ثلاثة أفلام عن الذاكرة والفقد وعنف الدولة

A man riding a motorbike with a dog in the sidecar.
جانب من القاهرة نادرًا ما نراه: لقطة من فيلم "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" للمخرج خالد منصور. (Photo: ALFILM)

سلطت ثلاثة أفلام مصرية، في مهرجان الفيلم العربي ببرلين هذا العام، الضوء على آثار الصدمة والعنف السلطوي في الحياة اليومية: "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"، و"معطر بالنعناع"، و"أبو زعبل 89".

الكاتبة ، الكاتب: شيان رياز

قال المخرج الفرنسي، جان-لوك غودار، ذات مرة إن كل ما تحتاجه لصناعة فيلم هو "فتاة ومسدس"؛ قد يكون ذلك صحيحًا، لكن إذا أضفت كلبًا إلى المعادلة، تحصل على شيء أكثر تميّزًا. هذا بالضبط ما يقدّمه الفيلم المصري "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"، لكنه ليس الفيلم البوليسي المليء بالإثارة الذي تصوّره غودار، بل هو عمل أكثر رهافة وتجذرًا، أول فيلم روائي طويل للمخرج خالد منصور، يتميز بإيقاعه البطيء وأبعاده الوجودية، من دون أن يتخلى تمامًا عن ملامح الجمالية النوعية.

يتتبع الفيلم قصة حسن، شاب يعيش مع والدته وكلبهما رامبو في شقة متواضعة في القاهرة. يريد مالك العقار، الأسطى كرم، طردهم بأي ثمن كي يوسّع ورشة تصليح السيارات التي يملكها.

وعندما يعض رامبو كرم خلال مشادة محتدمة مع حسن، يطالبه صاحب الشقة بتسليمه الكلب، على الأرجح ليتمكن من قتله انتقامًا. ما يتكشّف بعد ذلك هو حكاية مشحونة ومؤلمة وعميقة عن رجل يحاول أن يجد الأمان، ليس فقط لكلبه، بل لنفسه أيضًا.

Here you can access external content. Click to view.

تتخلل الصدمة كل لقطة. القاهرة، التي صُوِّرت بالكامل تقريبًا ليلًا بعدسة المصور أحمد طارق بيومي، مُغطاة بالظلال، لا تُضاء إلا بمصابيح الشوارع الخافتة. هذه صورة نادرة لمدينة لا تشبه تلك التي تُروّج لها البطاقات البريدية: ساكنة، وغامضة، وثقيلة.

الظلام هنا ليس مجرد خيار جمالي، بل يعكس الحزن والوحدة التي يعيشها حسن، ورغم أن الفيلم لا يقدّم الكثير من المعلومات، إلا أننا نكتشف أن هناك أبًا غائبًا في قصة البطل؛ شاب بلا حماية، ومهدد بفقدان كلبه. 

كل أحداث الفيلم، بما في ذلك لمحات من عالم صيد الكلاب، تدور حول سؤال مركزي: ما معنى أن يكون لك منفذ؟ في "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو"، يُصوَّر المنزل كشيء هشّ ويخضع لصراع شرس—فالحيّز المنزلي ليس خاصًا فقط، بل هو سياسي بامتياز.

لذا ليس من الغريب أن يُعرض الفيلم ضمن الدورة السادسة عشرة من مهرجان الفيلم العربي في برلين، الذي تحوّل إلى منفذ بدوره لعدد من مجتمعات المدينة العربية المتنوعة. يقدّم المهرجان مساحة لقصص غالبًا ما يتم تهميشها أو تجاهلها ضمن المشهد الثقافي الأوسع في برلين — سواء عبر أفلام وثائقية عن الحرب المستمرة في السودان أو فعاليات خاصة حول سجون سوريا المرعبة. 

لا يتردد المهرجان في اتخاذ مواقف سياسية واضحة، حتى في مناخ ألماني غالبًا ما يتعامل بعدم ارتياح أو بقمع مع أشكال التضامن مع فلسطين، على سبيل المثال.

مغمور بالحزن… والحشيش

إذا كان "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" متجذرًا في واقع قاسٍ يومي، فإن فيلم "معطر بالنعناع"، أول أفلام محمد حمدي، يبدو وكأنه شقيق روحي له من بُعد آخر. هو فيلم سريالي، وغامض، لكنه غارق بنفس القدر من الحزن. وجرى تصوير معظمه في الظلام، ويجري بإيقاع بطيء يشبه الحلم. ويبني حمدي عالمًا معلّقًا بين النوم واليقظة، بين الذاكرة والحاضر.

يتتبع الفيلم مجموعة من الشخصيات — معظمهم من الرجال — يقضون أيامهم في تدخين الحشيش، وتلاوة الشعر، والتجوال من مكان لآخر. لا نعلم بالضبط من هم، أو ما الرابط الذي يجمعهم، بل أحيانًا لا نعلم حتى إن كانوا أحياء أم أمواتًا. أشباح، أم مجرد بشر أثقلهم الفقد؟

Here you can access external content. Click to view.

تنكشف النزعة السريالية للفيلم بهدوء: تبدأ نبتة النعناع بالنمو من جسد أحد الرجال، تفصيل شعري يعطي الفيلم عنوانه. لا تفسير لذلك، لكنه يبدو طبيعيًا بطريقة ما. هذه هي قوة الفيلم: يذيب الحدود بين الواقعي والمتخيل، ويتركنا في مساحة يكون فيها كل شيء مألوفًا وغريبًا في آن واحد، حتى عندما يكون سرياليًا تمامًا.

عمل حمدي سابقًا كمدير تصوير، وهذا واضح في كل زواية تصوير بالفيلم، وتعامله المميز مع الظلال. وكما في فيلم منصور، لا يخشى حمدي من التصوير في الظلمة. "معطر بالنعناع" لا يقدّم إجابات حاسمة، ولا يتبع حبكة واضحة، لكنه يترك في النفس ما يكفي للتأمل لأيام بعد مشاهدته. كحلم لا تتذكره تمامًا، تبقى مشاهده وشخصياته المتشظية عالقة في الأذهان.

عائلة ممزقة

إذا كان الفيلمان السابقان يستكشفان الفقد والقمع من خلال عدسة الخيال، فإن فيلمًا ثالثًا مصريًا عُرض أيضًا في المهرجان يأخذنا إلى أحداث من التاريخ المعاصر. "أبو زعبل 89"، الوثائقي الذي أخرجه بسّام مرتضى، هو عمل شخصي وعاطفي للغاية، ويسعى فيه إلى فهم تاريخ عائلته والانقسام الذي سبّبه سجن والده، محمود، وتعذيبه عام 1989 بسبب نشاطه الاشتراكي، في سجن أبو زعبل الشهير.

يبدأ الفيلم كمحاولة تنقيب — من خلال تسجيلات صوتية قديمة، ولقطات أرشيفية، ومقابلات —، لكنه يتحوّل إلى بورتريه صامت ومؤلم عن ابن يحاول إعادة الاتصال بماضيه وبوالديه المنفصلين، اللذين غيّر السجن حياتهما إلى الأبد.

Here you can access external content. Click to view.

لا يعد سجن أبو زعبل مكان احتجاز فقط، بل يتحوّل إلى رمز، ولطالما عُرف هذا المعتقل بممارسات القمع والتعذيب. يُعيد مرتضى تركيب قصة سجن والده، وخروجه من مصر بعد الإفراج عنه، واستقراره في فيينا، أما والدته، التي بقيت في مصر، فهي تشكل المحور العاطفي للفيلم؛ هادئة، ومتماسكة، لكن ملامحها تشي بسنوات من الهجر والصمت.

كما في الفيلمين الآخرين، هناك سؤال أكبر يُطرح هنا: ماذا يفعل عنف الدولة بالناس؟ سواء عبر العجز الذي يعيشه بطل "البحث عن منفذ لخروج السيد رامبو" في مواجهة الإخلاء، أو الأشباح التائهة في "معطر بالنعناع"، أو العائلة الممزقة في "أبو زعبل 89"، تلامس كل قصة الآثار المستمرة للسلطة القمعية على الأجساد والعائلات والمستقبل الجماعي. يوسّع مرتضى أيضًا نظرة الفيلم لتتعدى والديه، محاورًا معتقلين سابقين وأبناءهم. ما ينتج هو خريطة أجيال — فسيفساء من الحيوات التي شكلتها الصدمة ذاتها بطرق مختلفة.

ورغم تركيز الفيلم على الماضي، إلا أن صداه لا يزال حاضرًا اليوم، من الصعب أن تشاهد مشاهد مرتضى ووالده محمود دون أن تستحضر الناشط المحبوس علاء عبد الفتاح وغيرهم من المعتقلين السياسيين في مصر وخارجها، ورغم أن الفيلم لا يذكرهم صراحة، فإنه في حوار دائم مع هذه القضايا، مذكرًا بأن التاريخ ليس شيئًا قد مضى، بل شيئًا يعاود الظهور، ويكرر نفسه.

قنطرة ©