الإصلاح الديني في التجربة التاريخية الأوروبية

يردِّد المؤرخون والمهتمون بالتاريخ الديني لأوروبا مقولة مفادها أنّ العصر الوسيط ظاهرة كاثوليكية، بينما العصر الحديث ظاهرة بروتستانتية. ومسألة العصر أساسية لفهم هذا الأمر، لأنّها تحيل إلى سياق تاريخي كثيف يفسر كيف حصلت عملية إصلاح المنظومة الدينية، خلال القرن السادس عشر، وكيف أفرزت واقعًا تاريخيًّا كان له كبير الأثر في التأسيس لأفكار جديدة أكثر جرأة، خاصة في المرحلة اللاحقة المعروفة بعصر التنوير.

يستدعي تفكيك هذا السياق إبداء مجموعة من الملاحظات.

ملاحظة أولى: ارتبط الإصلاح الديني بتحولات اجتماعية وفكرية وسياسية شاملة أدخلت أوروبا في الأزمنة الحديثة في إطار ما يصطلح عليه بالنهضة. وقد لعبت المدينة دورًا كبيرًا في هذه التحولات. فالمدينة شكلت فضاءً جديدًا يسعى إلى التحرر من قبضة الإقطاع والكنيسة، وذلك بواسطة طبقة اجتماعية حاملة لمشروع التغيير، ألا وهي البورجوازية التي اشتغلت في التجارة، وانفتحت على العالم عن طريق الكشوفات الجغرافية، ورفعت شعار العقل. كما شهدت المدينة نشأة الجامعات إثر تلاحم المدارس التي صارت تبتعد عن اللاهوت وتدرِّس معارف جديدة ذات صلة بالقانون والفلسفة وأيضًا الفيلولوجيا التي مكنت من تتبع التحريفات الحاصلة في الإنجيل بالرجوع إلى النص الأصلي المكتوب باللغة الإغريقية. ومعلوم أنّ أولى الجامعات كانت قد ظهرت في باريس وأكسفورد في نهاية القرن الثاني عشر، لتتعدد بعد ذلك في مختلف مدن أوروبا الغربية والوسطى.

وشهد القرن السادس عشر حركة أدبية وفكرية تعرف بالإنسانوية، حيث برز مجموعة من المثقفين، أمثال الهولندي ديدي إيراسم، والفرنسي فرانسوا رابلي، والإنجليزي توماس مور، منحوا قيمة إنسانية للفرد ورأوا فيه طاقة قادرة على التحرر من الموروثات الجماعية، وعلى الخلق والإبداع في مجالات الفكر والفن. وكانت هذه الحركة الأدبية قد ارتكزت على الرصيد الفكري الإغريقي القائم على تحكيم العقل، واستندت إلى تقنية المطبعة التي ساهمت في بلورة هذه الثقافة الجديدة ونشرها. ورافق هذه الحركة، أيضًا، ارتقاء اللهجات المحلية، إذ تُرجم الإنجيل إلى الألمانية والإنجليزية والفرنسية، وغيرها من اللغات الناشئة[1].

ومن جهة أخرى، ساعد على ظهور حركة الإصلاح الديني ميلاد الدولة القومية التي تعاظم فيها نفوذ رجال القانون على حساب رجال الدين، فيما يتصل بمستشاري ملوك أوروبا، كما يتضح ذلك مثلاً في البلاط الإنجليزي لما اتجه مستشارو هنري الثامن، وفي طليعتهم توماس كرانمر، إلى تحكيم مسألة سيادة الدولة في الصراع مع البابا كليمانتي السابع عام 1534.

ملاحظة ثانية: انطلاق الإصلاح من داخل الكنيسة. ذلك أنّ المصلحين الدينيين كانوا رهبانًا أولاً وقبل كل شيء. لكنهم رهبان من طينة جديدة، لأنّهم تابعوا دراسات جامعية، وتلقوا تكوينًا جديدًا يقوم على القانون والفلسفة والفيلولوجيا. وهذا ما أهَّلهم لفهم اللاهوت برؤية جديدة تدعو إلى المراجعة والإصلاح. فضلاً عن أنّهم استطاعوا الحصول على كراس لتدريس هذا اللاهوت في عدد من الجامعات. نذكر منهم الإنجليزي جون فيكليف (ت 1384) الذي كان أستاذًا بجامعة أكسفورد، والتشيكي جون هوس (ت 1415) الذي شغل منصب عميد كلية اللاهوت بجامعة براغ، والألماني مارتن لوثر (ت 1546) الذي درَّس بجامعة فيتنبورغ، والفرنسي جون كالفن (ت 1564) مؤسس جامعة جنيف. ومعلوم أنّ هؤلاء المثقفين والمصلحين كان لهم تأثير بالغ في الكثير من الطلاب والرهبان في كليات اللاهوت التي اشتغلوا فيها.

ملاحظة ثالثة: إسهام الإصلاح في التحول الاقتصادي الذي مكَّن أوروبا من ولوج الرأسمالية. وسنخصص النقطة الأخيرة من هذا العرض لمسألة العلاقة بين البروتستانتية والرأسمالية بالرجوع إلى كتاب السوسيولوجي الألماني ماكس فيبر "الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية".

لقد شكل الإصلاح الديني، الذي قسَّم أوروبا المسيحية إلى كاثوليكيين وبروتستانتيين، تجربة "فريدة" من الناحية التاريخية، كما يقول المؤرخ البريطاني يان كامرون، "إذ لم يسبق لحركة دينية، احتجاجية أو إصلاحية، منذ العصر القديم أن كانت على درجة كبيرة من الانتشار والصمود، على درجة كبيرة من النقد العميق، على درجة كبيرة من الهدم وإعادة البناء"[2].