يحاولون التجديد في جو التبادل المثمر مع الفكر الغربي.
نهاية تقليد
إنها لحقا مفاجأة أن تكون نتيجة الخمسين سنة الماضية نتيجة خائبة على الرغم من وجود محاولات لدفع روح الإصلاح بين الحين والآخر. وعلى العكس من ذلك وجدت في الأجيال السابقة لتلك الحقبة شخصيات كبيرة نضجت أفكارها بفضل الإتصال مع ثقافة الغرب. ومن الممكن أن يدعي المرء وجود مجموعة من فقهاء المسلمين آنذاك تأثروا بالفكر الأوروبي وبحثوا عن التقاليد ذات الطابع الديني ونهجوا بذلك طرقا فكرية جديدة.
وتبدأ هذه المجموعة بالشيخ الطهطاوي الذي بعثة حاكم مصر عام 1836 إلى فرنسا، وتنتهي بالشيخ السنهوري الذي درس في فرنسا وكتب عام 1949 مؤلفا - مزيجا من القانون الأوروبي والإسلامي - أصبح فيما بعد أساسا للقانون المدني المصري. ويعد أيضا من مشاهير هذه المجموعة الدكتور/ طه حسين، الذي لم يتحرج في العشرينيات من نقد اللغة العربية أو المساس بقدسيتها.
وكان خلفاؤهم يفتقدون إلى مثل هذه الشجاعة أو بالأحرى إلى دوافع ثقافية وأخلاقية. ولأن الإصلاح الديني لا يمكن أن يتم خارج بيئة اجتماعية وثقافية معينة ، فإن ما وجده المثقفون المسلمون في أوروبا منذ الستينيات كان وما زال غير ملائم لهذا الإصلاح. وتكمن الأسباب الرئيسية لذلك في طريقة طرح الأسئلة الدينية من ناحية، وفي الاستجوابات الضمنية أو الصريحة من مجتمع البلاد المضيفة من ناحية أخرى.
ومنذ الثمانينات أصبحت الحاجة ماسة إلى تشكيل جديد مناسب للحياة الدينية داخل المجتمعات الإسلامية المهاجرة في أوروبا. وقد بدت الشروط الخاصة لذلك بشكل متوافر في أكثر من ناحية: فلم تتواجد الزعامة التقليدية لأئمة الدين من ناحية، ومن ناحية أخرى كان من الممكن أن تساعد الحرية الشخصية في أخذ القرار بالقدر الذي يتناسب مع حياة المسلم ومع عقيدته في مجتمع أوروبي.
وبدلا من ذلك ظهرت تطورات عكسية: فالإسلام من ناحية المبدأ دين يطالب بأن تكون العبادات خاضعة في المقام الأول للكتاب والسنة. ولأن الطبقات قليلة الثقافة – ومعظمهم من المهاجرين الأجانب - تهتم في المقام الأول بمثل هذه المسائل ، نجد أن الحوارات تركزت على الأمور الشكلية والسؤال عن توافق تلك الأعمال مع الكتاب والسنة. وهذه المناقشة حركت بدورها الناشطين من إتجاهات مختلفة والأصولين ، الذين أصبحوا بمرور الوقت أقوياء.
خيال المفكرين
وفي نفس الوقت أضاع "المفكرون الكبار" – وهؤلاء موجودون فعلا – الفرصة لإعداد البديل المفيد في أوروبا والعالم الإسلامي. فبينما كانوا يتحدثون عن ضرورة إصلاح الإسلام كانوا يهملون التفكير في هموم المهاجرين اليومية ، لأن شاغلهم الأول كان يدور في البحث عن مكانتهم الإجتماعية وتثبيتها أمام الثقافة الأوروبية. وكان السبب في ذلك أن الكثير من مهاجري أوروبا الأكاديميين والمثقفين كانوا من الشرق الأوسط والأدنى، وكانوا جميعا متأثرين بما يدور في أوطانهم من حوارات عن عدم نجاح فكرة القومية وأوضاع الفلسطينيين والحكم العسكري.
ولكن مع مرور الوقت تكونت لديهم في المنفى نظرة موحدة عن العالم العربي، حيث بدت في ظاهرها أقل تفككا مما هي عليه في الواقع. ومن ناحية أخرى أحسوا في بلد المهجر أن عليهم حماية العالم الذي تركوه واعتبروه قدوة في الدنيا والدين. وفي النهاية نجد هذا القومي من دمشق وذاك المثقف من قبائل الجزائر يمتدح التراث العربي الإسلامي وينادي بحمايته بشتى الطرق من المؤثرات الأجنبية العدوانية.
وبهذا نشأت بين المثقفين المسلمين المولودين في أوروبا والمهاجرين الجدد مواقف قتالية جعلت الدفاع عن الإسلام شاغلها السياسي. كما ادعى بعض المثقفين المشهورين - الذين كانوا حتى الآن بعيدين عن الدين والعقيدة - لأنفسهم الدفاع عن الإسلام بحجة الوقوف ضد العنصرية.
وقد أدى هذا الموقف الجديد إلى نشر كم هائل من الكتب الجديدة في فرنسا ، وقد صدرت عن طريق دور نشر مشهورة (غير متخصصة في الموضوعات الدينية). وهذه الكتب "تشرح" الإسلام مرة "على المستوى الفردي" ومرة لجميع البشرية. وبدافع تربوي مغلفا بالموضوعية يختصر الإسلام في هذه الكتب على صيغه معقدة ومتأخرة ، ولا تظهر فيها الملامح الهامة للإسلام مثل تعدد المذاهب الفكرية وتعدد الفرق داخل الديانة.
الإستشراق – الكنز المفقود
ومن الغريب أن يوجد مثل هذا التطور في بلدان الاستشراق الكلاسيكي الأولى مثل فرنسا وإنجلترا وألمانيا. وقد هوجمت هذه العلوم من المثقفين العرب والمسلمين ولقيت نقدا لاذعا أدى إلى ردود أفعال غريبة عند الأوروبيين، كما أدى ضياع هذا القسم المزدهر من العلوم الأوروبية – الذي استفادت منه أمريكا - وتحول العلوم السياسية إلى حقل للجدل عن الإسلام.
ومنذ الثمانينات أصبحت مشروعات البحث التي تخص العالم الإسلامي أو الإسلام في أوروبا توكل إلى علماء السياسة في المقام الأول، وهؤلاء يجب عليهم اسداء النصائح ونشر التنبؤات في "البرامج الرئيسية" في التلفاز. وبتراجع الفروع الأخرى لعلوم الإسلام - مثل علم اللاهوت والقانون والفلسفة – يندثر كنز كامل من العلوم الخاصة بتطورات الفكر الإسلامي، ومن ثم يندثر المخزون الروحي للجدل المفيد مع المثقفين المسلمين.
وقد انعكس أثر هذا التطور على البيئة الاجتماعية الثقافية، وخاصة في فرنسا حيث لا يزال المثقفون يرغبون في إعلان رأيهم علنا. والمناقشات الإسلامية الحديثة تنقصها أصوات كبار الأساتذة في الاستشراق أمثال جاك بيرك وماكسيم رودنسون. غير أن طريقة التعامل مع الإسلام قد تطورت تطورا كبيرا، فحتى الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001 كانت المجلات الرائدة ومنظمات المثقفين يحيلون مشكلة التعصب الإسلامي إلى علماء الإجتماع والسياسة على أمل أن يأتي منهم شرحا أو إشارة مرضية.
ومنذ أن استقر الإسلام في أوروبا بدأ كبار المفكرين يشغلون أنفسهم بالموضوع، ولكن كان هذا يقتصر على النواحي الشكلية. أما الحوار المطلوب بين المثقفين المسلمين الذين يدافعون من ناحية عن الصورة المثلى للإسلام وبين المحاربين المسلمين الصغار فلم يبدأ بعد.
كان الكاتب والفيلسوف فرانسوان زبال يقوم بالتدريس في جامعة بيروت حتى نفيه عام 1984. ومنذ عام 1996 وهو يعمل كرئيس لتحرير المجلة الثقافية "قنطرة" التي يقوم بنشرها معهد العالم العربي في باريس.
فرانسوا زبال
ترجمة: عبد اللطيف شعيب
نيو تسورشه تسايتونج في 22 يناير / كانون الثاني 2005
فرانسوا زبال هو رئيس تحرير مجلة قنطرة الصادرة من معهد العالم العربي في باريس.